في العقد الأخير، تحوّلت سوريا من دولة ذات موقع محوري في الإقليم إلى ساحة مفتوحة لتقاطع المصالح الدولية والإقليمية، حيث لم تعد الصراعات فيها تُقرأ من منظور داخلي فحسب، بل باتت تمثّل انعكاسًا لصراع أوسع على إعادة تشكيل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط.
تتعامل القوى الدولية مع سوريا بوصفها عقدة جيوسياسية يجب ألا تنهار تمامًا، لكنها في الوقت نفسه لا ينبغي أن تستعيد تماسكها الكامل. في هذا السياق، تتبلور السياسة الخارجية تجاه سوريا على قاعدة إدارة التوازنات لا حسمها، حيث تُوزّع مناطق النفوذ وتُدار خطوط التماس كأوراق تفاوضية لا كحدود نهائية.
أمام هذا الواقع المركّب، تبرز الحاجة إلى قراءة عقلانية للمنظومة التي تحكم سلوك الفاعلين الدوليين والإقليميين، وفهم منطقهم لا مجرّد نواياهم.
ما الذي تريده واشنطن؟ ما الذي تخشاه إسرائيل؟ كيف توظّف روسيا وجودها؟ ما حدود الدور التركي؟ وأين يقع ملف «قسد» ضمن هذه المعادلة؟
هذه الورقة لا تسعى إلى تقديم إجابات نهائية، بل إلى رسم خريطة تحليلية تربط بين الملفات، وتحدّد ما يمكن أن يشكّل مداخل واقعية لسياسة سورية جديدة، مرنة، تستعيد المبادرة وتعيد تعريف موقع الدولة في معادلة الإقليم.
أولًا: الجنوب السوري – ساحة الترتيبات القابلة للتعديل
الجنوب هو المسرح الأكثر حساسية في الحسابات الإقليمية.
إسرائيل تدفع باتجاه منطقة منزوعة السلاح تمنع التموضع الإيراني وتضمن لها هدوء الحدود. واشنطن تدعم هذا الاتجاه، لكن عبر صيغة «رقابة أمنية متعددة» لا تمنح السيادة الكاملة لأي طرف. هذا لا يعني إقامة كيان منفصل، بل خلق فراغ محسوب تتحكم خطوطه العامة بالمصالح المشتركة: أمن إسرائيل، دور الأردن، ومنصة تفاوض بين واشنطن وموسكو.
هذا يجعل الجنوب مساحة “لا حرب ولا سيادة”، ما لم تؤسس السياسة السورية لرؤية تستعيد السيطرة التدريجية وتُسقط الذرائع الأمنية التي تبرر التدخل الخارجي أو تقويض السيادة.
ثانيًا: السويداء – نموذج السيادة المجزّأة
السويداء خارج الحساب التقليدي للدولة، لكنها داخل الحساب الأمني الإقليمي.
تعدد القوى المحلية، وانتشار السلاح، وتحول المحافظة إلى منطقة فراغ أمني، جعلها جزءًا من ملف الجنوب الأوسع.
تتعامل الأطراف الدولية معها كمنطقة قابلة للاشتعال يمكن أن تُستخدم للضغط أو لفتح قنوات تفاوض.
استعادتها وفق رؤية وطنية شاملة تمثل خطوة حاسمة نحو تثبيت السيادة وإغلاق الباب أمام أي ترتيبات خارجية.
ثالثًا: إدلب – ورقة تفاوضية دائمة وحساسية الملف السكاني
المجموعات الجهادية في إدلب ليست ملفًا محليًا، بل ورقة تُستخدم من أطراف عديدة في المساومات الإقليمية. وفي خضم الحديث السياسي المتصاعد حول مستقبل هذه المنطقة، برزت نقاشات تتعلق بوضع المقاتلين الأجانب أو المرتبطين بتنظيمات غير سورية، وهو ملف شديد الحساسية.
التجارب التاريخية في الإقليم، ومنها التجربة اللبنانية بعد اتفاق الطائف، تُظهر أنّ تجنيس مقاتلين غير سوريين لم يكن خيارًا مطروحًا، بل جرى الاتجاه نحو تسويات مدنية محدودة، تسمح لمن ارتبطت حياتهم بالأرض–مثل المتزوجين من سوريات–بتصحيح أوضاعهم دون إدماجهم في أي مؤسسات أمنية أو عسكرية.
مثل هذا النموذج قد يكون مناسبًا لسوريا، لأنه يوازن بين الاعتبارات الإنسانية من جهة، ومتطلبات السيادة من جهة أخرى، ويمنع تحويل ملف المقاتلين الأجانب إلى ثغرة مستقبلية.
على المستوى السياسي، تبقى إدلب جزءًا من موازنة قوى أوسع:
تركيا تراها ورقة نفوذ في العلاقة مع روسيا.
موسكو تستخدمها لتبرير استمرار وجودها العسكري.
واشنطن تُبقيها حجة لرفض أي تفاهم روسي–تركي يقلّص تأثيرها في الشمال.
ورغم بُعدها الجغرافي عن الجنوب، إلا أنّ التطورات في إدلب ترتبط مباشرة بتوازنات الجنوب. تقدّم أي ملف يؤثر على الآخر؛ فإذا تحركت ترتيبات الجنوب، تغيّرت وظيفة إدلب، وإذا اشتعلت إدلب، تتبدّل حسابات الأطراف في الجنوب. هكذا تبقى إدلب ورقة لا تُسحب من الطاولة، مهما تغيّرت الأولويات.
رابعًا: قسد – العقدة الأمريكية في الشرق السوري
ملف مليشيا «قسد» هو نقطة الثقل في الاستراتيجية الأميركية في الجزيرة السورية.
واشنطن لا تتعامل مع قسد كمجرد قوة محلية، بل تعتبرها:
– قوة برية جاهزة تحت تصرفها، تتجاوز عنوان مواجهة داعش.
– أداة ضغط على دمشق وأنقرة وربما ضد طهران.
– ركيزة لمنع روسيا من بسط سيطرة كاملة على الجزيرة.
– جسرًا لتأمين الممرات النفطية والحدودية.
تحولت قسد إلى عقدة جيوسياسية معقدة تتقاطع فيها مصالح واشنطن، أنقرة، موسكو، ودمشق.
في الحساب الأميركي، أي حل في سوريا يجب أن يمر عبر صيغة جديدة تضمن وجود قسد في معادلة الحكم المحلي أو اللامركزية، من دون السماح بقيام كيان مستقل.
من هنا، يصبح ملف قسد جزءًا من الشيفرة الكبرى: واشنطن لا تريد دولة سورية مركزية قوية، لكنها لا تريد دولة ممزقة. تريد توازنًا هشًا يسمح لها بالبقاء لاعبًا فوق الطاولة.
خامسًا: الساحل – منطقة الاستقرار التي ترسم حدود الفوضى
الساحل، بوجود القواعد الروسية، هو خط أحمر.
أي توتر فيه يخلق تداعيات إقليمية مباشرة. لذلك، حتى الأحداث الأمنية الكبيرة يتم التعامل معها دوليًا باعتبارها مؤشرات حساسة يمكن استخدامها للتفاوض حول مناطق أخرى، لكنها لا تُفتح كملف مستقل.
وجود موسكو في الساحل يرسم حدود التحولات الممكنة في بقية الجغرافيا السورية.
سادسًا: مخارج ممكنة في السياسة السورية
رغم تشابك الملفات، أمام السياسة السورية فرص أبرزها بناء استراتيجية طويلة النفس تفهم منطق القوى الدولية:
1. فكّ الارتباط بين الملفات
القوى الخارجية تربط الجنوب بإدلب، وإدلب بالشرق، والشرق بالساحل.
السياسة السورية تحتاج لإعادة تجزئة هذه الملفات عبر مقاربات خاصة بكل منطقة، تجنبًا لمنح الآخرين ذرائع شاملة.
2. صياغة رؤية للرقابة الحدودية
أي فراغ حدودي يعني ترتيبات خارجية.
ملء هذا الفراغ تدريجيًا وبآليات تفاوضية يقلل الدور الخارجي.
3. مقاربة تفاوضية لملف قسد
الدمج الكامل مستحيل، والإلغاء الكامل مستحيل.
الحل في مسار تفاوضي يضمن الاستيعاب التدريجي ضمن إطار وطني، مع تقديم ضمانات أمنية تمنع تركيا من التصعيد وتمنح واشنطن مخرجًا سياسيًا.
4. ترسيخ السيادة عبر إدارة محلية منضبطة
لا سيادة بلا استقرار، ولا استقرار بلا نموذج حكم إداري محكوم بالقانون لا بالسلاح.
5. تجاوز خطاب الرفض إلى تقديم رؤية للحل
يجب تقديم رواية واضحة: ماذا تريد سوريا؟ كيف تتخيل حدود نفوذ الآخرين؟ وما شكل النظام السياسي والإداري الممكن؟
غياب الرواية يترك الآخرين يكتبونها.
سياق مختصر:
السياسة الدولية تجاه سوريا ليست لغزًا بلا مفاتيح، بل منظومة تعتمد على معادلة بسيطة:
سوريا يجب أن تبقى مستقرة بما يكفي لتفادي الانهيار، لكنها غير قوية بما يكفي لإعادة تشكيل الإقليم.
كسر هذه المعادلة يحتاج إلى سياسة سورية واقعية، مرنة، تعرف أين تتقدم وأين تناور وأين تصبر، وتدرك أن استعادة السيادة ليست لحظة، بل مسار يبدأ من الداخل وينعكس على الخارج.
أحمد سليمان
الملف صادر عن نشطاء الرأي
الرابط: https://opl-now.org/2025/11/15/ahmad-sleiman-17

المزيد من المواضيع
إقالة مُلتبسة… شخصنة القرار وسوء الإدارة في اتحاد الكتّاب
جلسة مغلقة بين الشرع وترامب: انسحاب إسرائيلي، تنمية مشروطة، ومكافحة الإرهاب
إعادة تعريف اتحاد الكتّاب في سوريا: بين المهام والاستقلالية