يشكّل ملف أصول شركات وأموال رامي مخلوف واحدًا من أعقد القضايا التي تواجهها العدالة الانتقالية في سوريا، ليس فقط من حيث حجم الثروة التي جُمعت خلال عقود، بل من حيث رمزيته كأحد أبرز تجليات العلاقة العضوية بين السلطة والمال، وتكريس الامتيازات والاحتكارات في يد قلة نافذة على حساب المال العام.
هذا الملف لا يُقرأ بمعزل عن امتداداته الدولية، إذ تشير تقارير موثقة إلى وجود أصول واستثمارات خارج سوريا، ما يجعل التعاون القضائي الدولي عنصرًا حاسمًا في استرداد الحقوق المنهوبة، ويطرح تحديات قانونية وسياسية تتجاوز حدود الدولة الوطنية.
لكن الأهم من ذلك، أن هذه المنظومة الاقتصادية المغلقة لم تكن مجرد خلل إداري، بل ساهمت فعليًا في إفقار قطاعات واسعة من السوريين، وحرمتهم من فرص اقتصادية عادلة، في وقت كانت فيه البلاد تغرق في أزمات معيشية متفاقمة. لذا فإن معالجة هذا الملف لا ينبغي أن تُختزل في إجراءات قانونية تقنية، بل يجب أن تُدرج ضمن مسار أوسع لاستعادة الحقوق، وردّ الاعتبار للضحايا، وبناء نموذج اقتصادي جديد أكثر عدالة وشفافية.
من هنا، تبرز أهمية تناول هذا الملف من زاوية حقوقية وأخلاقية، لا بوصفه تصفية حسابات سياسية، بل باعتباره خطوة جوهرية في مسار العدالة الانتقالية، واستعادة الثقة بين المواطن والدولة.
أولًا: القرارات في الحقبة الأسدية (2019 – 2024)
1. طبيعتها
– صدرت أوامر بالحجز الاحتياطي على أموال مخلوف وشركاته من وزارة المالية.
– لجأت المحاكم إلى فرض الوصاية القضائية على شركات استراتيجية مثل سيرياتيل.
– جرى إلغاء امتيازات كعقود السوق الحرة والمنافذ الجمركية.
2. طابعها القانوني
– لم ترقَ هذه الإجراءات إلى مستوى الاستحواذ النهائي أو المصادرة التشريعية.
– افتقرت إلى الشفافية، إذ لم تُعلن حيثياتها للرأي العام.
– لم تُقترن بتعويض عادل كما يفرض الدستور، ما يجعلها أقرب إلى أدوات سياسية للضغط من كونها آليات لاسترداد المال العام.
3. حدودها
– اقتصرت على الأصول داخل سوريا، دون قدرة فعلية على استرداد الممتلكات الخارجية.
– ظلّت خاضعة لإرادة السلطة التنفيذية لا لسلطة القضاء المستقل.
ثانيًا: المرحلة الانتقالية الجديدة (منذ 2025)
1. الأساس الحقوقي الجديد
– مع استلام القيادة الانتقالية، تغيّر الإطار القانوني جذريًا. فقد جرى اعتماد مفهوم العدالة الانتقالية كأساس لمراجعة ملفات الفساد والاحتكار، بما فيها أصول رامي مخلوف.
– تأسس صندوق التنمية السوري كجهة عامة مكلّفة بإدارة الأصول المستردة لصالح المجتمع.
– أُقرّت تشريعات خاصة تسمح بمراجعة العقود السابقة وإبطال ما ثبت أنه جرى بطرق غير مشروعة.
2. الآليات القانونية
– إجراءات قضائية شفافة استندت إلى تحقيقات مالية لكشف طرق التلاعب والفساد.
– أحكام مصادرة مشروعة صادرة عن محاكم مستقلة، تنقل الملكية نهائيًا إلى الدولة.
– آليات تعاون دولي سمحت بملاحقة الأصول في الخارج بالتنسيق مع أنظمة قضائية أخرى.
3. الفارق الجوهري
– لم تعد الإجراءات سياسية انتقامية، بل استندت إلى قواعد القانون ومبدأ سيادة القضاء.
– رُوعي مبدأ التعويض العادل إذا تبيّن أن بعض الأصول اكتُسبت بطريقة مشروعة.
– أُعلن للرأي العام حجم الأموال المستردة وآلية إنفاقها، في خطوة لتعزيز الشفافية والمساءلة.
المختصر:
إن التعامل مع أصول شركات رامي مخلوف لا يُختزل في مسألة قانونية بحتة، بل يعبّر عن لحظة مفصلية في مسار استعادة الحقوق المنهوبة من الشعب السوري. ففي الحقبة الأسدية، جرى استخدام أدوات الحجز والمصادرة بشكل انتقائي يخدم مصالح السلطة، دون أن يُعاد المال إلى أصحابه الحقيقيين. أما في المرحلة الانتقالية، فقد أصبح هذا الملف جزءًا من مشروع وطني أوسع، يهدف إلى تفكيك منظومة الفساد، واسترداد الثروات التي جُمعت عبر الامتيازات والاحتكارات، وإعادتها إلى المجال العام.
ورغم أن العدالة لا تتجزأ، فإننا أمام جريمة اقتصادية استثنائية تتطلب مقاربة حازمة، تُراعي مشاعر السوريين الذين يرون في هذه الأصول رمزًا للنهب المنظّم، وتُعلي من مبدأ أن المال العام لا يُساوَم عليه. فالمصادرة هنا ليست انتقامًا، بل استحقاقًا تاريخيًا، يُعيد الاعتبار للضحايا، ويؤسس لاقتصاد أكثر عدالة.
وفي هذا السياق، يبرز دور الإعلام الحقوقي كقوة رقابية لا غنى عنها، ليس فقط في كشف الحقائق، بل في ضمان أن تُدار هذه الأصول بشفافية، وأن تُوظّف في خدمة المجتمع، لا أن تُعاد إنتاجها في دوائر نفوذ جديدة. لذا فإننا ندعو المؤسسات الإعلامية الحقوقية إلى مواكبة هذا الملف، وتسليط الضوء على تطوراته، بما يرسّخ مبدأ أن لا أحد فوق القانون، ويؤكد أن العدالة ليست شعارًا بل ممارسة تُعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة، وتُمهّد لمرحلة جديدة تُكرّس الحقوق وتُحاسب على الجرائم الاقتصادية كما تُحاسب على الجرائم السياسية والإنسانية.
أحمد سليمان
● صادر عن نشطاء الرأي
المزيد من المواضيع
الحاكمية الظرفية والاختلاف الجمهوري
قبل أول انتخابات بعد سقوط الأسد: لجنة التحقيق الدولية تبدأ عملها وسط ترقب لتغيير حكومي محتمل
على أمل اتفاق سلام وشيك في غزة/ اتفاق 21 نقطة لإنهاء الحرب وبداية طريق السلام