لم يكن «ملفّ دمشق» حدثاً اعتيادياً في مسار توثيق الانتهاكات السورية، بل أحد أكثر الملفات تركيباً وحساسية منذ عام 2011. يمكننا القول انه جزء آخر من ملف” قيصر”.
تكوّن هذا الملف عبر سنوات من العمل المتواصل، في ممرات السجون، ومكاتب الفروع الأمنية، وعند حدود المنفى. هو حصيلة تعاون معقّد بين ضباط مسرّبين، تقنيين مختصّين، منظمات محلية ودولية، وأهالي فقدوا أبناءهم ولم يجدوا طريقاً للعدالة سوى التوثيق.
في بداياته، ظهر الملف على شكل صور مجتزأة خرجت من زنازين النظام بطرق شديدة الخطورة، ثم تكوّمت الأدلة مع الوقت: وثائق، سجلات رقمية، شهادات موظفين سابقين، روايات ناجين، وأرشفة رقمية بدأت بدائيةً ثم تحوّلت إلى منظومة جنائية متكاملة. وتمكّنت لجان حقوقية – من داخل سوريا وخارجها- من دمج هذه المواد في مصفوفة واحدة، ما جعل «ملفّ دمشق» أكبر قاعدة بيانات رسمية توثّق القتل الممنهج في السجون السورية.
قيمة الملف لا تكمن في هول الصور فقط، بل في قدرته على إثبات أن التعذيب لم يكن ممارسة فردية، بل سياسة دولة. تشابه الأساليب، تكرار العلامات على الجثامين، أرقام الفروع، الأختام الرسمية، ونمطية القتل… كلها عناصر تُظهر منهجية الجرائم على مستوى الأجهزة الأمنية كافة، ما جعل الملف قابلاً للاستخدام أمام المحاكم الأوروبية والدولية.
ورغم ضخامته، لا يزال «ملفّ دمشق» غير مكتمل، سواء من حيث السنوات المغطاة أو عدد الضحايا أو مسار انتقال النسخ بين الجهات. وهذا ما جعل الحقيقة تصل غالباً بصورة مجتزأة، ما فتح نقاشات حادة حول التوثيق، والشفافية، و«إدارة الذاكرة» السورية.
أولاً: مصادر الملف وتعقيداته
تكوّن الملف من خمس قنوات رئيسية:
- صور ومواد مسرّبة من داخل الفروع الأمنية.
- شهادات ضباط وعناصر منشقّين عملوا في التوثيق أو في نقل الجثث.
- تحليلات وتقارير صادرة عن منظمات حقوقية دولية ومحلية.
- شهادات ناجين من التعذيب والاحتجاز.
- جهود أهالي الضحايا الذين عثر كثير منهم على صور أحبّائهم ضمن محتوى الملف.
تعدّد هذه المصادر أكسب الملف قوته، لكنه جعل عملية تدقيقه ودمجه أكثر تعقيداً، وأوجد قابلية عالية لسوء الفهم حول أصله وتسلسله الزمني.
ثانياً: النواقص البنيوية في الملف
رغم الجهد الكبير، برزت ثلاثة تحديات رئيسية:
1.فجوات زمنية واسعة
المواد لا تغطي جميع السنوات ولا جميع الفروع. بعض الفجوات نتيجة ضياع مواد، وأخرى ناتجة عن تهريب متقطع وغير منظم. هذه الفجوات فتحت باب التأويل حول «مدى شمول الملف».
2.تضارب في إدارة النسخ
تنقّل الملف بين عدة منظمات محلية ودولية. بعضها واجه اتهامات بحجب مواد أو تأخيرها بدوافع سياسية أو تمويلية، فيما ردّت منظمات أخرى بأن نشر المواد دون تدقيق جنائي يضر بالقضايا القانونية أمام القضاء الأوروبي. هذا التضارب خلق ارتباكاً عاماً وشكّك بعض الجمهور في نوايا الجهات الممسكة بالملف.
3.الجدل حول تسليم نسخة إلى الحكومة السورية جديدة
ذكر معلومات تشكيل بأن نسخة كاملة من الملف وصلت إلى الحكومة الانتقالية قبل ثلاثة أشهر. لكن حتى الآن:
- لا يوجد تأكيد رسمي من الحكومة.
- لا بيان مشترك مع الجهات الموثِّقة.
- ولا توضيح قانوني لمفهوم «التسليم» وهل يشمل المواد الخام أو النسخ المنقّحة أو التقارير التحليلية فقط. هذا الغياب للمعلومات زاد ارتباك عائلات الضحايا.
ثالثاً: الأهالي… الجرح الذي لا يلتئم
خلف كل صورة وثيقة عائلة تبحث عن يقين. يعيش الأهالي أربع صدمات متواصلة:
صدمة التعرّف:
كثيرون وجدوا أبناءهم للمرة الأولى بين صور الجثامين، في مشهد قاسٍ يفتح الجرح ولا يختمه.
صدمة التضارب الإعلامي:
كل خلاف بين المنظمات أو الحكومات يجعل الأهالي يشعرون بأن أبناءهم يتحولون إلى أوراق سياسية.
صدمة الغياب القانوني:
حتى اليوم، لم يحصل معظمهم على شهادات وفاة رسمية، ما يعطل حقوق الإرث والوضع القانوني.
صدمة الشائعات:
الحديث عن «نسخة مسلّمة» أو «أجزاء ناقصة» يضعهم بين أمل بالحقيقة ويأس من أن يصبح مصير أحبّائهم مادة للتجاذب.
رابعاً: نحو استعادة الحقيقة كاملة
«ملفّ دمشق» ليس نهاية الطريق، بل بداية مسار طويل نحو العدالة الانتقالية. استعادته كوثيقة وطنية وشهادة جنائية مشتركة يحتاج إلى خطوات واضحة:
- إطار وطني للعدالة الانتقالية يربط الحكومة الانتقالية بالمنظمات الدولية.
- توحيد قواعد البيانات الحقوقية وتحديد النسخة الأصلية من الملف.
- إعلان رسمي يوضح طرق التدقيق ومصادر المواد، تعزيزاً للشفافية أمام الأهالي والرأي العام.
- إنشاء مركز أرشيف وطني يحفظ الأدلة ويمنع تسييسها أو ضياعها.
- مسار قانوني ملزم يضمن استخدام المواد لمحاكمة المتورطين.
- سياسات حماية ودعم للأهالي تشمل الدعم النفسي والاعتراف القانوني.
القراءة الختامية: نحو استعادة الحقيقة كاملة
لا يجوز التعامل مع «ملفّ دمشق» باعتباره وثيقة منتهية أو سرداً نهائياً للوقائع، بل ينبغي النظر إليه بوصفه حجر أساس في مسار بناء العدالة الانتقالية. ورغم الجهود الكبيرة التي بُذلت لإخراجه إلى العلن، يبقى هذا الملف غير مكتمل، ولا يمكن اعتباره الحقيقة النهائية. ولكي يتحوّل إلى أداة عدالةٍ فعلية، يتطلّب الأمر إعلاناً رسمياً يحدّد النسخة الأصلية ويشرح آلية تداولها بين الجهات المعنية، مع ضمان إشراك أهالي الضحايا في القرارات المتعلقة بالنشر والتدقيق، وتوحيد جهود المنظمات الحقوقية لصون سلامة البيانات، وفتح مسار قضائي عادل يهدف إلى المحاسبة لا مجرد التوثيق.
إن استخلاص الحقيقة كاملة ضرورة إنسانية وأخلاقية وقانونية وسياسية. فمن دونها تبقى الذاكرة السورية مشرذمة، ويبقى الجرح مفتوحاً مهما تغيّرت الحكومات.
إشارة لا بدّ منها:
يتفق معظم المدافعين عن حقوق الإنسان على أنّ بدايات التوثيق تعود إلى عام 2011، غير أنّ الصيغة الحالية للملف نتاج عملية تراكمية امتدّت لسنوات لاحقة. وتشير المعطيات المتاحة إلى ارتفاع ملحوظ في معدلات الوفيات بين عامَي 2015 و2017، قبل أن تتراجع تدريجياً حتى عام 2024. أما الثابت لدينا فهو أنّ المواد جُمعت من تسريبات متعددة ومتباعدة زمنياً، وهو ما يفسّر الفجوات في السجلّ واختلاف جودة الأدلة.
● المراجع الدولية للملف:
1.لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا – UN COI
(أعلى مصدر أممي موثوق للانتهاكات في السجون السورية)
2.الآلية الدولية المحايدة والمستقلة – IIIM
3.(الجهة الأممية المسؤولة عن جمع الأدلة الجنائية)
4.مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان – OHCHR
5.(تقارير الإخفاء القسري والتعذيب)
6.منظمة العفو الدولية – Amnesty International
7.(تقرير صيدنايا: “المسلخ البشري”)
8.هيومن رايتس ووتش – Human Rights Watch
(توثيق الاعتقال والتعذيب والقتل تحت الاحتجاز)
9.المركز السوري للعدالة والمساءلة – SJAC
10.(تحليل الأدلة والملفات الرقمية)
11.محكمة كوبلنز الألمانية – Oberlandesgericht Koblenz
(أول حكم جنائي عالمي يثبت التعذيب الممنهج)
إعداد: أحمد سليمان
صادر عن: نشطاء الرأي

المزيد من المواضيع
مكابس الموت… قراءة متأمّلة ودعوة للتهدئة
الأمن الإقليمي في الجنوب السوري والجولان: من اتفاقية فكّ الاشتباك 1974 إلى قرارات الأمم المتحدة 2025
توم باراك بين بغداد ودمشق… هندسة صراع أم صفقة سلام؟