(قراءة في أزمة التمثيل السياسي في سوريا المعاصرة)
في الدول التي تسير وفق قواعد الديمقراطية، تشكّل الانتخابات فرصة متجددة لبث الحياة في المجال العام، حيث يعبّر المواطنون عن إرادتهم في اختيار من يمثلهم ويحاسبهم، وتتحول صناديق الاقتراع إلى جسر يصل بين المجتمع والسلطة. أما في سوريا، فتسير انتخابات مجلس الشعب في اتجاه معاكس تمامًا، إذ تكشف عن مأزق عميق في مفهوم العملية الانتخابية، وتحولها إلى آلية شكلية لإعادة إنتاج البنية السياسية القائمة.
أبرز ما يلفت النظر أن النسبة المتقدمة من المنتخبين لا تأتي عبر إرادة شعبية حرة، بل عبر لجان مرتبطة مباشرة بالسلطة. هذه اللجان تتحكم في تشكيل القاعدة الناخبة نفسها، فتجعلها أقرب إلى ملحق بالحصة الرئاسية التي تُقدّر بنحو سبعين نائبًا مضمون الولاء، ما يؤكد هيمنة مطلقة على تركيبة المجلس. النتيجة أن المجلس يُبنى على أساس الولاء، لا على أساس التمثيل.
إلى جانب ذلك، فإن مسار الترشح لا يخضع لتنافس حر أو لبرامج سياسية، بل تحكمه شبكة من المحسوبيات والولاءات، إضافة إلى المال السياسي الذي يلعب دورًا حاسمًا في تحديد الفائزين. بهذه الطريقة، يصبح الوصول إلى البرلمان مشروطًا برضا السلطة والجهات النافذة، لا برضا الناخبين أو بتبني برامج تعكس مصالح المجتمع.
هذا الواقع يحوّل مجلس الشعب من مؤسسة يفترض أن تضطلع بالتشريع والرقابة باسم المواطنين، إلى واجهة سياسية هدفها تثبيت مراكز القوى القائمة. وبذلك يفقد البرلمان جوهر وظيفته، وينحصر دوره في تمرير القوانين والسياسات التي تأتي جاهزة من دوائر القرار العليا، بدل أن يكون ساحة لنقاش تعددي وتمثيل حقيقي.
الأخطر من ذلك أن استمرار هذه الآليات يعمّق أزمة الثقة بين المجتمع والسياسة، ويؤدي إلى عزوف شعبي متزايد عن المشاركة، لأن الناس لا يرون في الانتخابات فرصة للتغيير، بل مجرد إجراء يكرر ذاته كل دورة. بهذا الشكل، تتحول الانتخابات من أداة للتجديد إلى وسيلة للجمود، ومن فرصة للمساءلة إلى أداة للتحكم.
الإصلاح يبدأ من صناديق الاقتراع:
في ظل هذا النمط من الانتخابات، يصعب الحديث عن أي دور فعلي لمجلس الشعب في الدفع نحو انتقال سياسي أو فتح أفق للإصلاح. استمرار اعتماد السلطة على مجالس فاقدة للاستقلالية سيُبقي البلاد في حالة جمود سياسي، ويغلق الباب أمام أي إمكانية لبناء مؤسسات شرعية تعكس الإرادة الشعبية. بل إن تكريس هذه الممارسات قد يطيل أمد الأزمة، إذ يعمّق فجوة عدم الثقة بين الدولة والمجتمع، ويجعل أي تسوية سياسية مستقبلية أكثر تعقيدًا.
آلية تشكيل مجلس الشعب السوري في انتخابات 2025 تُظهر بوضوح أن المجلس ليس مؤسسة تمثيلية حقيقية، بل ملحق بالسلطة التنفيذية. فبالإضافة إلى سبعين مقعدًا تُخصّص للرئاسة ويُعيّن أصحابها بشكل مباشر، تُملأ مئة وأربعون مقعدًا عبر انتخابات غير مباشرة تتم من خلال لجان وهيئات ناخبة تابعة للسلطة. هذه اللجان تتحكم بالكامل في تحديد من يحق له الترشح والتصويت، ما يحوّل العملية الانتخابية إلى اختيار مُسبق أكثر من كونها منافسة حرة. النتيجة أن المجلس لا يمثل إرادة الشعب، بل يعيد إنتاج تركيبة السلطة نفسها، ويكفل استمرار هيمنة الرئاسة على الحياة السياسية، دون أن يقدّم مجالًا حقيقيًا للمساءلة أو التغيير.
بالمقابل، فإن أي تحرك جاد نحو انتقال سياسي لن يكتمل ما لم يترافق مع إعادة تعريف العملية الانتخابية على أسس شفافة، تضمن حرية الترشح والتصويت، وتكفل حق السوريين في اختيار ممثليهم دون تدخل أو وصاية. فالإصلاح الحقيقي يبدأ من صناديق الاقتراع، باعتبارها المدخل إلى بناء عقد اجتماعي جديد يعيد للمواطن مكانته باعتباره مصدر الشرعية.
أحمد سليمان
صادر عن نشطاء الرأي
المزيد من المواضيع
هل المستشار الألماني ميرتس من جذور سورية؟ عن صورة المدينة، والخوف من الآخر
اتحاد الكتاب العرب وإشكالية تحديثه في إطار العدالة الانتقالية
لا شرعية لنشيد يُفرض خارج إرادة السوريين: النشيد الوطني يُقرّ عبر استفتاء شعبي