5 ديسمبر, 2025

مكابس الموت… قراءة متأمّلة ودعوة للتهدئة

منذ الأيام الأولى لسقوط الأسد وتحرير المدن والمناطق وصولًا إلى دمشق، ومع اقتحام السجون السرّية والعلنية وإطلاق سراح السجناء، تداخلت المعلومات وتشتّت الأخبار، حتى بات المشهد غامضًا ومربكًا. وخلال عام واحد فقط، أخذ بعض السوريين يتبادلون الاتهامات فيما بينهم، فارتبكت الصورة وامتدّ الخلاف بين رفاق الثورة وأصدقائها، وهو ما جعل الحاجة ملحّة إلى تهدئة النقاش، وفصل الحدث نفسه عن الأشخاص الذين وجدوا أنفسهم متورّطين فيه دون قصد أو بدافع الصدمة.
لقد عاش السوريون سنواتٍ طويلة اختلطت فيها الحقائق بالشائعات، وتدفّقت خلالها الأخبار بلا ضوابط ولا مساءلة. كثيرون وقعوا – بحسن نيّة – تحت تأثير خبرٍ صادم أو صورةٍ مؤلمة، فكتبوا أو أدانوا أو شاركوا، ثم تبيّن لهم لاحقًا أنّ ما نُشر كان ناقصًا أو غير دقيق. وهذا أمر طبيعي في ظلّ غياب المحاسبة الإعلامية وكثرة الجهات التي تضخّ روايات متعارضة، حيث يجد المواطن نفسه أمام سيلٍ من الأخبار يصعب التثبّت من صدقيتها.

وبالنسبة للفيديو المتداول حول ما سُمّي “مكابس الموت”، فمن الطبيعي أن يتأثر الجميع؛ فما من بيت سوري إلا وذاق ألم الاعتقال أو الفقد أو القتل أو الاختفاء. لذلك جاءت ردود الفعل حادّة، خصوصًا أنّ أول من صوّر تلك الأمكنة كانوا شبّانًا شاركوا في تحرير السجناء، ثم لحق بهم آخرون تحت تأثير الصدمة والذهول. إنّ أساليب النظام في التعذيب – كما رواها الناجون – معروفة وقاسية: التعليق من الأطراف أو الرأس، الجلد المبرح، الحرمان من الطعام والدواء، وترك الضحايا يعانون حتى الموت، ثم الإخفاء عبر الدفن الجماعي أو التذويب. وعلى الرغم من اختلاف الرواية حول حقيقة مضمون “الفيديو” و“المكبس”، إلا أنّ ما حصل في سوريا أبشع وأعمق من ذلك بكثير. ولم نكن نحتاج إلى فيديو أو رواية ناقصة، لأنّ الواقع هو مرآةٌ لوجعٍ عاشه السوريون طيلة عقود، وأعاد إلى الذاكرة صورًا من الألم الذي لم يندمل بعد.
غير أنّ المؤسف اليوم هو تحوّل النقاش إلى محاكمات افتراضية، يصدر فيها البعض أحكامًا قاطعة من دون وثائق أو أدلّة، وكأنهم قضاة يحاكمون من صوّر أو نشر أو تفاعل. بل إنّ بعض الأصوات بدأت تشمت أو تهاجم لمجرّد أنّ شخصًا ما لم يكن معارضًا للنظام في حقبةٍ كان فيها مجرد نشر فيديو مُدان كفيلًا بأن يودي بصاحبه إلى موتٍ محقّق تحت التعذيب. وهنا تكمن خطورة الانزلاق إلى دائرة الاتهامات، بدل التركيز على جوهر القضية، وهو كشف الحقيقة ومحاسبة المجرمين الحقيقيين.

إنّ السوريين – بمختلف مكوّناتهم، باستثناء المتورّطين في منظومة القتل – متفقون على حقيقة واضحة: سقوط بشار الأسد فتح أبوابًا كانت مظلمة لسنوات، وما زال السوريون يتدرّبون على ممارسة حقوقهم كمواطنين أحرار، ويسعون إلى بناء دولتهم التي يستحقونها وفق قوانين مدنية عادلة قائمة على مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية. ولذلك فإنّ المرحلة الراهنة تحتاج إلى تهدئة النفوس، لا إشعال الخلافات، وإلى تعزيز السلم المجتمعي بدل إعادة إنتاج الانقسام الذي أراده النظام يومًا ما.

علينا أن نلتفت إلى ما يجمعنا، وأن نخفّف من حدّة الاتهامات، فالغالبية شاركت – عن قصد أو بغير قصد – في تداول الأخبار: منهم من أنتجها، ومنهم من حلّلها، ومنهم من تلقّاها وأعاد نشرها. والحقيقة الكاملة ليست في يد أحد، إلا من عاش تفاصيلها لحظةً بلحظة.
إنّ فصل الحدث عن الأشخاص وتجنّب إصدار الأحكام المسبقة هو الطريق لبناء علاقة صحّية بين السوريين في هذه المرحلة الحسّاسة، وهو السبيل إلى تجاوز آثار الماضي والانطلاق نحو مستقبلٍ يليق بتضحياتهم. إن بناء سوريا الجديدة يبدأ من قدرتنا على الإصغاء لبعضنا، لا من محاكمات افتراضية تزيد الانقسام وتعمّق الجراح.

 

About The Author

error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب