هل تصبح سوريا سنغافورة الشرق؟
فروقات الواقع الاجتماعي والسلوك السياسي

بالتوازي مع التحولات الاجتماعية والثقافية المتسارعة في سوريا، نشأت في الآونة الأخيرة مظاهر جديدة في المجال العام: سيارات دعوية فردية تجوب الشوارع، استخدام مكبرات الصوت لبث الأناشيد والتكبيرات قبيل الأعياد، والفصل الصارم بين الجنسين حتى في أماكن الزيارة التاريخية مثل الجامع الأموي. هذه الظواهر، التي يراها البعض تعبيرًا عن الهوية الدينية، يعتبرها آخرون أداءً دينيًا مبالغًا فيه يستحضر أجواء التنظيمات المتشددة التي عرفتها البلاد في فترات من النزاع.
في ظل هذه التحولات، تكرّر القيادة السورية عبارة: “نريد أن نكون مثل سنغافورة”. لكن، ماذا يعني ذلك فعليًا؟ وهل يمكن لتجربة مثل سنغافورة، بكل ما فيها من تعددية وانضباط مدني، أن تُطبَّق على بلد مثل سوريا؟ هذا التحقيق يفتح الباب لمقارنة الواقع السوري بطموح “النموذج السنغافوري”، مستعرضًا تجارب دول أخرى في إدارة التنوع الديني والعرقي.
● المكونات الدينية والقومية
1. السنّة
يشكّل السنّة الأغلبية السكانية في سوريا، وينتشرون في جميع المحافظات، مع تركّز ملحوظ في دمشق، حلب، حمص، حماة، دير الزور، إدلب، درعا، والرقة. تاريخيًا، كانوا في صلب الحياة الاقتصادية والسياسية، قبل أن يتراجع تمثيلهم بشكل واضح منذ وصول حافظ الأسد إلى الحكم ، حيث انتهج سياسة تهميش تدريجية، خصوصًا في المؤسستين الأمنية والعسكرية، لصالح أبناء طائفته.
مع اندلاع الثورة عام 2011، كانت المناطق ذات الغالبية السنية في طليعة الحراك السلمي، مما جعلها هدفًا لحملات القمع والعنف الممنهج تحت غطاء “مكافحة الإرهاب”. شملت هذه الحملات استخدام البراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية، إلى جانب استقدام ميليشيات طائفية من لبنان والعراق وإيران، ما أفضى إلى مجازر ذات طابع طائفي في مناطق مثل الحولة وداريا والقصير، ورافقها تهجير واسع النطاق وتدمير ممنهج للأحياء السنية.
2. المسيحيون
ينتمي المسيحيون في سوريا إلى طوائف عدّة: الأرثوذكس، الكاثوليك، والإنجيليون. كان لهم دور مركزي في النهضة الثقافية والسياسية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. يتمركزون في دمشق، حلب، حمص، وريف إدلب. رغم تراجع عددهم بفعل الهجرة منذ عام 2011، إلا أنهم حافظوا على مؤسساتهم الدينية والتعليمية، واستمروا في أداء دور اجتماعي مهم.
3. العلويون
فرع من الإسلام الشيعي، يتمركزون أساسًا في الساحل السوري، لا سيما طرطوس واللاذقية. منذ استلام حافظ الأسد الحكم، بات للعلويين نفوذ واسع في أجهزة الأمن والجيش، مما عزز مكانتهم السياسية. رغم الصورة النمطية عن دعمهم المطلق للنظام، إلا أن داخل الطائفة تيارات معارضة برزت، وعبّر بعض أبنائها عن رفضهم للزج بالطائفة في صراع دامٍ ضد باقي مكونات المجتمع.
4. الدروز
ينتمون إلى طائفة باطنية مستقلة، ويتمركزون في محافظة السويداء جنوب البلاد. عرفوا بتاريخهم النضالي، لا سيما ضد الاحتلال الفرنسي. مع اندلاع الثورة، انقسم موقفهم بين تيارات دعمت النظام لأسباب أمنية، وأخرى انخرطت في الحراك السلمي، مما أدى إلى بروز أصوات تطالب بإصلاحات ولامركزية أكبر.
5. الإسماعيليون والشيعة الاثنا عشريون
الإسماعيليون يتركزون في مدينة السلمية، وينتمون لمدرسة دينية خاصة ترتبط بمرجعية خارجية. يحافظون على تنظيم اجتماعي متماسك.
الشيعة الاثنا عشريون أقلية محدودة العدد، تتواجد في الفوعة وكفريا (ريف إدلب)، وحي السيدة زينب بدمشق، وأجزاء من حمص والقصير. ازداد نفوذهم مع تعاظم الدور الإيراني في سوريا بعد ثورة2011 .
● اليهود في سوريا
تُعد الطائفة اليهودية من أقدم الجماعات الدينية في البلاد، لكن وجودها تقلّص تدريجيًا منذ عام 1948، ثم تراجع بشكل شبه تام بعد نكسة 1967. تبقى أعداد ضئيلة منهم في حي الأمين بدمشق، مع حضور رمزي في الذاكرة السورية، خاصة في دمشق وحلب.
● القوميات في سوريا
الأكراد
يُعدّ الأكراد أكبر القوميات غير العربية في سوريا، ويتركزون بشكل رئيسي في شمال شرق البلاد. وقد انتقل أكثر من نصفهم للعيش في مناطق أخرى مثل حلب ودمشق، لا سيما في حي ركن الدين، إلى جانب موجات هجرة متزايدة إلى أوروبا، أبرزها إلى السويد وألمانيا، حيث يُقدّر عدد الأكراد السوريين في ألمانيا وحدها بحوالي 250 ألف شخص.
رغم المحاولات المتكررة لتعريبهم، خصوصًا خلال فترة حكم حزب البعث، حافظ الأكراد على لغتهم وثقافتهم وهويتهم القومية. وخلال الثورة السورية، انقسمت مواقفهم بين من تعاون مع النظام، ومن انخرط في صفوف المعارضة، بحسب تطورات الأوضاع السياسية والميدانية.
التركمان
هم أحد أقدم المكونات القومية غير العربية وأقلها تسليطًا للضوء في سوريا.
رغم تهميشهم لعقود، فإنهم يشكّلون جزءًا فاعلًا من النسيج الوطني السوري.
يعود وجودهم إلى أواخر القرن الحادي عشر، في عهد السلاجقة (1071)، وقد تعزز لاحقًا خلال الفترتين الأيوبية والعثمانية.
يتوزع التركمان في عدد من المناطق السورية، أبرزها ريف حلب، الساحل، حمص، الجولان، ودمشق، مع تركّز ملحوظ في جبل التركمان وشمال حلب.
يتميّز التركمان باندماجهم في المجتمعات السورية، مع حفاظهم على لغتهم وهويتهم الثقافية، وكان لهم دور وطني لافت في الثورة السورية منذ عام 2011.
الأرمن
هاجر الأرمن إلى سوريا في أعقاب المجازر العثمانية مطلع القرن العشرين. استقروا في حلب ودمشق واللاذقية، وشكّلوا مجتمعات قوية ثقافيًا ودينيًا. يتمسكون بلغتهم الأرمنية وهويتهم القومية، ويشاركون في الحياة العامة السورية.
● تنوع الهوية السورية: مصدر قوة أم مدخل للصراع؟
مثّل التنوع السوري لقرون مصدرًا للثراء الحضاري والتفاعل الثقافي. إلا أن محاولات فرض هوية مركزية أحادية، لا سيما خلال العقود الأخيرة، حولته في كثير من الأحيان إلى ساحة للصراع السياسي والاجتماعي.
● النموذج السنغافوري: إدارة التنوع بفاعلية
أولًا: التنوع السكاني
الأعراق: صينيون (74%)، ملايو (13%)، هنود (9%).
الأديان: بوذية، إسلام، مسيحية، هندوسية، طاوية.
ثانيًا: فلسفة الإدارة
الدولة محايدة دينيًا، ولا تسمح بتوظيف الدين في السياسة.
يُمنع استخدام الفضاء العام للدعوة الدينية دون تصريح.
تُطبّق القوانين على الجميع دون استثناء، مع وجود رقابة مؤسسية صارمة على الخطاب العام، بما يشمل الإعلام ومنصات التواصل.
ثالثًا: الأعياد والمناسبات
تعترف الدولة بالأعياد الدينية الأساسية لكل مكوّن، وتُعطّل المؤسسات الرسمية فيها.
لا تُفرض الطقوس الدينية الخاصة بمجموعة ما على المجموعات الأخرى.
● مقارنة بنماذج أخرى
ماليزيا: أغلبية مسلمة، تكفل حرية المعتقد، لكن مع امتيازات قانونية للإسلام.
تركيا: دولة علمانية رسميًا، لكن الدين حاضر بقوة في الحياة العامة.
لبنان: نظام محاصصة طائفية هش، يفتقر إلى جهاز ضبط موحد للفضاء العام.
العراق: التعددية ما بعد 2003 أفرزت حرية نسبية، لكنها رافقتها طائفية جديدة.
أفغانستان: فشل في إدارة التنوع، وهيمنة لرؤية دينية أحادية أقصت الآخرين.
● الجيش والأمن في سنغافورة: استقرار بلا قمع
من أبرز مقومات النموذج السنغافوري في الحكم:
الأجهزة الأمنية خاضعة لرقابة صارمة وتعمل ضمن أطر قانونية شفافة.
لا عسكرة للمجتمع، ولا انتشار عسكري ظاهر في الشوارع.
الجيش لا يتدخل في السياسة، ويُعتبر أداة دفاع وطنية بحتة.
التجنيد الإلزامي يشمل الجميع، ويُنظر إليه كخدمة وطنية، لا كوسيلة للهيمنة أو الإخضاع.
● هل يمكن تكرار النموذج السنغافوري في سوريا؟
لا يمكن استنساخ النموذج السنغافوري، نظرًا للفوارق التاريخية والديموغرافية والسياسية. لكن التجربة تقدم دروسًا قابلة للتطبيق في الحالة السورية، إذا توفرت الإرادة السياسية الصادقة، وشملت أبرزها:
-احترام التعددية الدينية والقومية.
-تحييد الدين عن الخطاب السياسي والمؤسسي.
-بناء دولة القانون، التي تطبّق العدالة على الجميع دون تمييز.
-إعادة تنظيم المجال العام ضمن إطار مدني منضبط، دون عسكرة أو تطييف.
وما لم تُفكك البُنى الأمنية الطائفية، ويُعاد بناء العقد الاجتماعي على أسس المواطنة والمساواة، فإن الطموحات ستظل حبيسة الشعارات، ولن تتحوّل إلى مشروع وطني قابل للتحقق.
تحقيق: أحمد سليمان
صادر عن نشطاء الرأي