12 نوفمبر, 2025

لافروف… محامي الشيطان في محكمة الذاكرة السورية

مرة أخرى، يخرج سيرغي لافروف ليتقمّص دور محامي الشيطان، مدافعًا عن نظام فقدَ شرعيته الأخلاقية والسياسية منذ سنوات. ففي تصريح أثار موجة من السخرية والغضب، قال وزير الخارجية الروسي إن “بشار الأسد لم يكن على علم بحجم التعذيب والانتهاكات التي تعرّض لها المدنيون داخل السجون السورية، وخصوصًا سجن صيدنايا”، مضيفًا أن “الكثير من التقارير التي خرجت عن صيدنايا كانت صادمة حتى للأسد نفسه”.

هذا الكلام لا يصدر عبثًا، ولا يمكن اعتباره زلّة لسان. فلافروف، الذي بنى مجده الدبلوماسي على الدفاع عن القتلة والمجرمين من صربيا إلى دمشق، يعرف تمامًا ما يقول. لكنه أيضًا يدرك أن تبرئة رأس النظام السوري من واحدة من أفظع الجرائم في القرن الحادي والعشرين هي محاولة جديدة لغسل يدي موسكو من الدماء، وإعادة تسويق الأسد في مرحلة ما بعد الانهيار.

 

الإنكار بوصفه منهج حكم:

منذ تدخلها العسكري في سوريا عام 2015، تبنّت موسكو سياسة الإنكار الممنهج: تنكر قصف المستشفيات، وتنكر استخدام السلاح الكيميائي، وتنكر وجود المعتقلين السياسيين. والآن تنتقل إلى مستوى جديد من التزييف الأخلاقي، فتتحدث عن “جهل الأسد” بما يجري في سجونه، وكأن مئات آلاف الصور التي سرّبها “قيصر”، وتقارير الأمم المتحدة، وشهادات الناجين، كلها خرافات لا تستحق الاعتبار.

 

إنّ هذا الخطاب ليس سوى محاولة للالتفاف على ملف المساءلة الدولية الذي يطارد النظام، وخصوصًا بعد بدء عدة محاكم أوروبية النظر في قضايا تتعلق بجرائم الحرب والتعذيب الممنهج في سوريا.

يبدو أن لافروف يريد القول: “الأسد لم يكن يعلم، إذن لا ذنب له”، لتبقى الجريمة معلّقة في الهواء بلا فاعل.

 

من يقود آلة القمع؟

السؤال الذي يتجاهله لافروف هو: كيف لا يعلم من يملك السلطة المطلقة على أجهزة المخابرات والفروع الأمنية؟

كيف لا يعلم وقد رُفعت إليه تقارير يومية عن عدد المعتقلين، وعمليات “التصفية” التي كانت تجري بأوامر أمنية صريحة؟

هل يمكن لسجن كصيدنايا، الذي تحوّل إلى مصنع موت، أن يعمل خارج منظومة القرار الرئاسي؟

الأسد لم يكن “جاهلًا”، بل المهندس الفعلي لتلك المنظومة التي جعلت من التعذيب وسيلة للحكم ومن الإذلال سياسة لإخضاع المجتمع.

سجن صيدنايا لم يكن سجنًا بالمعنى التقليدي، بل كان مختبرًا لقياس درجة الطاعة، ومحرقة لدفن الوعي الجمعي، بإشراف مباشر من رأس النظام وأجهزته كافة.

 

تصفية السرديات… لا السجناء:

تصريح لافروف لا يمكن فصله عن سياق سياسي أوسع. فروسيا تحاول منذ أشهر إعادة صياغة سرديتها عن الحرب السورية بما يخفّف مسؤوليتها، ويمهّد لتسوية مستقبلية تحفظ نفوذها في دمشق.

إنها عملية إعادة إنتاج للأسد، ولكن بنسخة “مخفّفة الجرعة”: رئيسٌ لم يكن يعلم، أُحيط بأجهزة قمعية متغوّلة، وخُدع من دائرته الأمنية.

 

بهذه الطريقة، تُهيئ موسكو الطريق لمرحلة ما بعد الحرب: مرحلة التطبيع مع النظام، وفتح خطوط اقتصادية جديدة، والتعامل مع “دولة” لا مع “نظام قاتل”.

لافروف يكتب الفصل التمهيدي لهذه الرواية الجديدة، حيث يتحول الجلاد إلى شاهد، والضحية إلى تفصيل مزعج في مشهد تفاوضي أكبر.

 

توازن الكرملين بين الشريك والعبء:

ما لا يقوله لافروف أن هذا الخطاب نفسه يخفي انقسامًا متزايدًا داخل موسكو حول جدوى التمسك بالأسد.

فبين تيارٍ في الخارجية الروسية يرى أن الحفاظ على بشار ضرورة لتثبيت النفوذ العسكري والاقتصادي، وتيارٍ آخر — داخل الدائرة الأمنية والاستخباراتية — بدأ ينظر إليه كعبء مكلف ومعيق لعودة سوريا إلى المجتمع الدولي، تتحرك الدبلوماسية الروسية بخطابٍ مزدوج: تدافع عن الأسد علنًا، وتناقش استبداله سرًا.

بهذا المعنى، فإن تصريحات لافروف لا تُبرّئ الأسد بقدر ما تضعه تحت مجهر آخر: مجهر من يرونه ورقة يمكن التضحية بها عندما تحين ساعة المساومة الكبرى على مستقبل سوريا.

 

أحمد سليمان 

 

صادر عن نشطاء الرأي

About The Author

error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب