تحليل الحالة السورية: بين تعثر الحوار الوطني واستمرار الاستعصاء السياسي

أحمد سليمان: يهدف هذا التحليل إلى استكشاف الديناميكيات السياسية المحيطة بالحوار الوطني، وتسليط الضوء على العوامل التي ساهمت في تعثره، في ظل تعقيدات المشهد الداخلي والإقليمي.
تسارعت التطورات في الساحة السورية أبرزها ما تمخض عن مسار الحوار الوطني، والذي انطلقت فكرته بعد وصول هيئة تحرير الشام إلى دمشق وتوليها زمام الأمور. مما شكل تحولًا مفصليًا في المشهد السياسي. ترافق ذلك مع انعقاد مؤتمر العقبة الدولي/الإقليمي، الذي دعا إلى تشكيل حكومة جامعة تضم جميع الأطراف، في محاولة لاحتواء الانقسامات الداخلية وتهيئة الأرضية لمرحلة انتقالية. ومع ذلك، كشفت التحضيرات المحدودة والارتباك الإداري عن هشاشة العملية، مما أثار شكوكًا واسعة حول جدية الحوار وإمكانية تحقيق نتائج ملموسة.
تطور فكرة الحوار الوطني ومسارها
انبثقت فكرة الحوار الوطني كاستجابة سريعة للتغيرات الميدانية، حيث برزت الحاجة لاحتواء الفصائل المتصارعة وإيجاد إطار جامع يحدد مستقبل البلاد. جاءت الدعوات لعقد المؤتمر في أجواء مضطربة، في ذات الوقت الذي انعقد فيه مؤتمر العقبة، الذي أكد أهمية تشكيل حكومة انتقالية شاملة. ومع ذلك، سرعان ما تآكلت طموحات الحوار،لينتقل من كونه مؤتمر لصياغة مستقبل سوريا إلى مجرد مساحة لتبادل وجهات النظر، دون أي التزام بتنفيذ مخرجاته.نشأت فكرة الحوار الوطني كاستجابة سريعة للتحولات الميدانية، مع تزايد الحاجة لاحتواء الفصائل المتصارعة ضمن إطار سياسي مرن يعيد ترتيب الأولويات الوطنية. جاءت الدعوات لعقد المؤتمر في ظل أجواء معقدة، في وقت تكثفت المساعي الإقليمية لتشكيل حكومة انتقالية كخطوة أولى نحو إعادة بناء الدولة. إلا أن الخلافات العميقة بين الأطراف المتنازعة وغياب رؤية استراتيجية موحدة أدّيا إلى تفريغ الحوار من مضمونه، ليصبح مجرد حلقة نقاشية تفتقر إلى آليات التنفيذ والمتابعة.
العوامل المؤثرة في مسار الحوار الوطني
تداخلت عدة عوامل داخلية وخارجية أثرت بشكل مباشر على مسار الحوار الوطني، أبرزها:
- الدور الدولي والتباينات الأوروبية: رغم الترحيب الأوروبي بالاستقرار النسبي في دمشق، فإن الرسائل المتضاربة حول أولوية الحوار أربكت المشهد، حيث رأى البعض أن دعم الاستقرار يجب أن يسبق أي عملية سياسية حقيقية.
- التوغل الاسرائيلي في الجولان والتصريحات الاستفزازية ل بنيامين نتنياهووالتي تشيرإلى فرض واقع أمني جديد، في خطوة تستغل فيها تشابك الأوراق السياسية والعسكرية في الداخل السوري.
- الضغوط التركية وحل الائتلاف الوطني: أضعف تفكك الائتلاف الوطني لقوى المعارضة من زخم الحوار، إذ تراجعت الثقة في إمكانية الوصول إلى توافق شامل دون وجود ممثلين فعليين عن المعارضة التقليدية.
- الانقسامات الجهادية والسلفية: عكست الخلافات داخل الأوساط السلفية، خصوصًا المقربة من هيئة تحرير الشام، تعقيدات أيديولوجية عميقة، حيث تباينت الآراء بين من يرى في الحوار فرصة سياسية، ومن يرفضه باعتباره تقويضًا للمنهج الجهادي.
- التأثيرات الإقليمية المتشابكة: لعبت القوى الإقليمية، مثل قطر والسعودية، أدوارًا متباينة، إذ دعمت بعض المبادرات لدفع المرحلة الانتقالية، بينما ساهمت تدخلات أخرى في تعميق الاستقطابات الداخلية، ما جعل التوافق أكثر تعقيدًا.
أسباب تعثر الحوار الوطني
أدى تضافر العوامل السابقة إلى إجهاض فرص نجاح الحوار الوطني، ويمكن تلخيص الأسباب الرئيسية للتعثر في النقاط التالية:
- التسرع في إطلاق الحوار: جاء انعقاد المؤتمر دون تحضيرات كافية، مما أضعف ثقة الأطراف في جدية العملية.
- تغير الأهداف السياسية: بدلًا من أن يكون الحوار محطة حاسمة لرسم ملامح المستقبل، تحول إلى منتدى غير ملزم، يفتقد للسلطة التنفيذية أو آليات متابعة المخرجات.
- الانقسامات الداخلية: عمقت الخلافات بين القوى السلفية والفصائل المسلحة حالة التشرذم، خاصة مع استمرار بعض الفصائل في رفض أي تسوية سياسية.
- ضعف البنية التنظيمية للمؤتمر: غياب جدول أعمال واضح، وتخصيص وقت محدود للمداخلات، أفقد المؤتمر مصداقيته، وأدى إلى انسحاب بعض المشاركين اعتراضًا على الفوضى التنظيمية.
الاستعصاء السياسي: تعقيدات المشهد السوري
تعيش سوريا حالة استعصاء سياسي عميق، مع غياب إطار سياسي جامع قادر على استيعاب التناقضات الداخلية والضغوط الخارجية. ويمكن رصد أبرز ملامح هذا الاستعصاء في:
- التوترات الطائفية والمناطقية: تصاعد الاحتقان الطائفي، خاصة مع استمرار التوتر في السويداء، والقلق المتبادل بين العلويين وبقية المكونات، مما يعمق الانقسامات المجتمعية.
- الدور المتقلب لـ “قسد”: استغلال قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لملفات النفط وإدارة السجون كورقة ضغط للحصول على امتيازات سياسية، زاد من تعقيد العلاقات بين دمشق والمناطق الكردية.
- التصلب الجهادي: استمرار بعض الفصائل الجهادية في رفض الانخراط في أي مسار سياسي، وتمسكها بالحلول العسكرية، يعرقل أي أفق للحل.
- التناقضات الإقليمية والدولية: تذبذب السياسات الأمريكية، وتنامي الضغوط التركية، خلق حالة من عدم الاستقرار، حيث تباينت مواقف الدول الفاعلة بين دعم الاستقرار والضغط لتحقيق إصلاحات سياسية.
التداعيات المحتملة والسيناريوهات المستقبلية
في ظل استمرار حالة الشلل السياسي، يمكن استشراف مجموعة من السيناريوهات المحتملة، أبرزها:
- تمديد المرحلة الانتقالية إلى أجل غير مسمى: استمرار غياب الحلول السياسية قد يؤدي إلى حالة من الجمود السياسي المطول، مع بقاء البلاد في حالة انتقالية هشة.
- تآكل شرعية الحكومة: مع تزايد الأعباء المعيشية، وتدهور الخدمات الأساسية، قد تفقد الحكومة تدريجيًا شعبيتها، مما يفتح الباب أمام موجات جديدة من الاحتجاجات.
- تصاعد العنف الطائفي والمناطقي: في ظل غياب أي مصالحة وطنية شاملة، قد تتفاقم التوترات الطائفية، خاصة في المناطق ذات التنوع الديمغرافي الحاد.
- زيادة التدخلات الخارجية: استمرار انعدام الحلول الداخلية سيغري الفاعلين الإقليميين والدوليين بزيادة تدخلاتهم، مما يعمق تعقيدات المشهد، ويجعل الحل السياسي أكثر بعدًا.
المأزق السوري بين الحاجة للحوار واستدامة الاستعصاء
تكشف التجربة السورية أن غياب الإرادة السياسية الحقيقية، واستمرار الاعتماد على المقاربات الأمنية، يعمقان الأزمة بدلًا من حلها. إن نجاح أي حوار وطني يتطلب تحضيرات جدية، وإطارًا توافقيًا يحترم تطلعات جميع المكونات. ما لم تُبذل جهود حقيقية لتقريب وجهات النظر، وإيجاد خارطة طريق واضحة للعدالة الانتقالية، فإن سوريا قد تبقى رهينة الاستعصاء السياسي، مع استمرار دوامة العنف وعدم الاستقرار.