بينما كنت في الطريق إلى بيتي، رأيت شابًا صغيرًا لا يتخطى السابعة عشرة، صحبة طفلة ذات السنوات الثماني. بدا لي خائفًا حدّ السقوط. سألته عن وجهته، فأجابني: “نحن هربانين من الكونترول، ما عنا مصاري”. ثم أعطاني رقم أمه في هولندا كي أهاتفها. طلبتُ منه رؤية الوثائق والأوراق التي معه حتى أستطيع مساعدته، فأعطاني كامل ملفه. قلت له: لا تقلق، أنت الآن في مكان آمن، ولن يزعجك أحد، لأنك تملك استمارة مرور مكتوبٌ عليها وجهتك. في المحطة القادمة، نحن مضطرون للنزول تجنبًا للمخالفة المالية الكبيرة. سننزل معًا ونتكلم مع أمك، وسوف أساعدكما للسفر بأمان.
في هذه الأثناء، رأيت الطفلة توشوش الشاب، ففهمت منهما أنهما غير مطمئنين. على الفور، قلت لهما: سأرسم لكما طريق الذهاب إلى هولندا ريثما نصل المحطة القادمة، وتستطيعان المتابعة بدون أي قلق.
دخلتُ إلى غوغل وحددتُ المكان الذي نحن فيه، وصولًا إلى آخر مدينة ألمانية على حدود هولندا، حيث سينزلان لتغيير القطار الذي سيقلهما إلى لاهاي.
طلب مني أن أزوده بخريطة إلى ما بعد ذلك، وعدد المحطات التي سيمران بها. قلت له: عندما ننزل، سوف أستخرج لكما برنامجًا مفصلًا من موظفة القطارات، وسوف تتمكنان من السفر بدون أية عوائق.
طلب مني أن أُضيفه على “واتساب” بهدف التواصل إذا اقتضى الأمر، ففعلت. أيضًا طلب مني إضافة رقم أمه كي أبلغها عن برنامج ذهابهما.
على الفور، وصلتني إشارة: “من أنت لو سمحت؟”
طلبت من الشاب الرد مباشرة. عرفت حينها أن أمهم عادت إلى ألمانيا، وهي في قرية لا تعرف اسمها باللفظ الألماني. طلبتُ منها أن تستعين بأي شخص ألماني موجود في محيطها.
فأرسلت لي ردًا أنها تبعد عن ميونخ 120 كم، ثم طلبت مني أن أبقي الطفلين لديّ ريثما تأتي هي إلى ميونخ.
قلت لها: لديهما بطاقة تمكنهما من السفر إليكِ، لا تقلقي، سوف أُدخلهم، وذلك ليس صعبًا. لكنها أصرت بأن تأتي هي لتأخذهما، وحددت بأنها ستكون في اليوم التالي بمحطة القطار بعد الساعة الثانية ظهرًا.
أجبتها: لا بأس، سيكونان بأمان ريثما تأتين.
الإشكالية في الأمر أنني انتقلت إلى شقة جديدة، وكل أمور البيت ما زالت غير مهيأة لاستقبال أحد.
قلت لهما: إننا سنعاني لقضاء ليلة من الفوضى، لكنكما ستكونان بأمان.
كان ذلك يوم السبت. توجهنا على الفور إلى الماركت، وأخذنا ما نحتاجه ليومين، وبعض السكاكر، وما تريده الصغيرة.
في المنزل، فتحنا التلفاز على مشهد أخبار التقاصف والمجازر الروسية الأسدية في بلدنا. ثم أكلنا، وانتشرنا للتجول بمحيط المنزل. كان الطقس باردًا جدًا، فعُدنا على الفور إلى المطبخ، بينما الصغيرة تفرغت للتلفاز ومشاهدة “توم وجيري”.
طرق باب البيت، وإذا بجارتنا تسأل إن كانت الصغيرة تحتاج لمساعدة.
أجبتها بأنها لا تتكلم الألمانية، فسيكون ذلك صعبًا.
قالت: لا تقلق، سأتصرف، لدي أطفال وأرغب بأن يلعبوا معًا في المنزل.
سألت الطفلة، واسمها “وجد”، لكنها رفضت، وفضّلت البقاء في المنزل.
اعتذرت من السيدة وطلبتُ منها أن تأتي بطفليها. فعلت بلا تردد، وقد جلبت كافة الألعاب، ثم امتلأ البيت بصخب طفولي عظيم.
سألتني السيدة: هل هؤلاء إخوتك؟ وأين أمهم؟
وجدتُ نفسي مضطرًا لإخفاء بعض المعلومات تجنبًا للمساءلة.
الشيء المهم في الأمر أن الجميع لا يتقن لغة للتفاهم سوى الإيماء الطفولي.
أخذتُ الشاب جانبًا وشرحت له الموقف المحرج بالنسبة لي، لأني قلت للسيدة بأن ضيوفي هم أقرباء، وسوف تأتي أمهم غدًا.
