9 أكتوبر, 2025

الولايات المتحدة تتحمّل مسؤولية تفجير البنية الجغرافية السورية: محاولة فرض «قسد» كسلطة موازية ورسم خريطة التفكك

من سخريات القدر أن تتحوّل ميليشيا يقودها مجموعة من المرتزقة إلى سلطة أمر واقع في الجزيرة السورية، تفرض شروطها، وتدير معابرها، وتطالب بحكمٍ ذاتيٍّ على أراضٍ ليست لها. ومن مفارقات المشهد أن تلك الميليشيا التي وُلدت من رحم التواطؤ مع النظام الأسدي، باتت اليوم تتحدّث بلغة «التحرّر» و«الديمقراطية المحلية»، بينما تمارس على الأرض أقسى أشكال القمع والنهب والتجنيد القسري.

يعرف العالم كلّه تاريخ هذه التشكيلات قبل أن تُعيد تسمية نفسها باسم «قوات سوريا الديمقراطية». فمنذ الأيام الأولى لتشكّلها، لم تكن سوى أداة لتطبيق أجندة مزدوجة: من جهةٍ يستخدمها النظام عصاً لتفريغ الجزيرة السورية من أيّ صوتٍ معارضٍ حقيقي، ومن جهةٍ أخرى تستثمرها واشنطن كقوّةٍ محلية تضمن استمرار وجودها العسكري والسياسي في سوريا دون أيّ كلفةٍ مباشرة.

لقد سلّم بشار الأسد مناطق الجزيرة عام 2012 لتلك الميليشيا ضمن صفقةٍ واضحة: تُمنح سلطة شكلية مقابل قمع السوريين والأكراد المساندين للثورة، وضمان بقاء الشمال الشرقي خارج أيّ مسارٍ وطنيٍّ جامع. وبعد سقوط نظام الأسد واستلام المعارضة السلطة، ثم توقيع «قسد» اتفاقاً مع الحكومة الانتقالية في مارس/آذار 2025، عادت لتؤدّي دورها القديم—تتلاعب بالتصريحات، وتبتزّ الجميع، وصولاً إلى المطالبة بحكمٍ ذاتيٍّ في خطوةٍ تستوجب من المجتمعين المحلي والدولي موقفاً واضحاً يدين الولايات المتحدة الأمريكية التي تتحمّل المسؤولية الكاملة عن تفجير البنية الجغرافية السورية.

1.مشروع التقسيم المقنّع

حين تخرج “قسد” اليوم لتطالب بحكم ذاتي، فذلك ليس من باب “الحقوق الكردية” المصانة أصلًا في الدستور السوري، بل في إطار هندسة سياسية أوسع تتكئ على الرؤية الأمريكية لتقسيم سوريا إلى كيانات “إدارية” خاضعة للنفوذ، لا للوطنية.

إن الحديث عن “الحكم الذاتي” ليس سوى تعبير مغلّف عن واقع التقسيم، لأن أي كيان عسكري يمتلك سلطة سياسية وإدارية وأمنية خارج مؤسسات الدولة هو عمليًا كيان منفصل، مهما تجمّل بالشعارات. والأخطر أن هذا المطلب جاء بعد سلسلة من الانتهاكات التي ارتكبتها “قسد” بحق أبناء المنطقة، من مصادرة الأراضي وفرض الضرائب، إلى حملات التجنيد القسري بحق الأطفال، واعتقال الناشطين، وصولًا إلى تهجير السكان العرب تحت ذريعة “الأمن القومي”.

2.قسد كقوة مرتزقة

ما يجري اليوم ليس مجرد خلاف محلي، بل نموذج لما يسمى في القانون الدولي بـ“القوات غير الحكومية المسلحة” التي تمارس سلطات سيادية على أرض محتلة. هذه الحالة توجب ملاحقة قيادات “قسد” وفق القانون الدولي الإنساني، لا كمتمردين فحسب، بل كقوة احتلال غير مشروعة مدعومة من قوة أجنبية.

تاريخ هذه الميليشيا، منذ بداياتها في عين العرب/كوباني حتى توسعها في الرقة ودير الزور، يكشف عن بنية غير وطنية، قائمة على الولاء الخارجي والتبعية التمويلية. فمصادر الدعم والرواتب والتسليح كلها أمريكية، ومع ذلك يخرج قادتها ليتحدثوا عن “مشروع سوري ديمقراطي”!

الأسوأ أن “قسد” لم تكتفِ باحتلال الأرض، بل احتضنت فلول النظام الأسدي الفارين من العقاب، وقدمت لهم الحماية والتنسيق في مناطق نفوذها. تقارير ميدانية تؤكد أن شخصيات أمنية وعسكرية من النظام لجأت إلى مناطق “الإدارة الذاتية”، حيث تم تأمينهم وتسهيل تنقلهم مقابل ترتيبات استخبارية متبادلة. بل إن بعضهم بدأ بالتحرك مجددًا ضمن خلايا تمهّد لعودة تأثير النظام في الساحل والسويداء، تحت غطاء “تنسيق أمني مشترك” برعاية “قسد”.

3.مسؤولية الولايات المتحدة في تفجير الجغرافيا السورية

منذ استقالة غير بيدرسون من موقعه كمبعوث أممي إلى سوريا، بدا واضحًا أن واشنطن تسعى للانفراد بالملف السوري. المبعوث الأميركي الجديد توماس باراك يقود مرحلة “الوصاية غير المعلنة”، لإعادة صياغة الحل السياسي بما يضمن بقاء النفوذ الأميركي في الشرق السوري.

تتحمل الولايات المتحدة المسؤولية الكاملة، لأنها شرعنت وجود “قسد” عبر اتفاقات تدريب وتمويل وتسليح، في انتهاك صارخ لسيادة دولة عضو في الأمم المتحدة. كما أنها تتعامل معها بوصفها “شريكًا”، ما يجعلها شريكة قانونيًا في كل الانتهاكات المرتكبة.

ومن المفارقات أن واشنطن، التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان، لم تُصدر أي موقف تجاه جرائم تجنيد الأطفال أو الاعتقالات الجماعية، بينما تسارع إلى التنديد بأي عمل عسكري ضد “قسد” باعتباره “تهديدًا للاستقرار”!

4.اللعبة المزدوجة: كيف تخدم “قسد” بقاء النظام؟

“قسد” لم تُطلق رصاصة واحدة ضد النظام الأسدي، بل كانت شريكًا له في إدارة مناطق التماس وتبادل المصالح. فبينما كان النظام يروّج إعلاميًا لعدائه مع “الإدارة الذاتية”، كانت صهاريج النفط والقمح تمرّ يوميًا عبر معابر مشتركة إلى مناطقه.

ما يجري الآن هو استمرار لهذه اللعبة المزدوجة، حيث تستخدم واشنطن “قسد” كواجهة لفرض كانتونات متداخلة. وهنا يكمن الخطر الحقيقي: أن يتحول الحكم الذاتي إلى حصان طروادة يعيد إنتاج نظام مماثل للأسد داخل مناطق تبدو محرّرة منه.

5.أخطاء السلطة الانتقالية: تغييب المعارضة وتقديم سلطة موالاة

لا يمكن إعفاء السلطة الانتقالية من مسؤوليتها في تعميق الانقسام، إذ شهدت المرحلة الانتقالية انتهاكات جسيمة، شملت مجازر في الساحل والسويداء، رغم الإدانة الواسعة من المجتمعين المحلي والدولي، ومن قبل السلطة الانتقالية نفسها، وبدء محاكمات محدودة. غير أنّ العدالة ظلّت انتقائية، ما جعل الشارع يرى في تلك الإجراءات مجرّد محاولة لاحتواء الغضب الشعبي دون معالجة حقيقية للأسباب الجذرية.

زادت الصورة قتامة مع تسلل واجهات فاسدة إلى مؤسسات الحكومة، وتهميش المعارضة لصالح وجوه مرتبطة بالموالاة. حتى الانتخابات النيابية الأخيرة جرت وفق “ديمقراطية استنسابية” تُفصّل نتائجها مسبقًا، مما أعاد إنتاج المركز السلطوي القديم.

6.خريطة النفوذ الجديدة: سوريا المُجزأة

النتيجة كانت بروز خريطة نفوذ جديدة:

– شمال غربي: سلطة تركية عبر فصائل محلية.

– شمال شرقي: سلطة أميركية عبر “قسد”.

– الجنوب: سلطة انتقالية متعثّرة.

– الوسط والغرب: بقايا النظام عبر وكلاء محليين.

أصبحت سوريا تُدار بالمناطق لا بالمؤسسات، وكل منطقة لها علمها ونظامها وخطابها، فيما يتآكل الإطار الوطني العام.

7.المسار القانوني: من الإدانة الأخلاقية إلى الملاحقة الجنائية

من الضروري إعداد ملف قانوني يوثّق جرائم “قسد” ضمن القانون الدولي الإنساني، بما في ذلك:

– الاعتداءات على المدنيين في الرقة ودير الزور والحسكة، كما وثّقتها تقارير هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية.

– تجنيد الأطفال، جريمة حرب مثبتة في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

– نهب النفط والقمح وتهريبه بالتنسيق مع القوات الأميركية.

– احتضان فلول النظام وتسهيل تحركاتهم.

ينبغي تقديم هذا الملف إلى مجلس حقوق الإنسان في جنيف، والاتحاد الأوروبي، لتثبيت أن “قسد” ذراع أجنبية تمارس الاحتلال بالوكالة.

  1. من يملك القرار في الجزيرة؟

الجزيرة السورية ليست ملكًا لأي فصيل، بل جزء من الجغرافيا الوطنية. وحق تقرير مصيرها لا يملكه سوى الشعب السوري ضمن عملية سياسية شاملة، لا تفاهمات أميركية ولا صفقات بين أمراء الحرب.

9.نحو رؤية وطنية مضادة للمشروع التقسيمي

مواجهة هذا المشروع لا تكون بالشعارات وحدها، بل بإعادة بناء الوعي الوطني على أساس وحدة الأرض والمصير. المطلوب اليوم هو موقف وطني موحد يرفض أي شكل من أشكال الإدارة الموازية أو السلطة المفروضة بقوة السلاح. كما يجب العمل على استعادة الموارد السورية التي نُهبت من قبل “قسد” وشركائها، وإعادة إدارتها من قبل حكومة وطنية تشاركية انتقالية منتخبة تمثل جميع السوريين.

لا بدّ كذلك من إطلاق حملة إعلامية وقانونية ودبلوماسية تكشف أمام العالم طبيعة المشروع الأمريكي وأهدافه الحقيقية، وتُظهر أن ما يجري في الشرق السوري ليس “تحريرًا” ولا “إدارة ذاتية”، بل احتلال ناعم تُستخدم فيه ميليشيات قياداتها من أكراد إيران وتركيا والعراق، كما ورد في تقارير استخبارية أوروبية نُشرت في دوريات أمنية متخصصة عام 2024.

  1. مذكرة ختامية / إعلان موقف

إيمانًا بقدسية وحدة التراب السوري، نؤكد ما يلي:

1.إن ما تقوم به “قسد” يشكل انتهاكًا صريحًا لسيادة الدولة السورية ووحدة أراضيها.

2.إن الدعم الأمريكي المتواصل لهذه الميليشيا يرقى إلى مستوى التورط في مشروع تقسيمي غير مشروع يخالف ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة.

3.نطالب بتشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة حول جرائم “قسد” في مناطق سيطرتها، بما فيها تجنيد القاصرين ونهب الموارد، استنادًا إلى تقارير موثقة من منظمات دولية مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش.

4.ندعو المنظمات الحقوقية العربية والدولية إلى إدراج قيادات “قسد” ضمن قوائم العقوبات والملاحقة القضائية، وفقًا لنظام العقوبات الأوروبي وآليات العدالة الدولية.

5.نحمّل الولايات المتحدة الأمريكية المسؤولية الكاملة عن أي تفكك جغرافي أو صدام أهلي ينتج عن استمرار دعمها العسكري والسياسي لهذا الكيان غير الشرعي.

11.بين التفكك والفرصة الضائعة:

إن الولايات المتحدة لا تكتفي بفرض “قسد” كسلطة جانبية، بل تمتد إلى هندسة واقعٍ منقسمٍ يصعب تجاوزه دون إرادة وطنية شاملة. غير أن هذه الإرادة تُصطدم اليوم بسلطة انتقالية عاجزة عن تمثيل الشعب السوري تمثيلًا حقيقيًا، وبمعارضة غُيّبت أو حُيّدت لصالح شبكات مصالح جديدة.

لقد أُهدرت فرصة التحول التاريخي التي كانت ممكنة بعد سقوط النظام، حين اختير نهج التوافقات الشكلية والولاءات المتبادلة بدل بناء مؤسسات مستقلة وعدالة انتقالية رادعة. في المقابل، استفادت واشنطن من هذا الضعف لتعزيز نفوذها عبر قسد، التي لم تعد مجرد ميليشيا بل ذراع سياسية وأمنية تتحكم بمفاصل الاقتصاد والحدود.

وهكذا، تلاقت الأخطاء المحلية مع السياسات الخارجية في إنتاج مشهد سوري جديد: بلد مُجزأ، تتنازع سلطاته المشروعية، وتتناوب القوى الإقليمية والدولية على رسم حدوده. وما لم تتشكل إرادة وطنية صلبة قادرة على كسر هذا التوازن المسموم، ستبقى سوريا مجرد جغرافيا مفتوحة للنفوذ والتجارب، لا دولة موحدة بالمعنى الحقيقي.

أحمد سليمان

صادر عن نشطاء الرأي

 

About The Author

error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب