العدالة الثالثة ومخاطر الاحتراب في المشهد الانتقالي السوري

في ظل غياب مؤسسات قضائية وطنية مستقلة، تتكشّف ملامح عدالة فالتة تُدار بضرورات المرحلة، تُبرّأ فيها شخصيات متورطة وتُغتال أخرى صمتت أو لم تُدان. هذه العدالة، أو ما يُمكن تسميته بـ”العدالة الثالثة”، لا تنتمي إلى الدولة المعاصرة ولا إلى الثورة، بل تُنذر بصراع جديد في قلب المشهد الانتقالي.
منذ أكثر من عقد، تناولتُ في إحدى المقالات الأولى مفاهيم العدالة كما تصوغها الجماعات المتطرفة، وقارنتُها بالنهج الدموي الذي اتبعه نظام بشار الأسد، حيث تحولت المجازر الممنهجة إلى بيئة خصبة لنشوء تطرفٍ أكثر تنظيماً ووحشية. حينها، حذّرت من صراعٍ مستقبلي لا تقوده الأطراف الكبرى، بل يُشعل فتيله الأفراد الذين ترعرعوا في كنف الفقد والانكسار، أبناء الذين قُتلوا أو اختفوا في غياهب السجون والمقابر الجماعية.
اليوم، وبعد كل هذا الزمن والتضحيات، نجد أنفسنا في لحظة انتقال سياسي وعدت بقيادة جديدة ودولة مختلفة. غير أن أبرز ما يثير القلق هو أن هذه الدولة الوليدة، رغم نواياها المُعلنة، قد أهملت منذ البداية تأسيس محاكم وطنية مستقلة وفعالة، قادرة على التعامل مع ملفات الجرائم والانتهاكات بمهنية وعدالة. هذا الغياب المؤسساتي فتح الباب أمام قرارات جزئية، في بعض الأحيان صادمة، أدّت إلى تبرئة شخصيات أمنية أو سياسية عُرفت بتورطها في جرائم ضد الإنسانية، تحت ذريعة تعاونها مع أطراف المعارضة المسلحة خلال فترة الصراع.
وقد وثّقت منظمات مثل هيومن رايتس ووتش والشبكة السورية لحقوق الإنسان عدداً من هذه الحالات، من بينها ملفات تتعلق بأشخاص شغلوا أدواراً في شبكات التعذيب أو شاركوا في حملات الحصار والتجويع، ثم أعيد دمجهم في المشهد الجديد دون مساءلة. في حين تُسجل أيضاً عمليات اغتيال غامضة أو تصفية ميدانية طالت شخصيات كانت قد حصلت سابقاً على ضمانات بعدم الملاحقة، بل وأشخاصاً لم تثبت مشاركتهم في أي انتهاكات ضد المدنيين. هذه المفارقة بين التبرئة والتصفية، في ظل غياب جهة قضائية ذات مصداقية، تجعلنا أمام مشهد لا يشبه العدالة بمعناها المتعارف عليه، بل يُنتج ما يمكن وصفه بـ”العدالة الفالتة”، عدالة تُفرض بالأمر الواقع، وتبرر نفسها بالضرورات السياسية أو الأمنية، دون أن تمر عبر قنوات قانونية واضحة وشرعية.
إن ما نعيشه اليوم لا يختلف كثيراً عن مآزق الماضي، إلا في الشكليات. وإذا استمر تجاهل بناء منظومة عدالة وطنية عادلة وشفافة، فإننا لا نخاطر فقط بفقدان ثقة الناس، بل نعيد إنتاج دورة الانتقام، ونمنح الجيل الجديد أسباباً إضافية لفقدان الإيمان بأي شكل من أشكال العدالة.
أحمد سليمان
صادر عن نشطاء الرأي