في مشهد إقليمي معقد يتقاطع فيه الأمني بالسياسي، والداخلي بالإقليمي، يبرز من جديد ملف مليشيا بي كي كي التي أعلنت انسحابها من تركيا باتجاه جبال قنديل، في المناطق الحدودية المتاخمة للعراق. غير أن هذا “الانسحاب”، وفق ما يرى مراقبون، لا يتجاوز عشرة كيلومترات من الحدود التركية، الأمر الذي يجعل منه انسحابًا خلبياً وشكلياً أكثر منه إعادة تموضع حقيقي.
هذا الانسحاب المحدود قد يكون محاولة لتخفيف الضغط التركي دون التخلي عن نقاط التمركز الاستراتيجية. فجبال قنديل لطالما كانت ملاذًا للمليشيا، لكن قربها من الحدود التركية يجعلها عرضة للاستهداف الجوي، ما يطرح تساؤلات حول جدوى هذا التموضع في ظل تطور قدرات تركيا الاستخباراتية والتقنية.
تتقاطع المعلومات الميدانية مع تحليلات سياسية تشير إلى أن هذا التحرك ليس سوى مقدّمة لانتقال واسع نحو الجزيرة السورية، ولا سيما إلى المناطق التي تسيطر عليها مليشيا قسد، التي تخوض بين الحين والآخر اشتباكات محدودة مع قوات الدولة السورية. وتبدو تلك الاشتباكات، بحسب بعض المصادر، جزءًا من لعبة توازنات مؤقتة أكثر من كونها مواجهة حقيقية.
في المقابل، تتحدث مصادر مختلفة، بعضها ظهر في الفضاء العام، عن استقبال مناطق قسد آلافًا من فلول النظام السابق، في مؤشر على محاولات هذه المليشيا توسيع نفوذها السياسي والعسكري عبر إعادة تدوير شخصيات من النظام المنهار. هذا التطور يعيد إلى الأذهان الأسلوب الذي انتهجته قسد في السنوات الأخيرة من توظيف عناصر متناقضة ظاهريًا لتحقيق مكاسب ميدانية، ولو على حساب وحدة الأرض السورية.
إعادة تدوير شخصيات من النظام السابق قد تكون محاولة من قسد لخلق واجهة سياسية أكثر قبولًا لدى بعض الأطراف الإقليمية والدولية، خصوصًا في ظل تعثر مشروع الإدارة الذاتية في نيل اعتراف رسمي. كما أن هذا التوجه يعكس براغماتية قسد في التعامل مع الواقع السوري المتشظي، حيث لا مكان للثوابت الأيديولوجية أمام ضرورات البقاء.
في الجنوب، تواصل مليشيا الهجري في السويداء استفزازها وتوسيع نطاق تحركاتها، وسط حديث عن محاولات للحصول على دعم إسرائيلي مباشر أو غير مباشر لتقوية نفوذها، ولربط تحركها الميداني بملف الجزيرة السورية، بما يفتح الباب أمام مشهد أكثر تشابكًا وتفككًا في آن.
تحركات مليشيا الهجري في السويداء قد تكون محاولة لخلق “جبهة ضغط” جنوبية توازي التوترات في الشمال، ما يفتح الباب أمام سيناريوهات أكثر تعقيدًا، كربط الجنوب بالجزيرة السورية عبر خطوط دعم غير تقليدية، بما فيها الدعم الإسرائيلي، الذي وإن لم يكن معلنًا، إلا أن مؤشرات عديدة توحي بوجوده.
على الضفة الأخرى، تبدو أنقرة في حالة إعادة تموضع سياسي وأمني بدورها. فتصريحات السياسيين الأتراك الأخيرة حول اتفاقية أضنة تعيد النقاش إلى فكرة التمدد داخل الأراضي السورية بعمق 35 كيلومترًا، على امتداد الحدود المشتركة البالغ طولها نحو 900 كيلومتر. الخطوة، وفقًا للمحللين، تحمل دلالات مزدوجة: فهي من جهة محاولة لإبعاد مليشيا بي كي كي عن العمق التركي، ومن جهة أخرى توحي بعودة تركيا إلى استخدام الأدوات القانونية والاتفاقات السابقة لتبرير تدخلها الأمني في الشمال السوري.
استدعاء اتفاقية أضنة لا يعكس فقط رغبة تركية في تأمين حدودها، بل يشير إلى محاولة لإعادة تدوير أدوات قانونية قديمة لتبرير تدخلات جديدة. وهذا يعكس تحولًا في الخطاب التركي من “التهديد الإرهابي” إلى “الحق القانوني”، ما قد يسهل تسويق التحركات التركية دوليًا، خاصة في ظل غياب موقف سوري مركزي واضح.
كل ذلك يضع المنطقة أمام أسئلة كبرى حول طبيعة التحالفات المقبلة وتبدلات الاصطفافات:
– هل يمثل انسحاب بي كي كي مقدّمة لخلق جغرافيا صدام جديدة بين المليشيات الكردية وتركيا؟
– وهل تسعى مليشيا قسد فعلاً لاستيعاب فلول النظام السابق (الأسد) كجزء من ترتيبات قادمة، أم أن المسألة مجرد تبادل مؤقت للمصالح؟
– إلى أي مدى يمكن لاتفاقية أضنة أن تُستعاد بوصفها مظلة قانونية لتدخل تركي جديد، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحكومة الانتقالية في دمشق لا تملك صلاحيات قانونية تخوّلها توقيع أو تعديل هذه الاتفاقية؟
– وهل سيجد الجنوب السوري نفسه جزءًا من معادلة “التعويض الجغرافي” عبر تحركات مليشيا الهجري المتزايدة؟
القراءة العامة تشير إلى أن ما يجري ليس مجرد تحركات ميدانية، بل إعادة رسم خرائط نفوذ، وتبادل أدوار بين قوى انتهت صلاحيتها وأخرى تحاول شرعنة وجودها عبر بوابات جديدة.
في المحصلة، يبدو أن المشهد السوري يتجه نحو مزيد من “التموضع المتقاطع”، حيث لا يمكن فصل التحركات العسكرية عن الحسابات السياسية، ولا يمكن فهم التحالفات إلا من خلال منظور المصالح المتغيرة. فكل طرف يسعى لتثبيت وجوده، ولو عبر أدوات متناقضة، في مشهد لا يزال مفتوحًا على احتمالات الانفجار أو إعادة التشكل.
أحمد سليمان
صادر عن نشطاء الرأي

المزيد من المواضيع
حسن عبد الله الخلف: العشائر بين فزعة الزلزال وفزعة السويداء
هل المستشار الألماني ميرتس من جذور سورية؟ عن صورة المدينة، والخوف من الآخر
اتحاد الكتاب العرب وإشكالية تحديثه في إطار العدالة الانتقالية