7 أكتوبر, 2025

تسليع الجمهور والمجتمعات: في السياسة والحقوق والاصطفافات وإغراق المشهد العام

تبدو بلادنا والمنطقة وكأنها انزلقت برمّتها إلى شاشة هاتف محمول؛ فضاء عام تحكمه أيقونات “الإعجاب” و”المشاركة”، لا القيم ولا المبادئ. السياسة تحولت إلى مشاهد سريعة وجمل قاطعة وضجيج مستمر، فيما يتبخر المضمون في الهواء. الإعلام يلهث خلف “الترند” كما يلهث طفل خلف بالون، فتغيب الأسئلة الجدية لتحل محلها لغة المزايدات والمبالغات. أما بعض المنظمات التي تقدم نفسها كحقوقية، فقد أصبحت جزءاً من هذه السوق الصاخبة، تتاجر بلغة القيم كما تُباع السلع على رفوف “السوبرماركت”.
إننا أمام مشهد مركّب: مزيج من الإفلاس السياسي، الإعلام الشعبوي، والتسليع الحقوقي، يجتمع ليحوّل الفضاء العام إلى نسخة واقعية عن شبكات مثل “تريدز”، “فيسبوك”، “إكس”، و”تيك توك”. والسؤال الذي يفرض نفسه: ماذا يبقى من السياسة والحقوق حين تختزل إلى مجرد “لايك” أو “ترند”؟

تسليع السياسة:

السياسة لم تعد كما عرفناها في الكتب أو كما اختبرناها في بدايات وعينا؛ فقد تحولت من صراع أفكار إلى استعراض إعلامي، وسوق مفتوحة للمزايدات، حيث يُقاس النجاح بقدرة السياسي على اجتذاب الانتباه أكثر من تقديم حلول حقيقية.
في بلادنا ودول الجوار، يمكن رؤية هذا التحول بوضوح: البرامج الكبرى والمناهج السياسية والمبادرات المجتمعية تُغلف بعناوين مثيرة وقصص مصوّرة قصيرة تصلح للـ”ستوري”، بينما يتراجع جوهر القرار والممارسة إلى الخلفية.
الاصطفافات السياسية باتت أشبه بمجموعات على وسائل التواصل: فريقك يجذب الإعجابات، وفريق الخصم يُسخر منه بالصور والفيديوهات. المعارك لم تعد حول السياسات الاقتصادية أو الاجتماعية، بل حول من ينجح في صناعة “ترند” لحظي، ولو على حساب الحقائق.
هذا التسليع يترك أثراً مباشراً على وعي الجمهور: المواطن الذي كان يتابع السياسة ليعرف مصيره، أصبح يراقبها كعرض تلفزيوني، يتفاعل مع الصور الجذابة والجمل القاطعة، دون أن يتوقف عند التفاصيل أو خلفيات القرار. النتيجة: مشهد سياسي درامي، شعارات بلا مضمون، وتخطيط استراتيجي مهمل.
حتى في الأزمات الكبرى، كما في سوريا ولبنان، ينشغل السياسيون بتوظيف الصور والفيديوهات التي توحي بالنشاط، أكثر من اهتمامهم بحلول عملية. السياسة تتحول إلى منتج يُسوّق، والمواطن إلى مستهلك يقرر “لايك” أو “رفض” بناءً على الانطباع اللحظي، لا على تقييم منطقي أو مصلحة عامة.

الإعلام بين المهنية والاستعراض:

الإعلام كان يُفترض أن يكون سلطة رابعة، حارساً للحقائق، ومراقباً للتجاوزات. لكنه اليوم أصبح جزءاً من السوق الذي يبتلع السياسة ويحوّلها إلى استعراض لحظي.
الفضائيات المحلية، المواقع الإخبارية، وحتى الصفحات الشهيرة على وسائل التواصل، تتنافس على الانتباه بمقياس “الترند” و”اللايك”، أكثر من التزامها بالتحقق أو التحليل العميق.
الخبر لم يعد غاية، بل وسيلة لجذب الجمهور، وقياس شعبية الصحفي أو إثارة الجدل. القصص الإنسانية تُختزل إلى صور مؤثرة أو مقاطع قصيرة، ويصبح التعاطف جزءاً من “إيقاع المشاهدة” لا من وعي حقيقي بالمعاناة.
حتى صحافة التحقيق تواجه تحدياً مزدوجاً: البقاء في سوق المشاهدات، والالتزام بالمعايير المهنية التي تتطلب وقتاً وجهداً. كثير من الصحفيين يضطرون لتقديم محتوى جذاب بصرياً أو لغوياً، أحياناً على حساب الدقة، مما يسهل انتشار المعلومات المغلوطة.
النتيجة: جمهور يعيش تضليلاً جزئياً، حيث يبدو كل شيء مثيراً، لكن لا شيء يقدم سياقاً كاملاً. الإعلام بدل أن يكون منبر الحقيقة، صار مرآة للاهتمامات اللحظية، وأحياناً حلبة صراع شعبوي، والأخطر أنه يشارك في تسليع القضايا الحقوقية والسياسية.

المنظمات الحقوقية في فخ التسليع:

كان من المفترض أن تلعب المنظمات الحقوقية دوراً مضيئاً: حماية الضحايا، فضح الانتهاكات، والمطالبة بالعدالة. لكن ما يحدث اليوم يشي بانزلاق نحو “تسليع الحقوق”، حيث تتحول المبادئ إلى منتجات تُعرض وتُروّج وتُستغل سياسياً.
المنظمات التي كانت حارسة للضمير، وجدت نفسها مضطرة لمواءمة عملها مع متطلبات التمويل والشراكات الدولية وضغط الإعلام. بعض التقارير الحقوقية تُصاغ بأسلوب يضمن جذب الانتباه، مع التركيز على الصور والعناوين، بدل تقديم سياق مفصل وحقائق موثقة.
النتيجة: الحقوق الإنسانية تُستهلك لحظياً، مثل أي سلعة رقمية. هذا الانزلاق يفتح الباب لتناقضات خطيرة: شعارات عن الحرية والعدالة تقابلها قرارات تخضع للمكاسب الرمزية.
تسليع الحقوق لا يضر بالضحايا فقط، بل يؤثر على وعي المجتمع. المواطن يتعامل مع القضايا الحقوقية كمحتوى عابر، يتفاعل معه بضغط زر، ثم ينتقل إلى قضية أخرى، دون أن يستوعب الصورة الكبرى أو يشهد على العدالة الفعلية.

الهيئات المدنية:

الهيئات المدنية والجمعيات المجتمعية وُجدت لتكون جسوراً بين الناس والسلطة، ومساحات للحوار والمبادرة. لكنها اليوم تواجه تحدياً مزدوجاً: الحفاظ على استقلاليتها، وضمان بقائها في سوق التمويل والمؤسسات الدولية.
بعض هذه الهيئات انخرطت في منطق السوق الإعلامي والسياسي، فتحوّلت المبادرات إلى منتجات قابلة للتسويق، أكثر من كونها أدوات لحل مشكلات فعلية أو إحداث تغيير ملموس.

جمعيات الكتاب والأحزاب السياسية:

المشهد الثقافي والسياسي لم يسلم من هذا الانزلاق. روابط الكتاب والجمعيات الثقافية، التي كانت منابر للفكر والنقد، أصبحت في بعض الحالات أدوات لتعزيز الأحزاب، تحت ضغط الإعلام الجديد، تستثمر في الصورة العامة والبيانات المختصرة، بدلاً من البرامج الواقعية.
الاجتماعات، البيانات الصحفية، المؤتمرات، وحتى أنشطة المثقفين داخل الأحزاب، أصبحت أحياناً تمثيليات إعلامية تُسوّق الصورة أكثر من أن تخدم المجتمع فعلياً. هذا الانزلاق يُضعف المصداقية ويُقلل من قدرة المتلقي على التفكير النقدي والمشاركة الفاعلة. والمخزي حين نلاحظ توريث المناصب والاختصاصات بين فئات محددة، وأحياناً داخل العائلة.

النتائج الكارثية:

التحوّل في السياسة، الإعلام، المنظمات الحقوقية، الهيئات المدنية، والأحزاب الثقافية ليس ظاهرة سطحية، بل يحمل تبعات عميقة تهدد نسيج المجتمع والوعي العام:
المواطن يتحول إلى مستهلك، يتفاعل مع القضايا كـ”ترند” مؤقت، بينما يغيب عنه الفهم العميق للسياق.
المصداقية العامة تتعرض للخطر، إذ يُقاس البيان أو التقرير بجاذبيته اللحظية لا بمحتواه.
تسليع القيم يؤدي إلى تهميش القضايا الحقيقية والضحايا الفعليين.
يُعمّق ثقافة اللحظة ويُضعف التفكير الاستراتيجي، ويُبعد المجتمع عن بناء وعي نقدي قادر على مواجهة المستقبل.

بكلمة مختصرة:

الوضع الراهن يستدعي وقفة جادة. استعادة السياسة والإعلام والقيم الحقوقية إلى جوهرها لا تتطلب حلولاً سحرية، بل تحولاً ثقافياً ومؤسسياً: التوقف عن قياس النجاح بالترند و”اللايك”، والتركيز على المحتوى والمبادئ التي تخدم الإنسان والمجتمع.
على المجتمع أن يدرك أن كل مشاركة مؤقتة، وكل صورة جذابة، وكل بيان شعوري، لا يعوّض عن الحقيقة والعمل الميداني الجاد. السياسة والحقوق ليست منتجات استهلاكية، بل مسؤوليات تتطلب استقراراً، مصداقية، ووعياً حقيقياً. إعادة هذه القيم إلى جوهرها تمنح المستقبل فرصة حقيقية، بعيداً عن صخب السوق الإعلامي والانطباعات اللحظية.

أحمد سليمان

  • صادر عن نشطاء الرأي

About The Author

error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب