25 ديسمبر, 2025

قاسيون واختبار العدالة المكانية في دمشق

في أي نقاش جدي حول مستقبل المدن، لا يمكن فصل التنمية عن مفهوم العدالة المكانية، ولا العمران عن حق الناس في الطبيعة والهواء والذاكرة. دمشق اليوم، وهي واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، تقف عند مفترق حساس: إما أن تُستعاد كمدينة قابلة للحياة، أو أن تُستكمل عملية خنقها بالإسمنت تحت عناوين استثمارية براقة تخفي فقرًا تخطيطيًا عميقًا.
ليس من المنطقي، ولا من الحكمة، أن تُدفع المشاريع السياحية والفندقية إلى قلب المدينة ومناطقها الطبيعية الحساسة، في حين أن محيط دمشق يضم مساحات شاسعة قابلة للتطوير دون إلحاق ضرر بالبيئة أو مصادرة حق السكان في الفضاء العام. الغوطة، السفوح البعيدة، والمناطق غير المأهولة أو قليلة الكثافة، كلها أماكن يمكن أن تحتضن فنادق ومنتجعات ومشاريع ترفيهية حقيقية تُضيف للاقتصاد ولا تنتقص من المدينة. الإصرار على قاسيون تحديدًا يطرح سؤالًا مشروعًا: هل المسألة تنمية فعلًا، أم سيطرة رمزية واقتصادية على أحد أهم معالم دمشق؟

جبل قاسيون ليس مجرد كتلة صخرية تطل على العاصمة؛ إنه عنصر أساسي في توازنها البيئي، ومشهد بصري تشكّلت حوله ذاكرة جماعية عميقة. عبر عقود طويلة، شكّل الجبل المتنفس الوحيد لمدينة تتوسع أفقيًا وعموديًا بلا حساب. وأي عبث بهذا التوازن لا يمكن تعويضه لاحقًا بزراعة شجر هنا أو هناك، لأن العلاقة بين المدينة وجبلها علاقة بنيوية وليست تجميلية.
الخطورة الحقيقية في الزحف الإسمنتي على قاسيون لا تكمن فقط في تشويه المشهد الطبيعي، بل في تكريس نموذج إقصائي للمدينة: مدينة تُدار وفق منطق الامتياز، حيث تتحول المواقع العامة إلى مساحات مغلقة، ويُعاد تعريف الحق العام على أساس القدرة المادية. حين يُبنى فندق فاخر أو مجمع سياحي على سفح الجبل، فهو لا يضيف مساحة للناس، بل يسحب منهم ما كان متاحًا للجميع، ويعيد بيعه لهم بشروط لا يستطيع معظمهم تلبيتها.
هذا المنطق ليس جديدًا على السوريين. لقد خبروا طويلًا كيف استُخدم “التطوير” غطاءً للاستيلاء على الأملاك العامة، وكيف تحولت الدولة من حارس للفضاء المشترك إلى وسيط بين الأرض ورأس المال. لذلك، فإن أي مشروع يُطرح اليوم دون شفافية كاملة، ودون نقاش عام حقيقي، سيُقابل طبيعيًا بالريبة والرفض، مهما كانت لغته ناعمة.
إلى جانب البعد البيئي والعمراني، يحمل جبل قاسيون بعدًا آخر لا يقل أهمية: بعده الأمني وتاريخه القريب. فالجبل لم يكن، خلال عقود النظام البائد، فضاءً مدنيًا مفتوحًا، بل استُخدم كمقر لثكنات عسكرية ومواقع أمنية مغلقة. هذا الاستخدام لم يكن بريئًا، بل جزءًا من سياسة أوسع لعسكرة الجغرافيا وعزلها عن المجتمع. الجبل، كما غيره من المواقع المرتفعة والاستراتيجية، حُوِّل إلى منطقة محظورة لا يراها الناس إلا من بعيد.
من هنا تبرز ضرورة أساسية لا يجوز القفز فوقها: البحث والتنقيب الجدي تحت هذه الثكنات العسكرية. فالتجربة السورية، للأسف، علمتنا أن ما يوجد فوق الأرض ليس كل شيء، وأن ما تحتها قد يكون أخطر وأهم. مخابئ، أنفاق، مستودعات أسلحة، أرشيفات أمنية، أو حتى مواقع احتجاز غير معلنة… كلها احتمالات لا يمكن تجاهلها. وأي حديث عن استثمار أو بناء فوق هذه المواقع دون تفكيك كامل لإرثها الأمني هو مخاطرة سياسية وأخلاقية، وقد يبدو كما لو أنه محاولة متعمدة لطمس معالم مرحلة يجب كشفها لا دفنها بالإسمنت.
تفكيك الثكنات لا يعني فقط إزالة المباني، بل فتح ملفاتها، التحقيق في استخدامها، وتوثيق ما جرى فيها. هذا جزء من العدالة الانتقالية، حتى لو لم يُسمَّ كذلك رسميًا. فالأماكن تحتفظ بذاكرتها، ومحاولة محوها بالقوة العمرانية لا تلغي آثارها، بل تؤجل انفجار الأسئلة.
الحديث عن قاسيون ليس دفاعًا عاطفيًا عن منظر جميل، بل قراءة واعية لدور الجبل كمتنفس بيئي، وكنقطة توازن لمدينة تختنق. والأهم من ذلك، التنبيه إلى الإرث العسكري للنظام البائد في الجبل، وضرورة البحث تحت هذه الثكنات، يضع الإصبع على جرح مسكوت عنه: لا يمكن بناء مستقبل صحي فوق طبقات من القمع غير المفكك.

دمشق اليوم بحاجة ماسة إلى تخطيط حضري مختلف؛ تخطيط يعترف بأخطائه السابقة ولا يكررها بأسماء جديدة. المدن التي تحترم سكانها توسّع مساحاتها الخضراء، تحمي سفوحها، وتمنع البناء في المناطق الحساسة، لأنها تدرك أن كلفة المنع اليوم أقل بكثير من كلفة العلاج غدًا. التلوث، ارتفاع درجات الحرارة، الاختناق المروري، وتراجع جودة الحياة ليست قضايا نظرية، بل نتائج مباشرة لخيارات عمرانية سيئة.
الأخطر أن قاسيون ليس حالة منفردة. ما يُفعل به اليوم يمكن أن يتكرر في اللاذقية، في الغابات، على الشواطئ، وفي المواقع الأثرية. لذلك، فإن المعركة حوله ليست محلية أو نخبوية، بل مبدئية. هي معركة حول معنى الملكية العامة، وحول دور الدولة: هل هي حارس للصالح العام أم مدير مشاريع لصالح قلة؟
إن الدفاع عن جبل قاسيون لا يعني رفض الاستثمار أو السياحة، بل المطالبة بسياحة ذكية، موزعة، تحترم البيئة والناس والتاريخ. فالسياحة التي تُدمّر ما يفترض أن تُسوّق له هي سياحة انتحارية، حتى بمنطق السوق.
في الخلاصة، قاسيون اليوم اختبار مبكر لمرحلة ما بعد النظام البائد: اختبار لمدى القطيعة مع عقلية العسكرة، ومع منطق الخصخصة المقنّعة، ومع فكرة أن الأرض تُدار دون أهلها.
إما أن يبقى الجبل رئة مفتوحة لدمشق، وفضاءً عامًا يُعاد إليه اعتباره بعد عقود من الإغلاق،
أو يتحول إلى شاهد جديد على فشلنا في التعلم من الماضي.
والمدن، مثل البشر، لا تموت فجأة، بل تختنق ببطء. وقاسيون، حتى الآن، ما زال يتنفس.

 

الرابط : https://opl-now.org/2025/12/25/sleiman-63/

About The Author

error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب