تدخل سوريا اليوم مرحلة مفصلية تُوصف بـ”المخاض السياسي والأمني”، حيث تتشابك الملفات الداخلية مع التوازنات الإقليمية والدولية على نحو غير مسبوق. فالبلاد الخارجة من حرب مدمّرة وانقسامات حادة تجد نفسها أمام أسئلة جوهرية تتعلق ببنيتها الوطنية وحدود علاقاتها مع القوى الكبرى مثل تركيا، روسيا، والولايات المتحدة، إلى جانب التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة ومشاريعها التوسعية.
في الداخل، تتفاقم النزاعات المفتوحة التي تمسّ جوهر الدولة السورية. ففي الجزيرة السورية، تتجسد حالة الاحتلال غير المباشر عبر ميليشيا “قسد”، التي تُدار من قبل قيادات انفصالية معظمهم من تركيا وإيران والعراق، ما يستدعي من دمشق الجديدة صياغة سياسة واضحة توازن بين ضرورات التفاوض وواقع الاحتلال. أما السويداء، فتمثل حالة خاصة، تتحرك بين كونها نقطة ساخنة من جهة، وارتباطها العضوي بالعمق الوطني من جهة أخرى. وفي المقابل، تبقى إدلب شبه معزولة، تُدار بالطريقة ذاتها التي سبقت سقوط نظام الأسد الإجرامي، دون أي تجديد حقيقي في الرؤية أو الإدارة.
في هذا السياق، تبرز تصريحات بعض القادة الإسرائيليين حول مفهوم “إسرائيل الكبرى”، بما يعكس مسارًا تصعيديًا في السياسات الإقليمية، ويضع الجنوب السوري برمّته في دائرة الخطر. هذه التطورات تؤكد أن المسألة لم تعد بحثًا عن حلول مؤقتة، بل عن رؤية وطنية بعيدة المدى تحفظ وحدة البلاد وأمنها الإقليمي.
أولًا: إسرائيل الكبرى وأدواتها
يُعاد طرح مفهوم “إسرائيل الكبرى” في التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بما يعكس رغبة في إعادة تعريف المجال الحيوي لإسرائيل، ليس فقط عبر ضم الأراضي الفلسطينية، بل أيضًا عبر فرض واقع أمني يضع الجوار الإقليمي، خصوصًا الجنوب السوري، تحت نفوذ دائم.
السويداء ودرعا تُطرحان في هذا السياق كنقاط تماس مباشرة مع احتمالات التمدد أو التصعيد. وفي حال استمرار التوتر، تبقى احتمالية تهجير السكان من درعا واردة، إما نحو الداخل السوري أو باتجاه الأردن، ما يفتح الباب أمام أزمة إنسانية وسياسية جديدة. وهنا يصبح الحديث عن “إسرائيل الكبرى” ليس مجرد شعار، بل مشروعًا ذا أدوات ضغط مباشرة على وحدة سوريا واستقرارها.
ثانيًا: ملاحظات على السياسة السورية
تُظهر السياسة السورية الراهنة تعقيدات داخلية وإقليمية تتطلب مراجعة جذرية في النهج المتّبع:
– الجزيرة السورية: تبرز الحاجة إلى إعادة صياغة العلاقة مع الأميركيين، عبر فصل مسار التفاوض عن واقع الاحتلال الذي تمثله ميليشيا “قسد”، المُدارة من قبل قيادات انفصالية غير سورية.
– السويداء: تُعدّ منطقة حساسة، تتطلب مقاربة خاصة تراعي خصوصيتها الاجتماعية والسياسية، دون فصلها عن المشروع الوطني الجامع.
– إدلب: ما تزال تُدار بذات الأساليب التي سبقت سقوط النظام الإجرامي، ما يعمّق عزلتها ويُبقيها خارج إطار الحل الوطني الشامل.
كما أن العلاقة مع القوى الإقليمية، وعلى رأسها تركيا وروسيا، تحتاج إلى إدارة دقيقة توازن بين المصالح المتضاربة، مع التأكيد على ضرورة بقاء واشنطن طرفًا فاعلًا في أي صياغة مستقبلية للتوازنات الإقليمية.
ثالثًا: زيارة الشرع إلى الولايات المتحدة
تمثل زيارة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع إلى الولايات المتحدة فرصة استراتيجية نادرة لوضع الملفات الأساسية على الطاولة الدولية. المطلوب هنا ليس الاكتفاء بالبحث عن حلول ظرفية، بل الدفع نحو رؤية وطنية بعيدة المدى تنطلق من:
1. وضع إطار جديد للأمن الإقليمي يحفظ مصالح سوريا ويقيها من التهديدات الإسرائيلية.
2. فتح مسار تفاوضي واضح مع الأميركيين يعالج قضايا الاحتلال غير المباشر في الجزيرة.
3. إعادة تعريف العلاقة مع تركيا بما يوقف التداخلات الأمنية على الحدود.
4. تأكيد التزام سوريا بوحدة أراضيها مع مراعاة خصوصية الحالات مثل السويداء وإدلب.
بهذه المقاربة، تصبح الزيارة أكثر من مجرد حدث دبلوماسي، بل منعطفًا استراتيجيًا لإعادة رسم الدور السوري في الإقليم، و الجمع بين إرادة الداخل الوطني ومتطلبات التوازن الدولي.
بكلمة أخيرة :
إن إعادة صياغة الدور السوري في هذه المرحلة المفصلية لا يمكن أن تتم إلا عبر مشروع وطني جامع، يضع حدًا للواقع الممزق، ويؤسس لسيادة حقيقية تستند إلى إرادة الداخل وتوازنات الخارج، بعيدًا عن منطق التبعية أو التنازلات. فالمطلوب اليوم ليس فقط تجاوز الأزمة، بل بناء سوريا على أسس سياسية وأمنية تضمن الاستقرار والكرامة الوطنية.
المزيد من المواضيع
الحاكمية الظرفية والاختلاف الجمهوري
قبل أول انتخابات بعد سقوط الأسد: لجنة التحقيق الدولية تبدأ عملها وسط ترقب لتغيير حكومي محتمل
على أمل اتفاق سلام وشيك في غزة/ اتفاق 21 نقطة لإنهاء الحرب وبداية طريق السلام