تبدو موسكو اليوم أمام لحظة مراجعة اضطرارية لتاريخها في سوريا. فزيارة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع إلى روسيا لم تكن زيارة بروتوكولية، بل مواجهة سياسية مؤجلة بين طرفين يعرف كلٌّ منهما ثمن الماضي وحسابات المستقبل.
الكرملين، الذي دعم نظام بشار الأسد حتى اللحظة الأخيرة، يحاول اليوم إعادة صياغة دوره في سوريا من موقع المتهم بالمشاركة في الجرائم، إلى شريك يُسوَّق كضامنٍ للاستقرار.
هذه المعادلة الحساسة، التي تجمع بين «إرث الدم» و«صفقة النفوذ»، هي ما جعل الزيارة حدثًا محوريًا في إعادة ترتيب العلاقات السورية – الروسية بعد مرحلة سقوط النظام السابق.
أولًا: زيارة الضرورة لا الرغبة
تعاملت وسائل الإعلام الروسية مع زيارة الشرع بعبارة واضحة: «زيارة ضرورة»، في إشارة إلى إدراك موسكو أنها لم تعد تمتلك رفاهية الاختيار.
فالإعلام الروسي، المعروف بتبعيته للمؤسسة الرسمية، لم يُظهر حماسة للزيارة بقدر ما أظهر واقعية متحفظة. وفي هذا ما يكشف المزاج الداخلي داخل الكرملين: روسيا التي كانت تفرض إملاءاتها على دمشق، أصبحت اليوم مضطرة للتفاهم مع قيادة جديدة تسعى لتثبيت الشرعية الانتقالية، وتعيد تعريف مفهوم السيادة السورية بعيدًا عن الوصاية الأجنبية.
إشارة رمزية على مدرج الطائرة
السجادة الحمراء التي امتدت على مدرج الطائرة لدى استقبال أحمد الشرع تحمل دلالة رمزية تتجاوز البروتوكول المعتاد في روسيا، حيث لا تُستخدم دائمًا في استقبال الرؤساء، ما يجعل ظهورها في هذا السياق لافتًا.
بحسب تقارير إعلامية، فإن استخدام السجادة الحمراء في روسيا لا يُعد تقليدًا ثابتًا في استقبال الزعماء، بل يُوظف في مناسبات محددة تعكس رسائل سياسية أو رمزية. في حالات سابقة، مثل استقبال الرئيس فلاديمير بوتين في الولايات المتحدة، أثارت السجادة الحمراء جدلًا واسعًا حول دلالاتها، خاصة حين تم فرشها في قاعدة عسكرية بألاسكا، ما اعتُبر آنذاك رسالة احترام أو اعتراف سياسي.
لذا، فإن امتداد السجادة الحمراء على مدرج الطائرة التي أقلت الرئيس الانتقالي أحمد الشرع لا يبدو مجرد تفصيل بروتوكولي، بل إشارة رمزية من موسكو إلى رغبتها الودية للزائر.
ثانيًا: من شريك في القصف إلى وسيط للاستقرار
منذ عام 2015، ارتبط اسم روسيا بسلسلة طويلة من الانتهاكات والجرائم التي وثّقتها منظمات حقوقية دولية، أبرزها القصف المتكرر للمستشفيات والمدارس والمناطق السكنية، واستخدام القنابل العنقودية والفسفورية في حلب والغوطة وإدلب.
هذه الجرائم التي خلّفت آلاف القتلى والمهجرين، جعلت موسكو طرفًا في مأساة السوريين، لا مجرد حليفٍ سياسي للنظام.
إلا أن الخطاب الروسي اليوم يسعى لإعادة تعريف هذا الدور: من «المتدخل العسكري» إلى «الوسيط الضامن».
تلك المفارقة لا يمكن فهمها إلا في سياق محاولة تبييض التاريخ القريب عبر صفقات سياسية واقتصادية، يتم من خلالها تبادل الصمت مقابل البقاء.
ثالثًا: تقويض الجرائم… سياسة لا اعتراف
الكرملين يدرك أن ملفه في سوريا مثقل بالانتهاكات، لكنه لا يُظهر أي استعداد للاعتراف بها.
بدلًا من ذلك، تعتمد موسكو على سياسة التقويض التدريجي للجرائم عبر ثلاثة مسارات:
1. تحوير السردية: تصوير القصف والعمليات العسكرية كـ«حرب ضد الإرهاب»، وهو الخطاب الذي يتكرر منذ سنوات لتبرير المجازر.
2. نقل المسؤولية: تحميل بشار الأسد والقيادات المحلية مسؤولية ميدانية منفصلة، وكأن روسيا لم تكن شريكًا في القرار العسكري.
3. المقايضة السياسية: ضمان استمرار وجودها في القواعد العسكرية مقابل دعم محدود للسلطة الجديدة والاعتراف بشرعيتها.
بهذه الطريقة، تسعى موسكو إلى إغلاق باب المحاسبة الدولية دون مواجهة مباشرة، مكتفية بتسويات سياسية قد تُنقذ وجودها دون أن تُلزمها بالاعتذار أو التعويض.
رابعًا: قنوات الظل القديمة
تحتفظ روسيا بعلاقات متشعبة مع شخصيات عسكرية وأمنية كانت نافذة قبل سقوط النظام.
وتشير تقارير ميدانية إلى أن بعض هذه الشخصيات تحاول اليوم استعادة نفوذها عبر تحركات توصف بالريبة أو الغموض، في مناطق مختلفة من البلاد.
موسكو، التي تدرك حساسية هذه الشبكات، تحاول استثمارها كورقة ضغط في مفاوضاتها مع الشرع، بحيث تقدم نفسها كقوة قادرة على «ضبط الداخل» مقابل استمرار امتيازاتها السياسية والعسكرية.
لكن هذه الاستراتيجية تحمل مخاطر مضاعفة: فهي تذكّر السوريين بذات العقلية التي كانت تتحكم ببلادهم عبر الوسطاء والتابعين، كما تضع روسيا في موقع الشريك المزدوج بين دعم الدولة ومحاورة رموز النظام القديم.
خامسًا: صفقة الوجود مقابل الصمت
المحور المركزي في مباحثات موسكو يتعلق بمستقبل القاعدتين الروسيتين في طرطوس وحميميم، وبإعادة تعريف الإطار القانوني لوجود القوات الروسية.
مصادر قريبة من الكرملين استبعدت أن يوافق بوتين على تسليم بشار الأسد للسلطات السورية الجديدة، لكنها لم تنفِ بحث «تسوية خاصة» تضمن خروجه الآمن أو وضعه تحت الإقامة الجبرية في روسيا.
بهذا الشكل، تُحاول موسكو تحويل الأسد من عبءٍ قضائي إلى ضمانة تفاوضية تُوظف في مساومة السلطة الانتقالية.
وفي المقابل، تسعى للحصول على ضمانات مكتوبة باستمرار وجودها العسكري وامتيازاتها الاقتصادية في مجالات الطاقة وإعادة الإعمار، مقابل دعم سياسي محدود للمرحلة الانتقالية.
الصفقة واضحة: صمتٌ مؤقت عن جرائم الماضي مقابل استمرار النفوذ في المستقبل.
سادسًا: اختبار السيادة في سوريا الجديدة
يبقى التحدي الأكبر أمام الرئيس أحمد الشرع هو استعادة السيادة الوطنية كاملة دون خسارة الدعم الدولي أو الدخول في مواجهة مفتوحة مع موسكو.
الشرع، المعروف بميله إلى الواقعية السياسية، يحاول رسم علاقة ندّية مع روسيا، قاعدتها الأساسية أن المصالح المشروعة لا تبرّر الصمت عن الجرائم.
السلطة الانتقالية، كما تقول مصادرها، مستعدة لمناقشة أي اتفاق مع موسكو شريطة أن يكون خاضعًا للقانون السوري الجديد وأن يُدار ضمن مؤسسات الدولة، لا عبر تفاهمات الغرف المغلقة كما كان الحال في عهد الأسد.
هذه المقاربة إن نجحت، فستشكل أول اختبار فعلي لقدرة سوريا على تجاوز مرحلة الوصاية الدولية نحو مرحلة السيادة التعاقدية مع القوى الكبرى.
سابعًا: قراءة ختامية
زيارة أحمد الشرع إلى موسكو ليست مجرد حدث دبلوماسي، بل لحظة فاصلة بين زمنين:
زمنٍ كانت فيه روسيا تملي شروطها عبر الدبابات، وزمنٍ تحاول فيه تبرير بقائها عبر لغة الدبلوماسية.
لقد تحولت المعادلة من «موسكو تحمي الأسد» إلى «موسكو تتفاوض لتبقى».
أما سوريا الجديدة، فهي أمام اختبار أخلاقي وسياسي كبير:
هل يمكن أن تطوي صفحة الحرب دون أن تطمس ذاكرة الألم؟
وهل يمكن أن تقبل بوجود روسيا على أرضها دون أن تغفر لجرائمها؟
وفي هذا السياق، تُسجَّل حقيقة مهمة وهي وجود جالية سورية كبيرة في روسيا، ساهمت في تعزيز الروابط الثقافية والاقتصادية بين البلدين.
وتسعى السياسة السورية الجديدة إلى بناء علاقات متوازنة ومفيدة، تُحقق السلام مع محيطها الإقليمي ومع القوى الدولية، بما في ذلك روسيا، على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
الإجابات لن تأتي سريعًا، لكن المؤكد أن التاريخ بدأ يعيد ترتيب صفحاته، وأن لغة الدم لم تعد تكفي لشراء النفوذ.
أحمد سليمان
صادر عن نشطاء الرأي
المصادر: دوتشيه فيليه، فرانس 24، الجزيرة، رويترز، هيومن رايتس ووتش.

المزيد من المواضيع
جلسة مغلقة بين الشرع وترامب: انسحاب إسرائيلي، تنمية مشروطة، ومكافحة الإرهاب
إعادة تعريف اتحاد الكتّاب في سوريا: بين المهام والاستقلالية
لماذا لم يُجفّف تمويل داعش؟ تقاطع المصالح وتشابك التحالفات في الجزيرة السورية