28 أكتوبر, 2025

أحمد سليمان: «قتلوا حبيبي يا رفيقنا…»، قالت غزل.

تناولت «غزل» طنجرةَ المطبخ وراحَت تقرعُ عليها بغصنِ زيتون، ثم لوّحت أمُّكِ بمنديلها القرويّ، واستمرَّ الغناءُ الممزوجُ بالحسرةِ والدموع. غناءٌ يؤكّد مواصلةَ الطريقِ من أجل مستقبلِ البلادِ وأهلها الذين أنهكتهم حربٌ متوحِّشة. ما زلتُ أطربُ على وقعِ تلك الكلماتِ التي تُؤكّد البقاءَ والحريةَ.
(وما بنرحل أبداً يا منشارُ، وما بنرحل أبداً يا سمسارُ. لا براميلَ ولا نابالمَ ولا «صووايخ» أبو نص لسانِ. ما بنرحل أبداً يا سمسارُ.)

أذكرُ اهزوجتَك هذه؛ توليفُها القائمُ على لحنٍ ثائرٍ أحببتُ فيه بساطتَه وصوتهِ الهادرَ من بين حقولِ الفلاحين. كلماتُكِ تلك كانت تضيء عتمةَ الغرفةِ الصغيرةِ في وسطِ أشجارِ الزيتون، جعلتني للحظةٍ أشعرُ بأنني أجلسُ بينكم وأصفّقُ بيدي الناحلتين، وقد تساقطت دموعي محمّلةً بمزيجِ سنواتٍ من عذابٍ وخوفٍ وحنينٍ.

لا أستطيع وصفَ حزني العميق حين سمعتُ خبر مصيركَ الذي تعرّضتَ له. إنّه لأمرٌ مؤلمٌ سماعُ نبأِ تصفيتك ونكالَ جثّتك، وما يزيدُ الوجعَ أنَّك تركتَ وراءك حبيبةً وعائلةً وأصدقاءً محبّين.

كان يسعدك دوماً أن تتحدّث عن «غزل»؛ وعندما تلقيتَ منّي رسالتي العاشرة التي أبلغتكَ فيها خبراً سارّاً، رقصَ الفرحُ على وجهك. رأيتُ وجهك يشعُّ طمأنينةً وحبّاً؛ وفي تلك اللحظةِ اعتقدتُ أنّك ستخرجُ من شاشةِ اللابتوب لتحتضنني عناقَ الرفيقِ الغائبِ منذ سنين. ثم أمسكتَ بالهاتفِ ومررتَ شاشتَه قبالتي وطلبتَ مني أن أحملَ لفحةً حمراءَ ألوّحُ بها كما كنتم تفعلون في مشهدٍ جماعيٍّ راقصٍ؛ سررتُ كثيراً، خصوصاً حين رقصتَ أنتَ وغزلُ والأصدقاء. وقد لمحتُ صورتي الموضوعةَ في منتصفِ غرفتكَ؛ تأثرتُ لذلك لأنّكَ الوحيدُ الذي حافظَ على صوري وكتبي ورسومي الطفولية على الرغمِ من كلّ هذه الحرب الطاحنة التي ابتلعت أبناءَ البلد الواحد. كدتُ أختنقُ من غرابةِ المشهدِ وبراءةِ الأهلِ والأصدقاء ومن شدةِ الوحدةِ التي قتلتني.

لم أكن مهيّئًا لهذا الحزنِ؛ فلديَّ من الخرابِ الذاتي ما يكفي لأعوامٍ من الألم. لا أستطيعُ وصفَ أحزانِ محبّيكَ، ولا أحزانِنا جميعًا على فقدك؛ إنها فاجعةٌ كبرى، وخسارةٌ لا تُعوَّض.
كانت رحلتُك إلى الأبد مثقلةً بالظلمِ والوحشية. تذكّرتُ ما قلتهُ لي يومَ اتصلتُ بك لأخبركَ بفكرةٍ أعدّها صديقٌ من أجلك، يومها كان الفرحُ يملأ قلبكَ، ورأيتُ بريقَ عينيكَ يلمعُ كما لو أنكَ تلمسُ المستقبلَ بيديك. كنتَ متحمّسًا، مؤمنًا بأن الغدَ يمكن أن يكون أفضل.

علمتُ أنّك أوصيتَ حبيبتَك بأن تغادرَ بمفردها وتتابعَ حياتَها؛ كلماتُك هذه وصلتني بعد فترةٍ طويلة عبر إحدى وسائلِ التواصلِ التي تكاثرت وهُجِرت بعضُها. لكنني تلقيتُ رسالتكَ توّاً من مصدرٍ آخر، أي من «غزل» نفسها التي كنتَ تطربُ لسماعِ اسمها؛ وصلتني رسالتُكَ بعد قتلكَ يا رفيقي، وقد جاء الخبرُ في رسالةٍ ممزوجةٍ بعشقِك لغزل. عشقٌ تروي فيه غزلُها: «قتلوا حبيبي يا رفيقنا، هو الآن في البعيد». غزلُ التائهةُ تصرُّ بأن خبرَك مجردُ غيابٍ كيميائيّ، وأنك حاضرٌ معها، وأنها لن تغادرَ حتّى تعثرَ على قبرك.

لتوي أقارن رسالتَك التي لا تفارقُ مسمعي بتسجيلاتٍ أخرى دمجتها في برنامجٍ لتحليلِ الأصوات، كي أتأكَّدَ أنّ المحتوى حقيقيٌّ وأنّه صوتُك، فقد سمعته أيضًا في غرفةِ صوتٍ أخرى. شعرتُ بالاختناقِ وأنا أكررُ سماعَ صوتِك مرارًا لعلّي أستعيدكَ كما يُستعادُ ملفٌّ صوتيٌّ أو صورةٌ ضائعة. لعَلّي أستعيدكَ وتقفُ أمامي من لحمٍ ودمٍ؛ صوتُك الغاضبُ من أحوالِكَ وقلقُك، تطلبُ منّي أن أبذلَ كلَّ ما في وسعي للحفاظِ على لوحتِكَ الرائعةِ «غزل». وتكرّرُ طلبكَ من أجْلِ حمايتها، لأنّها ستكون وحيدةً خصوصًا بعدما قصفت الطائراتُ منزلَ أهلِها وماتوا جميعًا. كانت شجاعتُك أن تفكّرَ في سلامتها بدلاً من أن تفكّرَ في نفسك.

يا صديقي، كنتَ نموذجًا رائعًا للتضحية. كنتَ تسعى دائمًا للخيرِ للآخرين، حتى في ظلمةِ الظروفِ التي عشتَها. تشبهني لدرجةِ أنني بدأتُ أشكُّ بأنّنا اثنانُ من عائلتَينِ مختلفتَين. أفتقدُكَ يا صديقي الغاضب؛ أظنُّ أنّي سأعيشُ حزناً طويلاً وقاسياً بعد هذا الحدثِ المفجع. أصبحتُ متشائمًا بشأنَ الأيامِ المقبلة. كلُّ ما يدورُ في ذهني هو ذكرياتُ عاشقَين فرّقتْهما طواحينُ الموت في بلدي.

مع هذا النبأِ، تحوّلَ الأملُ الذي كنتُ أحملهُ بداخلي إلى خيبةٍ كبيرة. شعرتُ بأنني فشلتُ في حماية عاشقٍ وثائرٍ عظيم، وأنّ كلّ ما فعلتهُ لم يكن كافيًا لإنقاذه. وكان الألمُ الذي شعرتُ به عندما علمتُ بتعذيبهِ وقتلهِ مرهقًا للغاية.

أعلمُ أنّ الكتابةَ والقوانينَ والإداناتِ لا تُعيدُ المقتولين إلى الحياة، لكنها تُبقينا متمسّكين بالأهدافِ النبيلةِ التي ضحّى من أجلها أحبّاؤنا وغابوا فجأة. هكذا هي الحربُ: لا تختارُ ضحاياها، لكنها تدمرُ الأبرياء غالبًا.

About The Author

error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب