يشهد الشعب السوري منذ سقوط النظام الاستبدادي في دمشق في كانون الأول/ديسمبر 2024 تحولًا مفصليًا في مسار تاريخه المعاصر، إذ دخلت البلاد مرحلة انتقالية تحمل تطلعات واسعة نحو إعادة بناء الدولة على أسس جديدة من العدالة والمشاركة الوطنية. ورغم ما شاب التجربة الأولى للحكومة الجديدة من ضعف بنيوي وتحديات أمنية جسيمة، لا سيما في الساحل والسويداء، فإن الأمل الشعبي ظل معقودًا على تجاوز آثار الحقبة السابقة واستعادة السيادة الوطنية.
وفي هذه الأجواء المضطربة،، برزت ميليشيا “قسد” كلاعب غير شرعي يسعى إلى فرض أمر واقع سياسي واقتصادي في شمال شرق البلاد. فقد شرعت بعقد اجتماعات مع شخصيات محسوبة على النظام السابق، وشاركت في تحالفات سياسية مثيرة للجدل زادت من تعقيد المشهد في الجنوب والغرب والشمال. ويبدو أن هذه التحركات لم تكن سوى محاولة مدروسة لاستغلال هشاشة الوضع الأمني والسياسي، بهدف تصدير نموذجها الخاص الذي يتجاوز حدود الإدارة المحلية، ويخفي خلفه مشروعاً انفصالياً يتناقض صراحة مع وحدة البلاد وسيادتها الوطنية.
وفي هذا السياق، أعلنت “قسد” عن نيتها استقبال مستثمرين لإقامة مشاريع تنموية في مناطق سيطرتها. ورغم محاولتها تقديم هذه الخطوة بغطاء تنموي، فإنها تثير إشكاليات خطيرة من زاويتين أساسيتين: أولًا، تجاهلها للحق السيادي للشعب السوري في موارده الوطنية؛ وثانيًا، صدورها عن جهة لا تتمتع بأي شرعية قانونية أو تمثيلية، ما يجعل هذه العقود محل طعن قانوني وسياسي في المرحلة الانتقالية.
إن النظر في هذه الخطوة يستوجب معالجة شاملة تتناول: التوصيف الواقعي لهذه الميليشيا، الأطر القانونية الدولية والوطنية ذات الصلة، الوضع القانوني لعقودها، الأبعاد الحقوقية والإنسانية، فضلاً عن المخاطر المباشرة التي تهدد المستثمرين المتورطين في التعامل معها.
أولاً: التوصيف الواقعي لميليشيا “قسد”
رغم تقديم نفسها كـ “إدارة ذاتية” محلية، فإن “قسد” في حقيقتها ميليشيا مسلّحة عابرة للحدود، تشكّلت من كوادر مرتبطة بحزب العمال الكردستاني التركي (PKK) المُحل شكلياً، وتضم قيادات من أكراد تركيا والعراق وإيران، مع واجهة عربية شكلية لا تملك أي تأثير فعلي على القرار السياسي أو العسكري.
هذا التكوين يجعلها سلطة أمر واقع لا تمثّل الإرادة الحقيقية لسكان المناطق التي تسيطر عليها. انتشارها العسكري في مناطق ذات أغلبية عربية يُنظر إليه كاحتلال داخلي مفروض بالقوة، مدعوم بدعم خارجي عسكري وسياسي، أكثر مما هو تعبير عن إرادة محلية.
وبذلك، فإن أية عقود استثمارية تعقدها “قسد” ليست سوى محاولة لشرعنة سيطرة غير مشروعة على أراضٍ وموارد ليست لها، ولا يمكن أن تُلزم الشعب السوري أو الدولة الشرعية القائمة في دمشق.
ثانياً: الإطار القانوني الدولي والوطني
- مبدأ السيادة الدائمة على الموارد الطبيعية قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1803 (1962) نصّ بوضوح على أن للشعوب والدول السيادة الدائمة على ثرواتها ومواردها الطبيعية، وأن أي استغلال لهذه الموارد يجب أن يتم وفق مصالح الشعوب وسيادتها. لا يمكن لأي سلطة أمر واقع، لا تمتلك الشرعية التمثيلية، أن تبرم عقوداً ملزمة على هذه الموارد.
- ميثاق الأمم المتحدة المادة الثانية (الفقرة 1) تؤكد على احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها. إن أي تصرف أحادي من قبل قوى غير معترف بها دولياً في شؤون الموارد الوطنية يُعتبر خرقاً واضحاً لهذا المبدأ، ويعرّض مرتكبيه ومشاركيهم للمساءلة.
- القانون الدولي الإنساني البروتوكولات الإضافية لاتفاقيات جنيف (1977) تفرض على الأطراف المتنازعة واجب حماية السكان المدنيين وعدم استغلال مواردهم لمصلحة عسكرية أو سياسية ضيقة. استحواذ “قسد” على النفط والقمح والغاز خارج إطار الدولة يمثل انتهاكاً لهذه القواعد.
- القانون الدستوري السوري الدستور السوري (2012) وما يليه من المبادئ الدستورية الانتقالية بعد 2024 ينص على أن الثروات الطبيعية ملك للشعب السوري وتدار حصراً من قبل الدولة. لا يملك أي طرف غير دستوري أهلية قانونية للتصرف فيها.
ثالثاً: الوضع القانوني لعقود “قسد”
بطلان مطلق: العقود التي تُبرمها “قسد” لا تستند إلى أي سند قانوني، فهي تصدر عن كيان غير شرعي لا يمتلك الأهلية التعاقدية باسم الشعب السوري.
قابلية الإلغاء: هذه العقود يمكن أن تُلغى فوراً من قبل السلطة الشرعية أو أي جهاز قضائي انتقالي، دون أن يترتب على الدولة التزام قانوني بتعويض المستثمرين. وتشمل آليات الإلغاء المحتملة:
- القضاء الانتقالي السوري، الذي يملك صلاحية إصدار قرارات ببطلان العقود غير الشرعية.
- المحاكم الدولية المختصة، في حال تورط جهات أجنبية أو شركات متعددة الجنسيات.
- لجان العدالة الانتقالية، التي يمكن أن تُدرج هذه العقود ضمن ملفات الانتهاكات الاقتصادية.
انتهاك للملكية الجماعية: العقود تمثل خرقاً لحق السوريين جميعاً في مواردهم الطبيعية، وتُعتبر شكلاً من أشكال الاستحواذ غير المشروع على الممتلكات العامة.
رابعاً: الأبعاد الحقوقية والإنسانية
- الحرمان من التنمية: رغم سيطرتها على موارد هائلة منذ 7 سنوات، لم تطلق “قسد” أي مشاريع تنموية حقيقية لصالح السكان المحليين، بل اكتفت ببيع النفط والقمح لتحقيق مصالح سياسية ومالية ضيقة.
- الإفقار والهجرة: أدى هذا السلوك إلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والهجرة، خصوصاً في المناطق العربية التي تعاني من تهميش مزدوج.
- تهديد السلم الأهلي: احتكار الموارد من قبل ميليشيا ذات قيادة خارجية يعمّق الانقسامات القومية والمناطقية، ويهدد فرص التعايش وبناء مجتمع سوري موحد.
- انتهاك حقوق الجميع: الاستحواذ لم يقتصر على العرب، بل حرم الكرد والآشوريين أيضاً من المشاركة في إدارة مواردهم، ما يجعله اعتداءً على جميع المكوّنات.
خامساً: مخاطر الاستثمار مع ميليشيا “قسد”
أي شراكة أو عقد استثماري يُبرم مع ميليشيا “قسد” يفتقر إلى الضمانات القانونية، ويُعرّض المستثمرين لمخاطر جسيمة، أبرزها:
- بطلان العقود: الاتفاقيات التي تُبرمها سلطات أمر واقع غير معترف بها، وتُعد قابلة للإلغاء الفوري دون أي التزام بالتعويض.
- الملاحقة القانونية: المستثمرون قد يواجهون دعاوى دولية أو محلية بتهم تشمل استغلال غير مشروع للموارد، تمويل جهات غير شرعية، أو التواطؤ في انتهاكات إنسانية.
- المصادرة والخسارة: المشاريع في مناطق سيطرة “قسد” مهددة بالاستحواذ أو الإلغاء عند أي تحول سياسي أو عسكري.
- الضرر المعنوي والسمعة: التعاون مع جهة متهمة بانتهاكات جسيمة ضد المدنيين يضر بسمعة الشركات ويضعها في موقع المتواطئ.
وفي ظل توجه سوريا نحو استعادة مؤسساتها الشرعية، فإن الاستثمار خارج إطار الدولة يُعد مخاطرة قانونية وسياسية، وقد يُصنف كجريمة بحق الشعب السوري. ومع إدراك السوريين لأهمية المرحلة الانتقالية، فإن أي تعامل مع سلطات أمر واقع يُعد تقويضًا لمسار العدالة وتهديدًا لمستقبل البلاد.
أحمد سليمان
الملف صادر عن نشطاء الرأي
المزيد من المواضيع
الحاكمية الظرفية والاختلاف الجمهوري
قبل أول انتخابات بعد سقوط الأسد: لجنة التحقيق الدولية تبدأ عملها وسط ترقب لتغيير حكومي محتمل
على أمل اتفاق سلام وشيك في غزة/ اتفاق 21 نقطة لإنهاء الحرب وبداية طريق السلام