في سوريا، لم يعد الحديث عن “الخطف” مجرد توصيف لجرائم جنائية، بل تحوّل إلى أداة متعددة الأغراض تُستخدم في الحرب النفسية، وتغذية الانقسام الاجتماعي، وتضليل الرأي العام. خلف الضجيج الإعلامي، تختفي قصص نساء بريئات خُطفن فعلًا، بينما تتصدّر المشهد روايات ملفقة تُوظّف لأهداف سياسية أو طائفية أو أمنية.
مشهد ملبّد بالتناقضات:
أول أمس، اجتاحت مواقع التواصل تسجيلات ومقاطع مصوّرة تتحدث عن عمليات خطف لنساء في إدلب والمناطق المحيطة. في أحد المقاطع، أشار صحفي محلي إلى ارتفاع عدد النساء في إدلب نتيجة فقدان الرجال بسبب الحرب أو الهجرة، مضيفًا أن الزواج بات ممكنًا بمبالغ بسيطة لا تتجاوز ألف دولار.
ورغم أن حديثه فُهم على نحو خاطئ، فإن جوهر كلامه لم يكن استخفافًا، بل محاولة لتوصيف التغيّرات السكانية والاجتماعية في المنطقة، دون أن يعني ذلك وجود مبررات للخطف أو تبرير للجريمة.
لكنّ هذا التصريح البسيط تحوّل في بعض الصفحات إلى ” استهجان بحق النساء”، في ظل موجة من الفيديوهات والمنشورات التي تتحدث عن “تفشّي عصابات خطف النساء”، دون أدلة واضحة، ما أثار الهلع في الشارع، وكرّس صورة مشوّهة عن مجتمع يعاني أصلًا من الانقسام والاحتقان.
بين الحقيقة والادعاء:
لا يمكن إنكار وقوع حالات خطف حقيقية، تعرّضت فيها نساء للاختفاء أو الاحتجاز، بعضهن أُطلق سراحهن بعد دفع فدية، وأخريات ما زلن مجهولات المصير. وتشير شهادات محلية إلى أن بعض هذه الحالات ترتبط بخلافات مالية أو عائلية، أو بجرائم اتجار بالبشر، وغالبًا ما تحدث في مناطق خارجة عن السيطرة الأمنية الكاملة.
في المقابل، تكشف تحقيقات غير رسمية أن العديد من البلاغات المتداولة كانت ملفقة أو مبالغًا فيها. بعض القصص استُخدمت لتصفية حسابات بين عائلات، أو لتبرير زيجات غير معلنة، أو لتشويه سمعة مكوّن اجتماعي معيّن، أو حتى لتبرير إجراءات أمنية قمعية تحت شعار “مكافحة الجريمة”.
ومن الأمثلة الصارخة على تداخل الحقيقة بالادعاء، قضية الشابة نغم عيسى، التي شُيّع خبر اختطافها وقتلها قبل نحو سبعة أشهر، وتحولت قصتها إلى قضية رأي عام أثارت موجات من الغضب والتخوين. لكن المفاجأة جاءت مؤخرًا، حين ظهرت نغم في تسجيل مصوّر تؤكد فيه أنها على قيد الحياة، كاشفة بذلك حجم التضليل الذي رافق القضية. القصة، التي بدأت بمقاطع وصور مفبركة، أظهرت كيف يمكن لحادثة شخصية أن تُستغلّ لتوجيه اتهامات جماعية، وتأجيج الانقسام، وتشتيت الانتباه عن القضايا الجوهرية. مثل هذه الحالات تُعيد التذكير بضرورة التحقق قبل النشر، لأن الفبركة لا تسيء فقط إلى سمعة أفراد أو مجتمعات، بل تحجب أيضًا صوت الضحايا الحقيقيين الذين ما زالوا في الظل.
هكذا تحوّل ملف الخطف إلى أداة دعائية خطيرة، تُوجّه الرأي العام وفق مصالح الجهات النافذة إعلاميًا أو أمنيًا.
التضليل كسلاح:
لا يبدو أن الهدف من ترويج قصص الخطف الكاذبة يقتصر على إثارة الرعب، بل يتعداه إلى خلق حالة من انعدام الثقة بين المكوّنات السورية. فتارةً تُتهم جهة مدنية بالتغطية على مجرمين، وتارةً تُحمّل المسؤولية لطرف عسكري أو مؤسسة حكومية، وتارةً يُشار إلى مكوّن اجتماعي وكأن الجريمة سمة لصيقة به.
بهذه الطريقة، يُعاد إنتاج الانقسام الطائفي والمناطقي، ويُختزل الضحايا الحقيقيون في تفاصيل هامشية ضمن روايات متبادلة من الاتهام والانتقام. ويستغل البعض هذا المناخ المشحون لتصفية حسابات أو لتبرير استمرار نفوذه، فيما تُترك النساء الضحايا في الظل، بلا حماية ولا إنصاف.
شبكات مشبوهة وأهداف مركّبة:
تفيد مصادر ميدانية بوجود شبكات مدنية مشبوهة تضخّم أخبار الخطف عبر حسابات مجهولة، غالبًا ما ترتبط بجهات تسعى إلى:
– تشتيت أنظار المؤسسات الأمنية.
– صرف الانتباه عن قضايا أكثر حساسية.
– إرباك الرأي العام وتحويله إلى ساحة تجاذب وانفعال بدلًا من أن يكون مساحة مساءلة ومحاسبة.
بهذا، لا يعود الحديث عن “الخطف” مجرد قضية جنائية، بل يتحوّل إلى أداة ضمن أدوات الحرب النفسية والإعلامية التي تمزّق النسيج الاجتماعي.
نساء خُطفن فعلًا… وغاب صوتهن:
وسط كل هذا الضجيج، هناك وجوه حقيقية لنساء اختفين فعلًا: أمّ فقدت ابنتها في طريق العودة من المدرسة، وفتاة لم تعد من السوق، ونازحة اختفت أثناء عبورها بين منطقتين متنازعتين.
قصص كهذه لا تجد طريقها إلى الإعلام إلا نادرًا، لأن أصحابها يخشون الوصمة أو الانتقام أو التوظيف السياسي لقضيتهم. هؤلاء النساء، اللواتي لم يُرفع لأجلهن سوى بعض المنشورات العاجلة، يمثلن المأساة الحقيقية التي تُغطيها طبقات من التضليل والفوضى الإعلامية.
بين المسؤولية المجتمعية ودور الإعلام:
مسؤولية توفير الأمن تقع أولًا على المؤسسات المعنية، لكنّ جزءًا كبيرًا من الحماية يبدأ من وعي المجتمع نفسه. نشر الأخبار غير المؤكدة عن حالات خطف دون تحقق يُسهم في زيادة الفوضى، ويعرّض الضحايا الحقيقيين لمزيد من الألم.
كما يتحمّل الإعلام المحلي مسؤولية مضاعفة في التحقق قبل النشر، وفي التمييز بين الروايات الفردية والحقائق المثبتة.
إنّ حماية النساء وردّ الاعتبار للضحايا لا يكون فقط بملاحقة المجرمين، بل أيضًا بمحاربة التضليل الذي يقتل الحقيقة بصمت.
أحمد سليمان
* صادر عن نشطاء الرأي

المزيد من المواضيع
بين قنديل وأضنة: انسحاب بي كي كي من تركيا ومحاولة تموضع في الجزيرة السورية
حسن عبد الله الخلف: العشائر بين فزعة الزلزال وفزعة السويداء
هل المستشار الألماني ميرتس من جذور سورية؟ عن صورة المدينة، والخوف من الآخر