بعد قليل، جاءت “وجد”، وقفزت نحوي قائلة: “عمو، إنت مثل بابا… الله يرحمو”، ثم وضعت قبلة طفولية.
كدتُ أختنق لشدة عاطفتي إزاء الأطفال وقسوة ما سمعته عن موت والدها.
انصرفت “وجد” إلى الألعاب والطفلين الجميلين مثلها، تمنيتُ لها أن تكون مسرورة وألا تشعر بالفراغ.
انتبهت السيدة للموقف، سألتني: هل أنت بخير؟
أجبتها: دائمًا بخير طالما إلى جانبي عائلتان.
ابتسمت وأثنت على كلامي.
ثم ذهبنا إلى المطبخ لتحضير بعض السوائل، الشاي والعصائر وما يحبه الجميع.
غابت لنصف ساعة، ثم عادت وبيديها حساء الدجاج، كانت قد أعدّته قبل زيارتها.
وهكذا إلى أن صار المساء، حيث أعددنا طاولة عامرة بالطعام.
في اليوم التالي، أي حين التقينا الأم في محطة القطار، طلبتُ منها التفكير في الوجهة الصحيحة لطلبات اللجوء، ورحت أستمع أيضًا لقصتهم التي أثارت فضولي.
أدركتُ حينها أنهم سيكونون في ذمتي، ويترتب عليّ توجيههم.
أول ما لفت انتباهي صغر سنها، فهي بالكاد تتخطى الثلاثين أو أكثر بعامين.
سألتُ الأم عن الشاب الصغير ولهفة اهتمامه بالطفلة “وجد”.
قالت: حين تزوجتُ، كان عمر أخي “موسى” عشرة أعوام، وكان متعلقًا بي بشكل كبير.
نحن بالأصل من عائلة يتامى، توفي والدانا بحادث سير، وتربّينا عند أختي الكبرى.
عند بدء الثورة، اختفى زوجي عند حاجز للنظام، ثم فقدنا أثره.
أنفقنا ما بوسعنا من مال ووقت، إلى أن عرفنا قبل عامين أنه تم استهداف مكان احتجازه بالقصف، من ذات القوات النظامية التي كانت تحرسهم.
قيل لنا بأن السجن تعرض لهجوم في محاولة لتحرير المكان.
بعد ذلك، طلبت من أخي الصغير أن يلازمني في البيت، وهكذا عشنا معًا، كما لو أنني أم له و”لوجد”.
تفرّقنا حين اشتد القصف على حماة.
تعرض منزلنا للقصف فيما كنا في زيارة لأختي الكبرى، وقد استطاعت إخراجنا إلى تركيا، صحبة زوجها وأولادها.
لكننا أثناء رحلة العبور من البلقان تهنا، وقد سجلتُ أسماء الجميع ومواصفاتهم لدى الصليب الأحمر كي يساعدني في العثور عليهم.
عندما كنت في هولندا، وصلتني إشارة من “واتساب” بأنهم تحصلوا على معلومات مطابقة لأختي وعائلتها، بأنهم ربما في ألمانيا، لهذا السبب عدتُ إلى ولاية بايرن حسب الإشارة التي وصلتني.
سألتها: وكيف تركتِ ابنتك وأخيك؟
قالت بأسف: طلبتُ منهم أن يتقدما بطلب اللجوء في النمسا، واتفقتُ معهم أن أذهب إلى هولندا لعدة أيام، وإذا وجدتُ الأمور هناك جيدة سأطلب من السلطات استقدامهم.
لكنني صُعقت حين وصلتني رسالتك التي تبلغني فيها أن “وجد” و”موسى” في ألمانيا، وفي طريقهم إلى هولندا.
كان ذلك مفاجأة بالنسبة لي، فلم أعرف لماذا لم يقدّما اللجوء في النمسا حسب طلبي منهما، خصوصًا أنني تركتهم بأمان مع سيدة وزوجها، وهم من معارفنا.
على الفور، تدخّل “موسى” قائلًا: أثناء وجودنا في النمسا، قالوا لنا: لا أمل بالبقاء فيها، وسوف نكون برعاية مؤسسة وصية علينا.
حينها خفنا من عدم استطاعتك بجلبنا، ولهذا السبب اقترحوا علينا السفر بالقطار الذي يذهب إلى مدينة “باساو”، أول نقطة حدودية بألمانيا، ومن هناك صعدنا مع أشخاص بقطار آخر، وتعقبنا رسائلك من هولندا واسم الكامب الذي ذكرناه للبوليس، ثم أعطونا ورقة مرور.
21.11.2015
المصدر: نشطاء الرأي
المزيد من المواضيع
السويداء بين فلول النظام والهجري وتفاهمات الدولة.. ملامح إعادة تشكّل الجنوب السوري
موسكو بين إرث الجرائم وصفقة النفوذ / زيارة أحمد الشرع تفتح ملف الدور الروسي في سوريا.
لافروف… محامي الشيطان في محكمة الذاكرة السورية