26 أكتوبر, 2025

السويداء بين فلول النظام والهجري وتفاهمات الدولة.. ملامح إعادة تشكّل الجنوب السوري

تكشف الرسائل المتبادلة بين مقاتلين سابقين فرّوا إلى السويداء بعد انهيار منظومة الأسد، عن مشهد داخلي مضطرب تعيشه المحافظة منذ أشهر، حيث تتداخل الولاءات القديمة مع تحالفات جديدة غير مستقرة. معظم هؤلاء المقاتلين كانوا جزءًا من تشكيلات عسكرية أو أمنية تابعة للنظام المخلوع، ثم وجدوا أنفسهم بعد سقوطه بلا غطاء سياسي أو عسكري واضح، ما دفعهم للانخراط في صراعات محلية إلى جانب جماعات مسلحة، أبرزها جماعة الشيخ الهجري، ضد مجموعات البدو وضد قوات الأمن العام التابعة للسلطة الانتقالية.

تُظهر هذه الرسائل، التي تم تداول بعضها عبر تطبيق “واتس أب”، طبيعة الأشخاص الذين دعموا الهجري، إذ يتضح من مضمونها أن بعضهم متورط في جرائم سابقة أو في أعمال ابتزاز وتهديد، ما يسلّط الضوء على البنية غير المنضبطة التي تشكّلت حوله، وعلى حجم التحديات التي تواجه السويداء في سعيها للخروج من دوامة الفوضى.
يتحدث أحدهم عن “رواتب لم تُدفع منذ شهرين”، وآخر يعبّر بندم عن التحاقه بمجموعات الحماية التي تبيّن لاحقًا أنها لا تختلف عن عصابات جباية وابتزاز. كما يظهر مستوى السخط الشعبي من تصرفات بعض الضباط الذين “باعوا” الحماية مقابل مبالغ مالية اختفت لاحقًا دون أثر.

وقد شهدت المحافظة مجازر متبادلة بين الأطراف المتقاتلة، وأقرت الحكومة بتورط عناصر من طرفها، مؤكدةً أنها ستحاسبهم كما ستحاسب الأطراف الأخرى، في إطار مقاربة شاملة للعدالة.

تحوّلت جماعة الهجري مؤخرًا إلى مركز نفوذ عسكري رافض لأي تسوية، متذرعةً بالمجازر التي طالت الدروز، في حين تنكر المجازر التي ارتكبتها ضد البدو وضد قوات الأمن العام. كما استغلّ الهجري حالة الفوضى للمطالبة بتدخل إسرائيلي، فيما كشفت الأحداث عن تورط ميليشيا “قسد” بتقديم مساعدات مادية ولوجستية له، ما يعزز فرضية وجود شخصيات قيادية سابقة لدى نظام الأسد داخل مناطق سيطرة “قسد”.

ورغم هذا المشهد المأزوم، بدأت الدولة السورية الحديثة، الممثلة بالسلطة الانتقالية، اتصالات أمنية وسياسية تهدف إلى احتواء التوتر في السويداء. وتشير المعلومات إلى أن الحكومة الجديدة تعمل على صياغة تفاهمات دقيقة مع شخصيات نافذة في المحافظة لتفكيك البنى المسلحة وضبط الحدود الأمنية، تمهيدًا لإعادة دمج السويداء ضمن إطار الدولة الواحدة، على أساس الشراكة والعدالة لا الانتقام.

وفي خضم هذا المشهد، برزت مبادرة مدنية وطنية بعنوان “السويداء منّا وفينا”، أُطلقت رسميًا في 12 أكتوبر 2025، بهدف دعم المحافظة في مجالات التعليم والصحة والبنية التحتية، وجمعت أكثر من 14 مليون دولار خلال أيام. ورغم طابعها التنموي، قوبلت باستهجان من مؤيدي الهجري الذين اعتبروها محاولة لاحتواء نفوذهم، بل وصفها بعضهم بأنها “تطبيع مع السلطة الانتقالية”، ما يعكس حجم الانقسام الداخلي حتى في المبادرات المدنية.

وعلى الطرف الآخر، توجد شخصيات درزية معتدلة تميل إلى الانخراط في الدولة الجديدة، رافضةً أي شعارات تقسيمية، بخلاف الهجري الذي يصر على استغلال الدماء التي نزفت ليتحدث عن “إقليم مستقل” عن سوريا، يمتد ويتواصل مع ممر سبق أن أعلنت عنه إسرائيل يصل إلى مناطق الجزيرة الخاضعة لسيطرة “قسد”.

ووفق تقارير وبيانات حقوقية، فإن السلطة الانتقالية أعلنت بوضوح أنها ستُحاسب جميع المتورطين في القتال، بمن فيهم من خدموا في مؤسساتها. هذه المقاربة تعني أن العدالة لن تكون انتقائية، وأن الملف الأمني في السويداء لن يُغلق عبر صفقات محلية أو تسويات آنية كما كان يحدث في الماضي، بل من خلال مسار قانوني واضح تضمنه الدولة الحديثة.

الرسائل المسربة لا تعبّر فقط عن انهيار ولاءات قديمة، بل عن وعيٍ متأخر لدى بعض المقاتلين الذين أدركوا أنهم استُخدموا ثم تُركوا لمصيرهم. هذا التحوّل في المزاج الداخلي، إلى جانب التحركات الجارية من قبل الحكومة الانتقالية، قد يمهّد لتفكيك واحدة من أكثر البؤر حساسية في الجنوب السوري، حيث تختلط الولاءات العشائرية بالدينية والسياسية.

إن السويداء اليوم أمام لحظة فاصلة: فإما أن تنجح في تجاوز إرث الميليشيات والتدخلات، وإما أن تبقى رهينة الماضي ورموزه. والسؤال المفتوح: هل تنجح في صياغة مستقبلها بعيدًا عن الدم والانقسام؟

أحمد سليمان

صادر عن نشطاء الرأي

 

About The Author

error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب