21 أكتوبر, 2025

سريالية المشهد السوري على شاشة أمريكية: التقاء الأضداد في لحظة مفصلية

"كيف انتقلتم من تنظيم القاعدة إلى هذا الموقع القيادي؟" كان أقرب إلى إقرار بالمفارقة التاريخية منه إلى استفسار عابر. وجاء جواب الشرع: "من خاض الحرب يعرف قيمة السلام أكثر من غيره..." ليكثّف فلسفة التحول التي تبنّاها: أن السلام ليس خيارًا نظريًا بل خلاصة تجربة قاسية مع الحرب.
* "كيف انتقلتم من تنظيم القاعدة إلى هذا الموقع القيادي؟" كان أقرب إلى إقرار بالمفارقة التاريخية منه إلى استفسار عابر. وجاء جواب الشرع: "من خاض الحرب يعرف قيمة السلام أكثر من غيره..." ليكثّف فلسفة التحول التي تبنّاها: أن السلام ليس خيارًا نظريًا بل خلاصة تجربة قاسية مع الحرب.

"كيف انتقلتم من تنظيم القاعدة إلى هذا الموقع القيادي؟" كان أقرب إلى إقرار بالمفارقة التاريخية منه إلى استفسار عابر. وجاء جواب الشرع: "من خاض الحرب يعرف قيمة السلام أكثر من غيره..." ليكثّف فلسفة التحول التي تبنّاها: أن السلام ليس خيارًا نظريًا بل خلاصة تجربة قاسية مع الحرب.

في مشهدٍ يقترب من حدود الخيال السياسي، ويعكس سريالية التحولات في الشرق الأوسط، جرى حوار استثنائي بين الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع، والجنرال الأميركي المتقاعد ديفيد بترايوس، القائد السابق للاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) والقيادة المركزية للجيش الأميركي. المفاجأة لم تكن في طبيعة اللقاء فحسب، بل في هوية المحاور ذاته: الرجل الذي كان قبل سنوات يقود عمليات عسكرية واسعة في العراق، واضعًا مكافأة مالية ضخمة لمن يُلقي القبض على خصمه الذي يجلس أمامه اليوم، لا كمقاتل، بل كرجل دولة وسياسي محنّك، يتحدث بلغة الدبلوماسية لا السلاح.

مفارقات تاريخية وسياسية:

منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، تحوّلت البلاد إلى مسرح لتداخل القوى الإقليمية والدولية، وانزلقت إلى حربٍ متعددة الجبهات أنهكت الدولة والمجتمع على حد سواء. في خضم هذه التحولات، برزت أسماء عسكرية وسياسية ارتبطت بالمواجهة العنيفة مع واشنطن وحلفائها. الشرع، المعروف سابقًا بـ”الجولاني”، كان رمزًا لذلك الصراع، مطاردًا ومصنّفًا كتهديد أمني عالمي. على الجانب الآخر، كان بترايوس يجسد صورة القوة الأميركية الخشنة، يقود العمليات العسكرية والاستخباراتية في المنطقة، ويصوغ استراتيجيات الحرب على الإرهاب.

اليوم، يجلس الرجلان وجهًا لوجه في نيويورك، ليس كعدوين بل كمحاورين، في مشهد يلخّص قدرة الزمن على قلب الطاولة وإعادة تعريف الأدوار.

رمزية اللقاء:

يحمل اللقاء بين الشرع وبترايوس دلالات متعددة:

  • بين السجين السابق والقائد العسكري.
  • بين المطلوب الأمني ورجل الدولة.
  • بين ماضي المواجهة وحاضر الدبلوماسية.

هذه المفارقات ليست مجرد مصادفة، بل رسالة بأن السياسة الدولية لا تعرف ثوابت مطلقة. ما يُكتب بالرصاص قد يُمحى بالكلمات، وما يُحسم في الميدان قد يُعاد صياغته على طاولة الحوار.

خطاب الاعتدال والتحوّل:

ما ميّز الشرع في هذه الجلسة لم يكن مجرد حضوره السياسي، بل الخطاب الذي اعتمده. فقد تحدث بلغة عقلانية متزنة عن:

  • رفع العقوبات كمدخل أساسي لإعادة الإعمار.
  • ربط الأمن بالتنمية، معتبرًا أن الاستقرار لا يتحقق عبر البندقية وحدها.
  • تجاوز روايات الماضي والانطلاق نحو عقد اجتماعي جديد يجمع شتات الدولة والمجتمع.

لم يقدم نفسه بصفته زعيمًا منتصرًا، بل كقائد انتقالي يتحمل مسؤولية تاريخية، مدركًا أن النجاح لا يُقاس بكمّ الخصوم الذين أزيحوا، بل بقدرة الدولة على النهوض من تحت الركام.

دهشة بترايوس واعتراف ضمني:

بدا الجنرال الأميركي مأخوذًا بالمشهد. فقد خاطب الشرع بلقب “سيادة الرئيس”، في إشارة لا تخلو من الاعتراف بالشرعية الجديدة التي اكتسبها الرجل. سؤاله المباشر: “كيف انتقلتم من تنظيم القاعدة إلى هذا الموقع القيادي؟” كان أقرب إلى إقرار بالمفارقة التاريخية منه إلى استفسار عابر. وجاء جواب الشرع: “من خاض الحرب يعرف قيمة السلام أكثر من غيره…” ليكثّف فلسفة التحول التي تبنّاها: أن السلام ليس خيارًا نظريًا بل خلاصة تجربة قاسية مع الحرب.

قراءة أوسع للحدث:

يمكن فهم اللقاء على أكثر من مستوى:

1.محليًا: إعلان عن لحظة لإعادة تعريف سوريا أمام شعبها والعالم، من دولة منهكة إلى دولة تبحث عن طريق جديد.

2.إقليميًا: مؤشر على تبدلات في موازين المنطقة، حيث الأعداء السابقون قد يصبحون شركاء محتملين في رسم مستقبلها.

3.دوليًا: إشارة إلى أن الملف السوري لم يُطوَ بعد، وأن الحوار حوله سيظل حاضرًا في أجندات القوى الكبرى.

من السريالية إلى الواقعية السياسية:

قد يبدو المشهد أقرب إلى العبث السياسي، غير أن خلف هذه السريالية تختبئ واقعية صارخة: الشرق الأوسط استنفد رصيده من الحروب، ولم يعد أمامه إلا خيار الانتقال من منطق القوة إلى منطق الشراكة، إذا أراد أن يضمن لنفسه مستقبلًا قابلًا للحياة.

اللقاء بين أحمد الشرع وديفيد بترايوس كان أكثر من مقابلة إعلامية؛ كان إعلانًا بأن العداوات ليست أبدية، وأن السياسة قادرة على إعادة صياغة أكثر الخصومات مرارةً في صورة فرص للتعاون. في زمنٍ تتهاوى فيه الحدود بين الممكن والمستحيل، بدا المشهد السوري على شاشة أميركية تجسيدًا حيًا لسريالية السياسة الدولية، لكنه ربما يحمل في جوهره الشرارة الأولى لتحوّل حقيقي طال انتظاره.

أحمد سليمان

نشطاء الرأي

About The Author

error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب