أحمد سليمانتقارير حقوقيةمنظمات حقوقيةمنظمة نشطاء الرأي

بين جمهوريتين: برلمان ما بعد الحرب هل يمهّد الطريق لسوريا جديدة؟

خمسة عقود من الحكم الأسدي تركت سوريا دولة منهكة، تحكمها أجهزة أمنية وشبكات فساد متجذّرة. ومع هروب الطاغية بشار الأسد في ديسمبر 2024، لم يكن الحدث نهاية حقبة، بل بدا وكأنه انتقال سلس لإرث الاستبداد إلى سلطة جديدة ترتدي قناع التغيير. ومع بداية عام 2025، تبدو البلاد وكأنها تعيد إنتاج المأساة نفسها، بأسماء مختلفة ولباس جديد.

مجلس الموالاة: عقد وطني أم نسخة محسّنة من الاستبداد؟

منذ توليه الرئاسة الانتقالية في 29 يناير 2025، حاول أحمد الشرع رسم صورة لسلطة منفتحة سياسياً، لكن مبادراته اصطدمت بجدار الشكوك والانقسامات. أولى المؤشرات جاءت مع مؤتمر الحوار التشاوري في 24–25 فبراير 2025، الذي رُوّج له كمحطة لصياغة ملامح سوريا المقبلة. إلا أن المؤتمر افتقر إلى التمثيل الحقيقي، وغابت عنه القوى الفاعلة، بينما حضر المقرّبون ومن يدور في فلكهم، ما أعاد إنتاج نهج اختيار المعارضة بالتعيين لا بالانتخاب.

في الساحل… السلطة تكرّر

ففي 7 مارس 2025، شهدت اللاذقية وطرطوس توترات بين محاولة انقلابية وغضب شعبي ناجم عن قرارات أمنية اعتباطية وضغوط اقتصادية خانقة. كان رد فعل السلطة متداخلًا بين إدانة الأحداث وإرجاع المسؤولية لما أسمتهم بـ«المجموعات المتفلتة». وبغض النظر عن صياغة الموقف، لم يختلف الأسلوب عن نهج الأسد الأب والابن: قبضة أمنية صارمة بدل بناء الثقة، وتجاهل للمطالب الشعبية المتراكمة.

السويداء ورواسب الأسدية

في يوليو، انفجرت احتجاجات واسعة في السويداء، وطالت مطالب قديمة للمكوّن الدرزي قوبلت بتجاهل وصدام مباشر. لاحقًا شهدت المنطقة اشتباكات عنيفة مع سكان البدو أدت إلى خسائر في الأرواح ونزوح مئات العوائل خارج السويداء. استغل بعض الطامحين الوضع لدفع الجنوب نحو الانفصال، في سياق حكومة ظل لم تتعلّم شيئاً من عقود التهميش الطائفي والسياسي.

بين معاقبة الجزيرة وخنق التنوع السوري

ما يحصل اليوم من تراجع الخدمات والقفر التنموي في الجزيرة السورية هو عقاب غير معلن، يرتبط بحالة “قسد” كميليشيا تسيطر على أرض سورية وتستمد قراراتها من قيادات خارجية، وتسعى لانتزاع دور مميّز داخل الحكومة يمهّد لاحقًا لفرض إدارة شبه مستقلة. هذا الواقع يجعلها غير قادرة على الاندماج في مشروع وطني جامع، وفي الوقت نفسه غير مؤهلة لطرح بديل سياسي يضمن حقوق سكان المنطقة. وهكذا تتحول الجزيرة إلى ساحة استنزاف شبيهة بما حدث في الساحل قبل عقود، وإلى ورقة مساومة مثلما يجري في السويداء اليوم.

الوجوه نفسها تعود من الباب الخلفي

الاستحقاق الأكبر الآن هو تشكيل مجلس الشعب لعام 2025، المؤلف من 210 مقاعد، 70 منها بيد الرئيس مباشرة، والباقي عبر هيئات انتقائية لا تمثل إرادة الشعب. ويخشى مراقبون استمرار شبكات النفوذ التي ربطت سوريا لعقود بإيران وروسيا، وأعادت إنتاج منظومة الولاء والصفقات.
وحتى هذا المجلس، الذي يُفترض أن يكون عنواناً للتمثيل الوطني، لم يسلم من منطق الإقصاء. فقد أُعلن رسمياً إرجاء الانتخابات في السويداء والرقة والحسكة “لحين توفر الظروف الأمنية المناسبة”، وكأن التهميش صار بنداً دستورياً. المقاعد محفوظة، نعم، لكن الصوت مؤجل، والقرار مصادَر، والرسالة واضحة: بعض المناطق تُستثنى من الوطن حين لا تُناسب السلطة.

ملاحظات من الداخل: بين الخوف والتهميش

رغم الحديث الرسمي عن الانفتاح السياسي، تشير ملاحظات من نشطاء ومراقبين إلى أن البرلمان الجديد يقفز فوق أولويات حيوية، أبرزها الملفات الأمنية. فلا نتائج واضحة للاعتقالات بحق مجرمي الحرب، ولا مذكرات استدعاء لمن تورطوا في أحداث الساحل والسويداء. ورغم إعلان السلطات أنها “ستحاسب الجميع”، يبقى السؤال معلّقًا: أين؟ كيف؟ ومتى؟
كما لم تُتخذ أي خطوات فعلية لتجريم خطاب الكراهية أو الحد من تدخلات ما يُعرف بـ”الحرس السري”—وهم خليط من أفراد أمن وواجهات مدنية يتدخلون في خصوصيات المواطنين. هذا الواقع خلق مخاوف لدى المعارضين من إعلان أنفسهم، خصوصًا بعد استهداف بعض الشخصيات الثورية العائدة إلى الوطن.
ويؤكد مراقبون أن نجاح البرلمان سيكون مرهونًا بوضع سياسات جديدة، أبرزها إعادة تشكيل الحكومة على أسس مدنية تشاركية، وتأسيس عقد اجتماعي جديد يضمن مشاركة كل المكونات السورية دون إقصاء أو وصاية أمنية.

تفكيك المشهد: كيف تُدار انتخابات 2025؟

الانتخابات تجري في 15–20 سبتمبر هذا العام في سياق سياسي بالغ التعقيد. وفق نظام انتخابي غير مباشر. فالبلاد تقف بين إرث سلطوي ممتد لعقود ومحاولات متعثرة لتأسيس حكومة انتقالية تلبي تطلعات السوريين إلى الديمقراطية والمساءلة. ورغم الإعلان الرسمي من القيادة الجديدة عن فتح باب الترشح لجميع الفئات، يبقى السؤال حول مدى جدّية هذا الانفتاح، ومدى قدرة المجلس القادم على تحقيق تمثيل حقيقي في ظل استمرار نفوذ شبكات حزب البعث السابق.
ما زالت غالبية المرشحين من بقايا البعث أو من أحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية” القديمة التي أعيد تدويرها، وهو ما يعكس استمرار الهيمنة السياسية بأدوات جديدة. الأجهزة الأمنية، وإن تراجعت سلطتها العلنية، ما زالت تؤدي دورًا مؤثرًا في تحديد الأسماء، سواء بالقبول أو الاستبعاد غير المعلن. ورغم فتح باب الترشح على الورق، تواجه الشخصيات المعارضة أو المستقلة عراقيل حقيقية، تشمل الاستبعاد الإداري أو التضييق الميداني.
أما تمثيل النساء والشباب، فقد أعلنت الحكومة الانتقالية عن نيتها رفع النسبة إلى نحو 30% بدلًا من 20%، لكن معظم المرشحات يأتين من دوائر موالية للسلطة الجديدة، ما يجعل حضورهن أقرب إلى واجهة تجميلية منه إلى مشاركة فاعلة. وبالنسبة للشباب، فإن غياب الأطر الطلابية المستقلة بعد تفكيك الاتحادات القديمة جعل الاختيار محصورًا في الأسماء المقرّبة من مراكز النفوذ، وهو ما يكرّس تمثيلًا شكليًا يخضع للانتقائية بدل أن يعكس مشاركة حقيقية.
ورغم تكرار الحديث عن حكومة انتقالية كجزء من العملية السياسية برعاية دولية، تُجرى انتخابات 2025 وفق قواعد لم تتغير جذريًا. وبرغم الانهيار الشكلي لحزب البعث المُنحل، لا تزال شبكاته النافذة تسعى لترسيخ حضورها في أي تسوية مرتقبة عبر ضمان أغلبية موالية داخل المجلس التشريعي. ويُخشى أن يتحول المجلس المقبل إلى أداة لإضفاء شرعية شكلية على الحكومة الانتقالية من دون المساس بجوهر البنية السلطوية القائمة.

ملخص: بين التدوير والتغيير: أي جمهورية تنتظر سوريا؟

ما يجري اليوم لا يُبشّر بولادة جمهورية جديدة، بل يبدو أقرب إلى إعادة تغليف لنهج الطغمة الأسدية، بوجوه جديدة وشعارات مكرّرة. وإذا استمرت سياسة الإقصاء واحتكار المؤسسات، فستولد جمهورية ثانية على صورة الأولى: دولة تحكمها الأجهزة الأمنية، وتُدار بمنطق الولاء لا الكفاءة، وتُقصي من لا يُناسبها.
سوريا لا تحتاج إلى مكياج سياسي، بل إلى ثورة في أسلوب الحكم. إلى انتخابات عامة حقيقية، وإشراك كل السوريين داخل البلاد وخارجها، وضمان استقلال المؤسسات التشريعية عن أي وصاية تنفيذية أو أمنية.
في هذا السياق، قد يتحول المجلس القادم إلى بوابة عبور نحو سوريا جديدة، إذا ما كُسرت حلقات الإقصاء وتم إشراك الجميع في صياغة المستقبل. أما إذا استُخدم كواجهة شكلية لتجميل الاستبداد، فسيكون مجرد فصل جديد في سردية قديمة، يُعاد تمثيلها على أنقاض الجمهورية الأولى، بنفس المنظومة وإن تغيّرت الوجوه.

أحمد سليمان
● صادر عن نشطاء الرأي
رابط الملف:

بين جمهوريتين: برلمان ما بعد الحرب هل يمهّد الطريق لسوريا جديدة؟

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، Opinion Activists

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق