6 أكتوبر, 2025

كونفِرانس الوعيِ المُستلبِ: بينَ الوطنيةِ الزائفةِ والانفصاليةِ المُقنَّعةِ

يقع المتابع المتخصص في الشأن السوري، والحقوقي، في حيرة كبيرة أمام هذا الكم الهائل من الانتفاخ والورم العقلي الذي يظهر جليًا عند مطلقي بيان سياسي من هذا النوع. اجتماع يُفترض أن يكون وطنيًا بامتياز، يجمع السوريين من كل منابتهم الثقافية، الفكرية، الدينية، الطائفية والقومية، يتحول إلى استعراض لغوي فارغ يعكس غياب أدوات فكرية حقيقية ومشروع وطني واضح.
ومنذ اللحظة الأولى، تكشف كلمة “كونفرانس” – وهي لفظ دخيل على العربية، يعود لأصول غربية (conference بالإنكليزية، conférence بالفرنسية) – عن عقدة نقص ثقافية مزمنة لدى الجهة الداعية. الافتقار لأبسط أدوات الانتماء اللغوي يؤكد أن الاجتماع، الذي يدّعي تمثيل السوريين كافة، يبدأ بمحاكاة سخيفة ومهينة، تعكس عدم قدرة الغالبية الناطقة بالعربية، والمترعّة بمنهجيات التعليم السوري، على التعبير بلغتهم الأم.
هذا الانفصام بين الهوية واللغة يكشف مدى الاستلاب الفكري والغريب الذي يعاني منه هؤلاء، حيث تتحول القضايا الوطنية المصيرية إلى مهرجان من الشعارات المستوردة، والعبارات الجوفاء، في حين تغيب الرؤية الحقيقية والالتزام العميق بوحدة الأرض والمجتمع.
1. العنوان والمسار الدعائي
عبارات مثل “مرحلة وطنية وحساسة” و”مسار وطني ديمقراطي جامع” ليست سوى ستار بلاغي يغطّي مشروعًا واضح المعالم: تثبيت “الإدارة الذاتية” ككيان سياسي منفصل، مع تسويقها على أنها الصيغة الوحيدة الممكنة لوحدة المجتمع، بينما هي في الجوهر خطوة مُمهدة للتقسيم.
2. إعادة كتابة التاريخ لخدمة مشروع انفصالي
يكرر البيان سردية “الاضطهاد التاريخي للمكوّنات”، محمّلًا “الأنظمة المركزية” – وبالأخص حقبة نظام الأسد –، وكأن الشعب السوري لم يتعرض لظلم وسجون وقتل وتشريد تخطّى كل المظلوميّات. كما تجاهل البيان حقيقة أن مشروع دولة سورية جديدة ما زال قيد التشكل، وأن الجهة الداعية، أي ميليشيا “قسد”، غارقة حتى أذنيها في الانتهاكات منذ بداية الثورة: من اعتقالات سياسية، إلى تهجير قسري، وتغيير للبنية السكانية بما يخدم مخططاتها.
3. تلميع مليشيا “قسد” عسكريًا وسياسيًا
عندما يصف البيان مليشيا “قسد” بأنها “نواة جيش وطني سوري جديد”، فإن المقصود ليس الجيش الوطني بل إعادة تأهيل ميليشيا محلية مرتبطة بأجندات خارجية، لتصبح “المؤسسة العسكرية” البديلة، وبالتالي ضمان شرعنتها دوليًا على حساب أي جيش وطني جامع.
4. الفخ اللغوي في مصطلح “اللامركزية”
كلمة “اللامركزية” تُطرح هنا كمطلب إداري ظاهريًا، لكنها في السياق السوري الحالي مجرد غطاء لمشروع حكم ذاتي بسلطات كاملة، تمهيدًا للانفصال الفعلي. الدليل هو إدراج عبارة “إعادة النظر في التقسيمات الإدارية بما يعكس الخصوصيات الثقافية والجغرافية”، وهي صياغة فضفاضة تُترجم على الأرض إلى حدود سياسية جديدة.
5. غياب الاعتراف بالمسؤولية الذاتية
البيان يطالب بتحقيق “عدالة انتقالية”، وهو مطلب وطني جامع، لكنه يتجاهل جرائم قسد نفسها في الجزيرة السورية، وكأن سجلها خالٍ من الانتهاكات. هذا التعمّد في إسقاط المسؤولية عن الذات ليس إلا عملية تبييض سياسي هدفها التهرب من المحاسبة.
6. تناقض شعار الوحدة مع الممارسة
رغم رفع شعار “وحدة سوريا”، فإن المرجعية السياسية التي يطرحها البيان هي اتفاقات فئوية (عبدي – الشرع، ووحدة الموقف الكردي)، لا تمثل إلا جزءًا ضيقًا من المشهد السوري، وكأننا أمام حكومتين: واحدة كردية وأخرى لشخصيات محددة، بلا أي تمثيل حقيقي لبقية المكونات.
7. الخطاب الموجَّه للخارج
البيان مُصاغ بعناية ليلتقطه الممولون الأجانب: الحديث عن الأقليات، وحقوق المرأة، والمجتمع المدني، والسلام الأهلي… كلها عناوين مطلوبة في تقارير الغرب، لكنها هنا خالية من أي التزام فعلي بالسيادة الوطنية أو وحدة الأرض، ما يجعل النص أقرب إلى رسالة دعائية موجهة للسفارات أكثر من كونه إعلانًا وطنيًا.
المختصر:
هذا البيان ليس سوى محاولة لتلميع مشروع تقسيمي مغلّف بشعارات الوطنية. يبدأ باغتراب لغوي في كلمة “كونفرانس”، وينتهي باغتراب سياسي عن سوريا كوطن واحد. يستغل قضايا حقيقية كالتهميش وحقوق الإنسان لتمرير أجندة انفصالية، ويتجاهل عمدًا دوره في تكريس الانقسام وإضعاف النسيج الوطني. “الوحدة” التي يتحدث عنها مجرد شعار فارغ، بينما المسار الفعلي يقود إلى تثبيت كيان موازٍ للدولة، مرتهن للخارج سياسيًا وأمنيًا.
أحمد سليمان

About The Author

error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب