أحمد سليمانتقارير حقوقيةمنظمة نشطاء الرأي

سوريا بين توازن النفوذ وتعثر السيادة: إدارة أزمة أم غياب حل؟

منذ اندلاع الأزمة السورية، تحولت البلاد إلى ساحة مفتوحة لتقاطع المصالح الإقليمية والدولية، حيث تداخلت حسابات القوى الكبرى مع رهانات اللاعبين المحليين. ومع الإطاحة بالنظام السابق في ديسمبر 2024، دخلت سوريا مرحلة جديدة من إعادة تشكيل النفوذ، لا تقل تعقيدًا عن سنوات الحرب، بل ربما أكثر غموضًا. وبينما تسعى القيادة الجديدة إلى استعادة السيادة الوطنية، تبقى خريطة النفوذ الخارجي هي العنصر الأكثر تأثيرًا في رسم مستقبل البلاد.

خارطة النفوذ: من إدارة الصراع إلى تثبيت المصالح

لم تعد سوريا ساحة حرب مفتوحة فحسب، بل تحولت إلى مسرح تفاهمات غير معلنة بين قوى إقليمية ودولية. فإيران، رغم تراجعها التكتيكي، لا تزال تحتفظ بوجود عسكري وأمني في الجنوب والشرق، بينما تعيد روسيا تموضعها في الشمال الشرقي، وتحتفظ بموطئ قدم استراتيجي في الساحل. أما تركيا، فتواصل تعزيز حضورها في الشمال، عبر دعم فصائل محلية وتثبيت واقع إداري موازٍ.

هذا التوازن لا يعكس استقرارًا، بل يكرّس حالة “اللاحسم”، حيث لا يملك أي طرف القدرة على فرض رؤيته الكاملة، لكن الجميع يملك أدوات التأثير والعرقلة.

إيران: تمدد عسكري في قلب الجغرافيا السورية

حتى منتصف عام 2025، حافظت إيران على شبكة واسعة من القواعد والنقاط العسكرية داخل سوريا، في محاولة لترسيخ نفوذها الإقليمي ودعم النظام السابق. وقد بلغ عدد مواقعها نحو 529 موقعًا، موزعة بين 52 قاعدة عسكرية و477 نقطة انتشار. وتمركزت هذه المواقع بشكل كثيف في حلب (117 موقعًا)، وريف دمشق (109)، ودير الزور (77)، وحمص (67)، إلى جانب انتشار أقل في محافظات حماة، إدلب، القنيطرة، اللاذقية، درعا، الرقة، السويداء، طرطوس، الحسكة، ودمشق العاصمة.

هذا التوزيع يعكس رغبة إيران في السيطرة على مفاصل النقل والإمداد، والاقتراب من الحدود الإسرائيلية، مما يفسر تصاعد وتيرة الغارات الجوية الإسرائيلية على هذه المواقع، إلى جانب الضغوط الدولية المتزايدة التي تطالب بتقليص هذا النفوذ. ورغم التحديات اللوجستية، فإن طهران لا تزال ترى في سوريا بوابة استراتيجية لا يمكن التخلي عنها بسهولة.

القيادة الجديدة: بين الطموح والواقع

مع سيطرة المعارضة على معظم المدن الكبرى، أعلنت القيادة السورية الجديدة مراجعة شاملة للوجود العسكري الأجنبي، بما في ذلك القواعد الإيرانية. هذه الخطوة، وإن بدت جريئة، تعكس رغبة في استعادة القرار الوطني وإنهاء حالة التبعية العسكرية التي طبعت المرحلة السابقة.

لكن هذه الطموحات تصطدم بجدار النفوذ الدولي، حيث لا تزال القوى الخارجية تتحكم في مفاصل الأمن والسياسة، وتعيد رسم الجغرافيا السورية بما يخدم مصالحها، لا مصالح السوريين.

روسيا وتركيا: إعادة تموضع لا انسحاب

روسيا، التي فقدت حليفها الرئيسي بسقوط النظام السابق، سارعت إلى تعزيز وجودها العسكري في مطار القامشلي وبعض المناطق الاستراتيجية، في محاولة لاستعادة دورها كلاعب رئيسي عبر شراكة أمنية مع القيادة الجديدة. أما تركيا، فقد واصلت تمركزها في الشمال، خصوصًا في إدلب وأجزاء من حلب والرقة، مركزة على مصالحها الأمنية على الحدود، بالتنسيق مع قوى محلية.

هذا التوازن بين القوى الثلاث – إيران، روسيا، تركيا – لا يعكس شراكة حقيقية، بل تنافسًا على النفوذ، يُدار في ظل ضعف الدولة السورية وغياب حكومة تشاركية قادرة على فرض السيادة أو بناء مشروع وطني جامع.

السيادة المعطّلة: بين الطموح الوطني والضغوط الخارجية

الحكومة الانتقالية، رغم إعلانها نية استعادة السيادة، تواجه تحديات جسيمة:

– مؤسسات الدولة لا تزال هشّة، تعاني من نقص الموارد وانعدام السيطرة على الحدود.
– القرار السياسي يُصاغ في ظل ضغوط دولية، لا في إطار عقد اجتماعي داخلي.
– القوى الوطنية لم تُدمج بعد في مشروع جامع، ما يضعف شرعية أي مسار سياسي.

وفي ظل هذا المشهد، تبدو الإدارة الحالية وكأنها تُدير الأزمة لا تحلّها، وتُراكم التفاهمات دون أن تُعيد بناء الدولة.

شراكة دولية مؤجلة:

في ظل هذا الواقع، تبدو فكرة “الشراكة الدولية لإعادة الإعمار” بعيدة المنال. فالقوى الدولية التي شاركت في الحرب، هي نفسها من يقود اليوم لعبة النفوذ، والدولة السورية لا تزال تفتقر إلى مؤسسات مستقلة، بينما لم تُظهر الحكومة الجديدة بعد انفتاحًا حقيقيًا على القوى الوطنية أو رغبة في بناء عقد اجتماعي جديد.

خلاصة: إدارة أزمة لا حلّ لها

ما يحدث اليوم في سوريا ليس حلًا للأزمة، بل إدارة لها. القوى الدولية تتقاسم النفوذ، والقيادة المحلية تحاول فرض السيادة وسط توازن هش. التغيير الحقيقي لن يحدث إلا إذا ظهرت إرادة داخلية لبناء دولة تشاركية، وتغيرت المعادلات الإقليمية والدولية لصالح الشعب السوري.

حتى ذلك الحين، تبقى سوريا ساحة مفتوحة على احتمالات متعددة، تتراوح بين إعادة التموضع، واستمرار الاستنزاف، أو انفجار جديد يعيد رسم الخريطة من جديد.

أحمد سليمان

صادر عن نشطاء الرأي

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، Opinion Activists

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق