12 نوفمبر, 2025

سماعة معلّقة في الهواء: ربيع خليل كما تركنا قبل خمسة وعشرين عامًا

سماعة معلّقة في الهواء: ربيع خليل كما تركنا قبل خمسة وعشرين عامًا
لم تكن سيرة ربيع خليل مشهدًا في فيلم، بل مسارًا متماسكًا لكاتب قرر أن يواجه العالم بأسئلة حادة. في أواخر سبتمبر من عام 2000، وفي غرفة ضيقة وسط بكين، توقفت يد كانت تكتب، وتوقف قلب كان يطارد فكرة تتجاوز الجغرافيا. عُثر عليه ممددًا، وإلى جواره سماعة هاتف معلّقة في الهواء، كأن المحادثة انقطعت فجأة، بينما انقطعت الحياة نفسها.
كان وجود كاتب وصحافي عربي في الصين آنذاك أمرًا غير مألوف؛ كان سؤالًا في حد ذاته، وربما مشروعًا أكبر من أن يحتمله جسد واحد. لم يسافر ربيع خليل بحثًا عن وظيفة، بل عن معنى. حمل على كتفيه عبء جيل شهد انهيارات كبرى: أفكار تحولت إلى أطلال، قيم تبعثرت، وبلاد فقدت بوصلتها. من هناك، انتقل من السياسة إلى الفكر، ومن السجال إلى التأمل، ومن الضجيج إلى المساحة التي يرى فيها الإنسان العالم كتركيب من الأقنعة والمرايا.
كان يؤمن أن السياسي، حين يدرك عمق اللعبة، يتحول إلى شاعر أو حكيم، أو إلى كائن يقف خارج المسرح، منتبهًا للمؤثرات التي لا يسمعها الجمهور. لذلك، لم يكن نقده السياسي مجرد موقف، بل تفكيكًا لبنية السلطة، وقراءة دقيقة للعقل الذي يصنع الخديعة.
في عام 1996، أصدر روايته «سفر الضجر»، وكتب سيناريوهات، وأعدّ مواد إذاعية، وأخرج وثائقيات بقي كثير منها حبيس الأدراج. لم يكن ذلك لضعف في الأعمال، بل لأنه لم يساوم، ولم يطرق الأبواب التي لا تُفتح إلا بالولاء.
حين وصل إلى بكين، وجد فضاءً يسمح بإعادة التفكير. كتب مراسلات وتحليلات معمّقة عن الصين وتحولاتها، وظهر صوتًا عربيًا في قنوات خليجية عدة. لكنه كان يفكر بما يتجاوز الشاشات: مشروع معرفي يربط بين الحضارتين العربية والصينية، لا من باب الاستشراق المعكوس، بل من باب المعرفة المتبادلة. حلم اكتمل في الرؤية، ولم يكتمل في العمر.
بعد رحيله، عادت مخطوطاته في حقيبة دبلوماسية. وفي أبريل 2001، صدرت أعماله: «خارج النعش»، «كتب في بكين»، «قراءات في المشهد الصيني المعاصر»، وإعادة نشر «سفر الضجر». لكن هذه الأعمال لم تتحول إلى حدث ثقافي يليق بما حمله الرجل من رؤى.
خمسة وعشرون عامًا مضت، وما زال الذين عرفوه، أو قرأوه، أو استمعوا إلى صوته، يدركون أنه ترك مشروعًا كتابيًا مكتمل الأسئلة، مفتوح النهايات.
إن استعادة ذكرى ربيع خليل اليوم ليست حنينًا، بل محاولة لإحياء ثغرة كان يمكن أن تكون نافذة. نافذة على شرق يتغير، وعلى عقل حاول أن يفهم هذا التغير من الداخل، لا عبر معاجم جاهزة.
صادر عن نشطاء الرأي

About The Author

error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب