أحمد سليمانتقارير حقوقيةزملاء

في الطريق إلى سوريا: مع الدولة، وضد كل سُلطة تحتلّ المجتمع وتستبدّ به

لم تعد الأزمة في النسيج الوطني والاجتماعي السوري مجرد أزمة سياسية، بل تحوّلت إلى ظاهرة متنامية الخطورة، تُهدد القيم المشتركة لمن يؤمنون بدولة القانون والحريات والتعددية. بات النقد يُفسَّر كخيانة، والرأي المستقل يُزجّ بصاحبه في مرمى التشهير والتخوين.

  • حملات التشويه بقيادة “أنبياء المرحلة”

واجه كتّاب وناشطون حقوقيون موجات متكرّرة من التحريض والتهديد، لمجرّد التعبير عن مواقفهم أو مطالبتهم بمحاسبة عادلة للمنتهكين. وفي ظل هذا المشهد، تنشط جماعات متطرفة تُحوِّل العقيدة إلى سلاحٍ رمزي، وهم يعتقدون أنفسهم “أنبياء المرحلة”. تنسج هذه الجماعات حملات إلكترونية تعجّ بالبذاءة والتحريض، وتوظّف المنصّات الرقمية كمنابر لتفخيخ المجتمع تحت غطاء العقيدة، بينما هم في الحقيقة أبعد ما يكونون عنها.

ليسوا دعاة إصلاح، بل مُنتحلو قداسة يقودون معارك تزرع الكراهية والانقسام، وتستهدف الأصوات المستقلة التي تدعو إلى العدالة والمحاسبة. يُخلط فيها الإيمان بالتكفير، والنقد بالخيانة، في مشهد يختلط فيه الديني بالسياسي، يستبسلون بإسلام على طريقتهم، ويخوضون معركتهم باسمه، دون إدراك أنهم يُفخّخون المجتمع من الداخل، ويرسمون مستقبلًا ملوّثًا بالعنف المعنوي والرمزي.

  • الانتماء لا يُلغي التعايش

نشأتُ في بيتٍ لم يعرف الإقصاء، بل عايش التنوّع السوري كما عرفته العائلات التي جمعت بين أطياف متعددة. عرفتُ من تقاسموا الخبز والنضال، وكنتُ شاهدًا على مناضلين من خلفيات متباينة عارضوا النظام ودفعوا أثمانًا باهظة: من السجون إلى المنفى.

ورغم ذلك، لا يتورع بعض المعلّقين – شامتين، مشكّكين – عن الطعن في تاريخ عائلتي، وكأنّ دعوتي للتحرّر واحترامي للمكوّنات الأخرى لا يليقان بمقياس وعيهم، أو لا ينسجمان مع صورتهم الذهنية عن الانتماء.

  • جيل مشوّه… وثوار افتراضيون

ظهر جيل جديد، وللأسف يعاني بعضُه تشوّهًا في الفهم والتجربة؛ يعتاش على “القص واللصق”، ويعيد تدوير مقاطع مجتزأة يُوظّفها في سياق تحريضي فجّ. شباب بلا مساهمة فكرية أو نضالية، يزعمون أنهم “ثوار”، ويُطلقون تهديدات فارغة لا تستند إلى أي أساس قانوني أو أخلاقي.

  • سلطتا القمع: بين النظام والثورة

الخطورة الأعمق تكمن في طبقة من “المصفقين للسلطة”، يعيدون إنتاج أنماط التهليل التي خبرها السوريون تحت جرائم نظام الأسد الاستبدادي، لكن هذه المرة باسم “الثورة”. يتشدّقون بالعدالة نهارًا، ويمارسون القمع الفكري ليلًا، في تحالفات مكشوفة مع متشددين شكّلوا سلطة ظلّ جديدة.

هذا الخلط الغريب يُعيد إلى الأذهان تركيبة الحقبة الأسدية الساقطة، حيث استُخدمت خدمات الولاء كجسرٍ للوصول إلى الوظائف والنفوذ، وتمكين الأقرباء والأبناء تحت عباءة الدين أو الثورة.

  • المعارض السلمي ليس مجرمًا

لا يزال البعض يخلط بين من يُعبّر عن رأيه بمسؤولية، وبين من يرفع السلاح. وهذا الخلط وحده كفيل بتقويض ما تبقّى من حلم الدولة، ووأد كل مشروعٍ للخروج من دوّامة الاستبداد والتطرف.

  • شعب منقسم… وسلطة مزدوجة

بات السوريون اليوم منقسمين إلى فريقين:

  • فريقٌ يُصفّق للسُلطة الجديدة، متغاضيًا عن الانتهاكات
  • وفريقٌ آخر يرى فيها واجهة براقة تُخفي سلطة ظلّ متشددة

وفي كل مرة يُسأل المسؤولون عن هذا الواقع، يأتي الجواب: “تجاوزات فردية”. لكن تكرارها وتحولها إلى نمط ممنهج لا يترك مجالًا إلا لاحتمالين:

  • إما أن السُلطة مخترقة من جهات تسعى لتخريب المشروع الوطني
  • أو أنها شريكة فعلية في تمرير نموذج مزدوج: وجهٌ معتدل… وطبقة خفية متشددة
  • ما الذي نحتاجه؟

1.قوانين واضحة وصارمة تُجرّم خطاب الكراهية والتمييز الديني والطائفي

2. محاسبة علنية وشفافة، لا تدوير للمخالفين داخل مؤسسات أخرى بأسماء مختلفة

3. تطبيقات دستورية تحمي الحريات، وتكرّس حق التعبير كمرتكز سيادي لا يقبل التلاعب

4. تفعيل القضاء واستعادة الثقة

5. عدم تجاهل العدالة الانتقالية

إنّ تفعيل القضاء ليس مجرد خطوة إجرائية، بل هو إعلانٌ عن انطلاق مسارٍ جديد يُعيد الاعتبار لقيم الحق، ويكسر دائرة الإفلات من العقاب. العدالة الانتقالية ليست عدالة انتقامية، بل مسار إنساني وحقوقي يهدف إلى تضميد جراح المجتمع، وكشف الحقيقة، وضمان عدم تكرار الانتهاكات.

في ظل إرثٍ مثقل بالظلم والتهميش، يصبح القضاء المستقل ركيزةً أساسية لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة. والمسار نحو العدالة الانتقالية لا يكتمل إلا بالحوار، والانفتاح على الضحايا، وتمكين المؤسسات القادرة على قيادة هذا التحوّل التاريخي.

في ظل أزماتٍ تراكمت وعقودٍ من الانتهاكات، تبرز العدالة الانتقالية كمسارٍ أخلاقي وإنساني نحو طيّ صفحة الماضي دون نسيانه، واستشراف مستقبلٍ أكثر إنصافًا وكرامة. ليست العدالة الانتقالية حُكمًا يصدر، بل عملية متكاملة تستند إلى الحقيقة، والمحاسبة، وجبر الضرر، وضمان عدم التكرار.

نحن لا نسعى فقط إلى محاسبة، بل إلى مصالحة شاملة تستند إلى الاعتراف بالجرائم، وتمكين الضحايا، وإعادة الثقة بين المجتمع ومؤسساته. العدالة هنا ليست نهاية الطريق، بل بدايته.

  • الحلم السوري

سوريا التي نحلم بها ليست دولة بوجوه جديدة وأساليب قديمة، بل وطن يتّسع لجميع أبنائه، يكفل حرية الرأي والتنوع، ويُحاسب المسيئين بعدالة لا تعرف الانتقائية.

وإلّا، فإننا ببساطة نُعيد تدوير الكابوس ذاته… بديكور مختلف، لكن بروح العتمة القديمة.

  • هامش في ميدان الحقوق

منذ عام 2000، تعاونتُ مع عددٍ من المنظمات الحقوقية، ووثّقتُ انتهاكات عديدة، ونشرتُ عبر عدّة منصات، إلى جانب عملي المتواصل ضمن “نشطاء الرأي” منذ عام 2004. لديّ أكثر من 1920 مادة منشورة بين مقالات وتحقيقات، بالإضافة إلى مجلّد بعنوان “جدل الآن: إلى الألفية الثالثة في الانتقاد الفكري والسياسي، وقضايا الديمقراطية، القمع، الاستلاب، وعلاقة المثقف بالسلطة“، الذي يقارب 700 صفحة ويتضمّن حوارات مع مفكرين وسياسيين معارضين.

وقبل انطلاق الثورة بسنوات، أطلقتُ حملات دولية عبر منصة “الحوار المتمدن“، كان أبرزها: “مانفيستو استقِل: تحرك سلمي من أجل دحر أعرق دكتاتورية اغتصبت المجتمع والدولة” (بتاريخ 27 أيار/مايو 2006). كما شاركتُ، مثل كثيرين، في اعتصامات أمام السفارات السورية احتجاجًا على انتهاكات نظام الأسد. وكان ذلك في وقتٍ أصبح فيه بعض الذين لم تكن لهم مواقف علنية فجأة ثوارًا ورؤساء جمعيات، يستخدمون هذه الصفات كجواز سفر لتسوّل الأموال باسم تضحيات السوريين.

وقبل الثورة بسنوات، أطلقت حملات دولية عبر منصة “الحوار المتمدن”، أبرزها: مانفيستو استقِل: تحرك سلمي من أجل دحر أعرق دكتاتورية اغتصبت المجتمع والدولة (2006-05-27) وشاركت، مثل كثيرين، في اعتصامات احتجاجًا على نظام الأسد. ومع انطلاقة ثورة مارس 2011، تابعتُ أنشطتي، ورصدتُ التحولات على الأرض، داعمًا ومطالبًا بالحرية، ومساهمًا في تحرير الأخبار ونشرها.

لكنّ كل ذلك لم يُعفِني من حملات التشويه، في عيون من يرى النقد خيانة، والحقيقة مؤامرة.

أحمد سليمان

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق