6 أكتوبر, 2025

السلطة في قبضة الفساد وتزييف الألقاب الأممية

  • حين يُقدَّم حدث زائف بغطاء رسمي وأممي، يصبح الفساد نفسه جزءًا من “الإنجاز الوطني

  • شخصيات تمنح نفسها ألقابًا، ثم حضور رسمي يضفي ختم الدولة

تتكاثر الأقنعة وتزدحم الشعارات، وتُغرق العروض المسرحية المشهد العام في محاولات يائسة لتجميل واقع سياسي مأزوم. ما نشهده اليوم في سوريا ليس سوى إعادة إنتاج لنسخة باهتة من عبثٍ قديم: حكومة تمارس مراهقتها السياسية تحت غطاء دولي شكلي، مدعومة بجوقة من المنتفعين، وجيل جديد يتقن فنون التوريث السياسي والفساد كما لو كانت إرثًا وطنيًا.

هذه البنية الهشة لم تكتف بإقصاء الكفاءات والخبراء، بل راحت تنفث الغبار عن أدوات الجاهلية لتجعلها عنوان المرحلة. فاستُبدلت المعايير بالمحسوبيات، وتحوّل الولاء الشخصي إلى بوابة النفوذ، ما أفرز منذ الشهور الأولى لتشكيلها ظواهر فساد متجددة تتغذى على التكرار والتزييف.

ومن رحم هذا المناخ المشبع بالزيف، خرجت فضيحة “التكريم الأممي” في دمشق. حفل صاخب يتغنى بالسلام والإنسانية، بينما جوهره لا يعدو كونه شبكة مصالح شخصية: مؤسسة تكرّم رئيستها، نقابة تبارك عبر روابط عائلية، راعٍ وهمي لا وجود له خارج حساب فيسبوك، ومخرج يمنح نفسه درع السلام باسم الأمم المتحدة. وزيرة تحضر لتمنح الغطاء الرسمي، وسفير مزعوم يوزّع الألقاب كما لو كانت شهادات ميلاد.

نحن أمام شبكة متداخلة:

الفنانة منى واصف، بعد تاريخ طويل من العطاء في الدراما السورية، نجدها اليوم في موقعين متقابلين: مكرِّمة ومكرَّمة، وذلك عبر مؤسسة تحمل اسم “أصدقاء سوريا في اليابان والعالم”. إلى جانبها لبنى بشارة، نائبتها في المؤسسة، التي ترتبط مباشرة بسيمون الخوري، أمين سر نقابة الفنانين، ما يفسّر سرعة النقابة في إضفاء “شرعية مهنية” على الحدث.

فيصل بني المرجة، المخرج الذي يقف خلف الراعي الوهمي “شاين”، يعلن الخبر ثم يصعد بنفسه ليتسلّم درع السلام، بينما يحيى الجميل يتقمّص صفة “سفير الأمم المتحدة”، مستندًا إلى منظمة واهية تُعرف ببيع الألقاب.

أما في صدارة المشهد، فتظهر وزيرة الشؤون الاجتماعية هند قبوات، ليحوّل الحضور الرسمي العبث إلى سياسة.

آلية إعادة إنتاج السلطة:

هذه الشبكات لا تعمل فقط على تمرير حدث أو صناعة صورة إعلامية، بل تؤدي وظيفة أعمق:  

– إحكام السيطرة على المجال العام: عبر احتكار الرموز والشعارات، بحيث لا يبقى مجال لجهات مستقلة أو مبادرات حقيقية.  

– تدوير النخب الموالية: نفس الأسماء تتنقل بين مواقع مختلفة، ما يضمن بقاء السلطة داخل دائرة الولاء الشخصي.  

– إضفاء الشرعية على الفساد: حين يُقدَّم حدث زائف بغطاء رسمي وأممي، يصبح الفساد نفسه جزءًا من “الإنجاز الوطني”.  

– إضعاف البدائل: كلما امتلأت الساحة بواجهات وهمية، تضاءلت فرص بروز مبادرات نزيهة، لأن الجمهور يختلط عليه الحقيقي بالمصطنع.  

– تطبيع الزيف: تكرار هذه المشاهد يجعل الجمهور يتعامل مع المحسوبيات والجوائز الوهمية كأمر عادي، ما يرسخ ثقافة القبول بالفساد.  

شبكة تدوير الفساد:

  1. البذرة – الفكرة المصلحية: تبدأ من شخص أو مجموعة تبحث عن مكسب شخصي تحت غطاء “عمل إنساني” أو “ثقافي”.  
  2. تشكيل الواجهة المؤسسية: إنشاء كيان باسم دولي أو وطني، مع شخصيات رمزية لإضفاء المصداقية.  
  3. تفعيل شبكة العلاقات: استدعاء أقارب أو شركاء من مواقع مؤثرة لتبادل الشرعية الشكلية.  
  4. اختراع الراعي الدولي: استحضار منظمة وهمية أو تضخيم جهة صغيرة لتبدو عالمية.  
  5. تنظيم الحدث المسرحي: إقامة حفل أو مؤتمر مع تغطية إعلامية وتوزيع ألقاب داخلية.  
  6. إضفاء الختم الرسمي: حضور مسؤول حكومي يمنح “شرعية الدولة”.  
  7. إعادة التدوير: نفس الأسماء تنتقل من حدث لآخر مع تغيير الشعار أو المناسبة.  

النتائج المترتبة: من التزييف إلى التطبيع

ما يحدث ليس مجرد عبث عابر أو مشهد احتفالي زائف، بل هو عملية ممنهجة لإعادة تشكيل الوعي العام وفق منطق الزيف. هذه الممارسات تترك آثارًا عميقة على بنية المجتمع والسياسة، منها:

– خلق دائرة مغلقة من الشرعية المتبادلة تمنع دخول أي جهة مستقلة أو معيار موضوعي، ما يُحوّل المجال العام إلى نادٍ مغلق لا يُسمح فيه إلا لمن يحمل ختم الولاء.  

– تحويل الفساد إلى ممارسة طبيعية ومقبولة اجتماعيًا، حيث تتكرر مشاهد التكريم الوهمي حتى تصبح جزءًا من الثقافة اليومية، ويُنظر إلى الجوائز والمحسوبيات كأمر واقع.  

– ترسيخ سلطة قائمة على الولاء الشخصي بدل الكفاءة أو النزاهة، ما يُضعف مؤسسات الدولة ويُفرغها من مضمونها المهني.  

– إضعاف البدائل النزيهة، إذ تُغرق الساحة بواجهات وهمية تُزاحم المبادرات الحقيقية، وتُربك الجمهور بين الزائف والأصيل.  

– تطبيع الزيف الإعلامي والسياسي، بحيث تتحول أدوات التعبير إلى أبواق، والمجتمع إلى جمهور في مسرحية بلا نص، يُصفّق لما يُعرض عليه دون أن يملك حق السؤال أو الاعتراض.  

إضافات تحليلية مكملة:

الزيف كأداة للسلطة الناعمة

في ظل غياب الإنجاز الحقيقي، تتحول أدوات الزيف إلى وسيلة لتصنيع سلطة ناعمة زائفة، تُصدّر صورة احتفالية للخارج وتُخدّر الداخل بشعارات فارغة.

دور الإعلام في إعادة إنتاج الزيف

الإعلام، بدلًا من أن يكون سلطة رقابية، يتحول إلى شريك في المسرحية، يُضفي هالة على التكريمات الزائفة ويُقصي الأصوات المستقلة، ما يعمّق أزمة الوعي العام.

نمط إقليمي متكرر

ما يحدث في دمشق ليس استثناءً، بل هو جزء من نمط إقليمي تتكرر فيه مشاهد التكريمات الوهمية، وتُدار فيه الثقافة كأداة للولاء لا للإبداع.

دعوة للتوثيق والمساءلة

إن توثيق هذه الممارسات ومساءلة المتورطين فيها هو الخطوة الأولى نحو استعادة المجال العام من قبضة الزيف، وإعادة الاعتبار للمعايير المهنية والإنسانية.

كلمة أخيرة:

ما لم يُكسر هذا النمط، سيبقى المجال العام رهينة لدوائر الزيف، وسيُعاد إنتاج السلطة كما يُعاد إنتاج المسرحية، بلا نص، بلا جمهور واعٍ، وبلا أمل حقيقي في التغيير.

أحمد سليمان  

صادر عن نشطاء الرأي

About The Author

error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب