26 أكتوبر, 2025

غريتا تونبرغ تستحق نوبل

الناشطة الشابة غريتا تونبرغ تمثل اليوم أحد أقوى الأصوات العالمية، ليس بقوة السلاح أو المال أو النفوذ السياسي، بل بقوة الفكرة والإصرار وإيمانها العميق بأن الإنسان مسؤول عن مستقبل كوكبه. هذه الفتاة السويدية الصغيرة، التي بدأت احتجاجها المدرسي وحيدة أمام البرلمان في ستوكهولم قبل أعوام، لم تكن مجرد طالبة تضغط على الحكومة، بل شرارة ثورة بيئية عالمية ألهمت الملايين من الشباب والكبار على حد سواء، وجعلت القادة والسياسات الكبرى أمام مرآة ضميرهم. من خلال خطابها الصادق والمباشر، أصبحت غريتا رمزاً لجيل يرفض السكوت عن تدمير البيئة، وأيقونة تُذكّر العالم بأن حماية الحياة على الأرض هي معركة إنسانية قبل أن تكون سياسية أو اقتصادية.

ناضلت غريتا بشجاعة ضد سياسات التدمير البيئي، وواجهت الزعماء بجرأة نادرة، تتحدث بصراحة تُربك مؤتمراتهم المترفة، وتذكّرهم بأن الأجيال القادمة لن تغفر هذا الصمت المميت. لم تكتفِ بخطاباتٍ عاطفية، بل قدّمت نموذجاً للمواطنة الفاعلة، مستخدمة أدوات العصر من الإعلام والاحتجاج السلمي والمبادرات الشبابية العابرة للحدود. كل ذلك جعلها رمزاً للتحوّل الأخلاقي الذي يحتاجه العالم أكثر من أي وقت مضى.

إنّ جائزة نوبل للسلام ليست تكريماً للأشخاص فحسب، بل اعترافٌ بالمسارات التي ترسم مستقبل الإنسانية. ومن هنا أعتبر غريتا الأجدر بها لعام 2025، لأنها لا تمثل دولة أو حزباً أو زعيماً، بل تمثل الأرض نفسها بكل ما عليها من حياة. نوبل، في جوهرها، جائزة لمن يوقظ الضمير الإنساني، وغريتا فعلت ذلك بلا سلاح سوى الكلمة والإصرار.

تُقدَّر فرص فوزها بالجائزة بنحو 6 إلى 9 في المئة، بحسب توقعات بعض المراهنات والمؤسسات البحثية، بينما تُمنح دونالد ترامب فرصة تتراوح بين 10 و15 في المئة أو أكثر في بعض المؤشرات. لكن المقارنة هنا تفضح المفارقة: فبين من يرفع راية البيئة والحياة، ومن يتباهى بصفقات السلاح والسياسات الشعبوية، تتضح أزمة العالم الأخلاقية. وقد أعلن ترامب أنّ خسارته ستكون «إهانة لأمريكا»، في تصريح يعكس ابتزازاً سياسياً واضحاً ومحاولة لاحتكار الرمزية الوطنية. هذا النوع من الخطاب لا يصنع سلاماً، بل يكرّس الانقسام والتعالي القومي، فيما يحتاج العالم إلى لغةٍ توحّد الإنسان مع الإنسان، لا لغة تهدده بالعقوبات والجدران.

وقد تجاوز ترامب مجرد التنافس الرمزي على الجائزة إلى ممارسة ضغوطٍ وتهديداتٍ غير مسبوقة على النرويج، الدولة المستضيفة للجنة نوبل. فقد كشفت تقارير أوروبية أنه حاول التأثير على أوسلو عبر صفقات اقتصادية واستثمارات عسكرية، بل وبتلميحات تتعلق برغبة واشنطن في امتلاك جزيرة نرويجية لأغراض استراتيجية.  ومن المفارقة أن دولة ذات نفوذ سياسي محدود نسبياً على الساحة الدولية مثل النرويج، والتي كرّست تاريخها لدعم حقوق الإنسان والوساطة السلمية، تجد نفسها تحت ضغط رئيس يسعى إلى تطويع رمز أخلاقي عالمي لمكاسب شخصية.

إن استخدام النفوذ السياسي لابتزاز دولةٍ محايدةٍ كهذه، يُعدّ تجاوزاً صارخاً لروح جائزة نوبل نفسها. فالجائزة التي أُنشئت لتكريم من يسعى إلى التفاهم بين الشعوب، لا يمكن أن تُمنح لمن يحاول إخضاع العالم بمنطق القوة والمصالح. أمام هذا التباين الصارخ، تتقدّم غريتا تونبرغ كصوتٍ نقيّ، لا يساوم ولا يهدّد، بل يذكّر البشرية بأنّ أعظم جائزة هي بقاء الكوكب نفسه على قيد الحياة.

غريتا، في المقابل، تواجه القوى ذاتها بأسلوبٍ مغاير: بلا حقد، بلا تهديد، بل بدعوةٍ إلى الوعي والمسؤولية المشتركة. حين تقول «بيوتكم تحترق وأنتم تكتفون بالكلام»، فإنها لا تهاجم، بل تُنذر. صوتها ليس صراخاً، بل ضوءاً في عالمٍ يتجاهل الخطر. إنها تدعو إلى نوعٍ جديد من السلام، سلامٍ بيئي يضمن استمرار الحياة قبل أن نتحدث عن رفاهها.

لقد نال رؤساء الولايات المتحدة وآخرون جائزة نوبل من قبل، لكن الجائزة اليوم تحتاج إلى استعادة معناها. لا يكفي أن تُمنح لمن يوقّع اتفاقاً مؤقتاً، بل لمن يغيّر وعي البشرية. وإذا كانت نوبل تُكرَّم من يوقف حرباً، فإن غريتا تحاول إيقاف حربٍ صامتة ضد الكوكب نفسه، حربٍ ضحاياها بلا عدد ولا جنسية: الغابات، الأنهار، الحيوانات، وحتى الإنسان الفقير في الجنوب الذي يدفع ثمن جشع الشمال.

لهذا كله، أرى أن منح الجائزة لغريتا تونبرغ سيكون تكريماً للمستقبل، لا للماضي. فالأرض، في زمن الكوارث المناخية والحرائق والجفاف، تحتاج إلى صوتٍ يذكّرنا بأن السلام لا يبدأ من السياسة، بل من الهواء الذي نتنفسه والماء الذي نشربه. ومن هذا المنبر، يحق القول إن غريتا ليست مجرد ناشطة، بل ضمير كوكبيّ في زمنٍ يوشك فيه الضمير أن ينقرض.

في النهاية، جائزة نوبل للسلام ليست مجرد تكريم رمزي، بل دعوة للعالم لإعادة ترتيب أولوياته. منحها لغريتا تونبرغ لن يكون تقديراً لشابة شجاعة فحسب، بل إشارة واضحة بأن السلام الحقيقي يبدأ بحماية الأرض والحياة، وأن مسؤولية الإنسان عن كوكبه لا تقل أهمية عن أي اتفاق سياسي أو هدنة عسكرية. إنها فرصة لتذكير العالم بأن الكوكب بأسره يستحق السلام، وأن جيل اليوم مطالب بأن يقف أمام التحديات البيئية بنفس الشجاعة التي وقفت بها غريتا.

أحمد سليمان

صادر عن نشطاء الرأي

About The Author

error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب