12 نوفمبر, 2025

حين يتحوّل الغناء إلى مرآةٍ للخراب

كأنّ المغنّين والموسيقيين وشعراء الزمن الجميل قد انسحبوا دفعةً واحدة من المشهد، تاركين خلفهم فراغًا عاطفيًا وروحيًا سرعان ما ملأته أصواتٌ نشاز، تتغذّى من لغة الكراهية، وتعيد إنتاج العصبيات القديمة في هيئةٍ جديدة لا تقلّ بشاعةً عن ماضيها.

تتصدّر بين الحين والآخر موجاتٌ غنائية واجهة الشبكات الاجتماعية، تتماهى في مفرداتها أو إيقاعاتها مع روح الحقبة الداعشية حينًا، ومع خطاب الحقبة الأسدية أحيانًا أخرى. لا فرق في الجوهر بينهما؛ فكلاهما يستقي من مستنقعٍ واحد، قاعدته الاستبداد وإنكار الجمال. في الأولى، تحوّل الدين إلى أداة قتل، وفي الثانية، تدنّس الفن ليغدو بوقًا للسلطة. وفي الحالتين، كان الذوق العام ضحيةً، والإنسان آخر من يُؤخذ في الاعتبار.

لقد تحوّل الفن في سوريا – كما في أجزاء واسعة من المنطقة – إلى مرآةٍ تعكس الخراب النفسي والاجتماعي والسياسي. ولم تعد الأغنية لسانًا للجمال، بل سلاحًا يُشهره البعض في وجه الوعي. فالحالة المرضية لا تقتصر على الجسد، بل تمتد لتصيب الإدراك، وتشوّه الذائقة، وتُفرغ التعبير من مضمونه الإنساني.

من يُنتج أو يروّج لأغانٍ تستنسخ هذه السياقات السامة، يشارك – عن قصدٍ أو جهل – في تقويض ما تبقّى من قيم التعايش والتنوّع، وفي ضرب الوئام المجتمعي الذي شكّل روح الثقافة السورية لعقودٍ من الإبداع.

ولأنّ الغناء فعلٌ رمزيٌّ يتجاوز الترفيه إلى التعبير عن الوجدان الجمعي، فإنّ انحداره إلى هذا المستوى لا يُعدّ مجرد انحطاطٍ فني، بل انهيارًا ثقافيًا موازيًا لانهيار السياسة والأخلاق. فعندما تهيمن ثقافة المال والقوة والطائفة على فضاء الفن، يصبح من الطبيعي أن يُروّج للجهل، ويُعتبر الانحطاط بطولة، وتُقدّم التفاهة على أنها حرية تعبير.

في ظلّ غياب مؤسساتٍ ثقافيةٍ مستقلة، وهيمنة الإعلام التجاري، تراجعت الأغنية الوطنية والإنسانية، وارتفعت أصوات “التريند” التي لا تقول شيئًا سوى إعادة تدوير القبح. هذا الواقع ليس وليد الصدفة، بل نتيجة مباشرة لمنظومةٍ سياسيةٍ وثقافيةٍ اختزلت الإبداع في الولاء، والمواهب في التطبيل، وحوّلت الفنان إلى موظفٍ في جهاز دعايةٍ أيديولوجي.

من هنا، فإنّ المسؤولية لا تقع فقط على من يُنتج هذا الفن الهابط، بل أيضًا على من احتكر الثقافة لعقود، وأقصى كل صوتٍ حرّ لا يسبّح بحمد النظام أو يخضع لمزاج السلطة. إنّ من اختصر الثقافة السورية في حفلات الولاء والهتاف، يتحمّل مسؤولية تشويه الذوق العام، ونشر هذا الانحدار الذي لا يشبه سوى ما أنتجته ثقافة البعث الأسدي ومن تفرّع عنها من فكرٍ مريضٍ غارقٍ في الابتذال.

لقد كانت سوريا، يومًا ما، بلدًا يُغنّي فيه الفلاح والعامل والمثقف والطفل، وكانت الأغنية امتدادًا طبيعيًا لكرامة الإنسان. أما اليوم، فقد تحوّلت – في كثير من الحالات – إلى استعراضٍ للغرائز، وتعبيرٍ عن عنفٍ مكبوت، أو حنينٍ إلى ماضٍ استبداديٍّ ما زال يُطلّ برأسه من تحت الركام.

من الضروري إذًا إعادة الاعتبار للفن بوصفه ركيزةً من ركائز الوعي، لا وسيلة ترفٍ أو دعاية. يجب أن تُعاد هيكلة المؤسسات الثقافية، وتُفتح المسارح والمدارس الموسيقية، ويُمنح الجيل الجديد فرصةً للتعبير بعيدًا عن وصاية السوق أو سلطة الأيديولوجيا. فالأمم لا تُقاس بما تملك من السلاح، بل بما تنتجه من موسيقى.

إنّ سوريا التي أنجبت في كل بيتٍ شاعرًا أو موسيقيًّا أو فنانًا، قادرةٌ على النهوض مجددًا من هذا الركام الصوتي، شرط أن نكفّ عن التطبيع مع القبح، وأن نسمّي الأشياء بأسمائها: الفن الهابط ليس صدفة، بل مشروع تجهيلٍ منظمٍ يهدف إلى تخريب الوعي الجمعي، تمامًا كما خرّب الطغيان بنية الإنسان.

أحمد سليمان

About The Author

error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب