قضية عادلة تحتاج إلى عقل بارد وصوت جريء
في قلب ضاحية دمشق، بين المزة والمعضمية، تتفجّر قضية السومرية كجرح مفتوح في ملف الملكيات العقارية السورية. الأهالي الأصليون يتمسّكون بسندات ملكية (طابو) تثبت أحقيتهم بأراضيهم التي استُملكت منذ عقود تحت ذرائع فضفاضة مثل “النفع العام”، بينما يعيش اليوم فوق هذه الأراضي آلاف السكان – وبعضهم الآخر من المدنيين اشتروا منازلهم بعقود نظامية ومسجلة رسميًا، دون اطلاع مسبق على الخلفية القانونية أو النزاع القائم حول ملكية الأرض.
هذه القضية ليست نزاعًا عقاريًا بسيطًا؛ إنها صراع بين الحق التاريخي والحق الإنساني بالحياة. فإعادة الأرض إلى أصحابها أمر لا جدال فيه من حيث المبدأ والعدالة، لكن تهديد السكان الحاليين بالإخلاء الفوري سيحوّل المظلمة القديمة إلى مأساة جديدة ويضع مؤسسات الدولة أمام إدانة محلية ودولية.
أولًا: مفهوم “النفع العام” وسياقه التاريخي
منذ السبعينيات، استخدمت السلطات السورية ذرائع “النفع العام” أو “الخدمة العسكرية” لاستملاء الأراضي الزراعية والعقارية. يفترض القانون أن النفع العام يعني إنشاء مرافق تخدم المجتمع ككل (طرق، مدارس، مستشفيات)، لكن في كثير من الحالات جرى استخدام هذا المفهوم بشكل فضفاض لتبرير استيلاك الدولة على الأراضي دون تقديم تعويض عادل أو بدائل سكنية لأصحابها.
في حالة السومرية، صدرت قرارات استملاك ومحاكمات غامضة لا يعرف الأهالي تفاصيلها، بينما بقيت سندات الملكية الأصلية بحوزة الملاك. هذه الأراضي وُزعت أو بِيعت لاحقًا كمساكن لعائلات الجيش والأمن، ما أضاف بعدًا سياسيًا وطائفيًا إلى النزاع العقاري.
ثانيًا: كيف بدأت المشكلة؟
منذ عقود، شُيّدت أبنية سكنية في منطقة السومرية، بعضها مُنح رسميًا لعائلات ضباط في الجيش والأجهزة الأمنية، والبعض الآخر بيع لاحقًا لمواطنين مدنيين خارج المنظومة السلطوية، بعقود نظامية ومسجلة. ومع تغير المشهد السياسي في البلاد بعد سقوط النظام الأسدي وتولي قيادة جديدة، بدأت المطالبات بالحقوق العقارية تظهر إلى السطح، وبرزت دعوات من الملاك الأصليين لاستعادة أراضيهم المستملكة.
في الأيام الأخيرة، أبلغت السلطات السكان بضرورة إخلاء منازلهم خلال مهلة لا تتجاوز ثلاثة أيام، ما أثار موجة من الاعتراضات والاحتجاجات. وشهدت المنطقة توترات أمنية متصاعدة شملت إخطارات بالإخلاء الفوري، مداهمات، واعتقالات، الأمر الذي دفع كثيرين إلى اعتبار ما يجري محاولة تهجير قسري مغلّفة بغطاء قانوني.
تدخّل رسمي من مستويات عليا أوقف موجة الإخلاء مؤقتًا وفتح باب المفاوضات خلف الكواليس، لكن القضية بقيت معلّقة بين ملفات القضاء ومكاتب الأمن، دون حل جذري يضمن الحقوق ويمنع التصعيد.
ثالثًا: العقدة القانونية والإنسانية
- قانونيًا: معظم الاستملاكات حصلت بقرارات يصعب الطعن فيها بسبب الغموض أو ضياع الوثائق الرسمية، رغم أنّ الطابو الفردي ما زال بيد بعض المالكين.
- إنسانيًا: ليس كل المقيمين حاليًا منتفعين من النظام، وهناك من اشترى منزله بعقد بيع عادي ودفع مدخرات حياته.
- سياسيًا: استمرار التهديدات دون حل واضح يضع الحكومة أمام اتهامات بانتهاك الملكية الخاصة والتغيير الديموغرافي القسري.
رابعًا: ما هو الحل العادل؟
- رد الحقوق لأصحابها الشرعيين: أي مالك يحمل سند ملكية يجب أن تُرد له أرضه أو يُعوّض عنها تعويضًا كاملاً.
- توفير بدائل سكنية للمقيمين الحاليين: قبل أي إخلاء، يجب أن تُعرض مساكن بديلة أو تعويضات عادلة حتى لا تُرمى العائلات في الشارع.
- تشكيل لجنة قضائية مستقلة: تضم خبراء عقاريين، قضاة مستقلين، وممثلين عن السكان الأصليين والحاليين، لضبط الملفات بعيدًا عن نفوذ الأمن والوساطات.
- وقف أي تهديد أو استخدام للعنف: الحل بالقانون والمؤسسات، لا بالقوة. أي مداهمة أو هجوم سيحوّل القضية إلى فضيحة علنية.
- تعويض مزدوج عند اللزوم: في حال تعارضت ملكية المالك الأصلي مع إقامة أسر بريئة، يجب تعويض الطرفين عبر صندوق حكومي خاص.
خامسًا: لماذا يجب أن تتدخل الدولة بمسؤولية؟
إذا تُركت القضية بيد الأجهزة الأمنية أو الوسطاء النافذين، فستتكرّر دورة الظلم:
- أصحاب الأرض لن ينالوا حقهم.
- السكان الحاليون سيتعرضون للتهجير القسري.
- ستنهار الثقة بالمؤسسات وتظهر صورة الدولة كسلطة تُعاقب المدنيين بدل أن تحل مشكلاتهم.
أما إذا عالجت الدولة القضية عبر المؤسسات القضائية والبلدية الشفافة، فإنها ستثبت أن القانون فوق الجميع، وستغلق باب النزاعات الطائفية أو الأمنية التي قد تتفجر في أي لحظة.
خاتمة: صوت العدالة والكرامة
قضية السومرية اختبار جديد لعدالة الدولة في سوريا. على الحكومة أن تُثبت أن حق المواطن بالأرض والسكن مصون. على الأهالي أن يتمسّكوا بسنداتهم ووثائقهم وأن يطالبوا بحقوقهم علنًا. على الرأي العام أن يقف ضد أي حل يقوم على العنف أو التهديد.
العدالة لا تعني طرد عائلة من بيتها بالقوة، ولا تعني أيضًا ترك أصحاب الطابو يصرخون بلا مجيب. العدالة تعني: رد الحقوق، حماية الكرامة، وإيجاد حل شفاف يحترم الجميع.
إعداد وتقديم: أحمد سليمان
صادر عن نشطاء الرأي
المزيد من المواضيع
الحاكمية الظرفية والاختلاف الجمهوري
قبل أول انتخابات بعد سقوط الأسد: لجنة التحقيق الدولية تبدأ عملها وسط ترقب لتغيير حكومي محتمل
على أمل اتفاق سلام وشيك في غزة/ اتفاق 21 نقطة لإنهاء الحرب وبداية طريق السلام