كتب حسن عبد الله الخلف:في لحظة التحول التي تعيشها سورية بعد سقوط النظام وبروز حكومة انتقالية برئاسة السيد الرئيس أحمد
الشرع، يطفو على السطح سؤال جوهري: من يرسم ملامح الخطاب الديني في سورية اليوم؟ فالمسألة لم تعد مقتصرة على اجتهادات فردية أو خطب متفرقة، بل باتت مرتبطة بقرارات مؤسساتية ستحدد طبيعة الدولة المقبلة وحدود علاقتها بالدين. وما يثير القلق أن التوجهات الدينية داخل الحكومة الانتقالية نفسها تبدو متناقضة بصورة حادة فوزير الأوقاف يجسد المدرسة الأشعرية الصوفية ذات الامتداد التاريخي في الاعتدال والروحانية وهو خطاب عرفته المجتمعات السورية منذ قرون بوصفه أقرب إلى الوسطية والتعايش، في حين يقابله في موقع حساس مستشار للشؤون الدينية ينتمي إلى خلفية سلفية جهادية متشددة، بما يعني أننا أمام ثنائية متصارعة تحت سقف واحد: خطاب يدعو إلى التسامح في مواجهة خطاب يميل إلى الإقصاء ورفض الآخر. وتزداد خطورة هذا التباين حين ندرك أن وزراء الخارجية الداخلية والدفاع يتبنيان بدورهما توجهات متأثرة بالخط السلفي المتشدد، ما يجعل أدوات القوة الصلبة للدولة ـ الأمنية والعسكرية ـ أقرب إلى الانحياز نحو التشدد، بينما تبقى القوة الناعمة، الممثلة بوزارة الأوقاف، أسيرة خطاب اعتدالي قد يفقد وزنه أمام ثقل السلاح والسلطة. في مثل هذا السياق، يجد المواطن نفسه أمام رسائل متناقضة: خطب دينية تدعو إلى المحبة، يقابلها سلوك سياسي وأمني يشي بروح إقصائية، وهو ما يفتح الباب واسعاً أمام استقطاب طائفي جديد يعيد إنتاج منطق “شيخ يقابل شيخ” ومنبر يواجه منبراً، بحيث يعود المجتمع إلى دوامة الاصطفافات التي مزقته لعقود. وإلى جانب المخاطر الداخلية، يضع هذا التناقض صورة الحكومة في موقف ضعيف أمام المجتمع الدولي الذي يراقب بدقة أي مؤشر على تغلغل الفكر الجهادي داخل مؤسسات الدولة. والتجارب من حولنا تقدم الدرس الأوضح: فالعراق بعد 2003 غرق في فوضى المرجعيات المتناحرة وتحولت مؤسساته إلى انعكاس لصراع المذاهب، بينما سعت تونس إلى حسم المسألة بدستور مدني يقر بالهوية الإسلامية الثقافية دون أن يسمح لتيار واحد باحتكار الدين، في حين عانى لبنان من إدخال الدين في معادلة المحاصصة، فحافظ على توازن هش لكنه عطّل قيام الدولة. ومن هنا، فإن مسؤولية الحكومة الانتقالية في سورية تتجاوز إدارة التناقض إلى ضرورة حسمه، عبر تبني رؤية وطنية واضحة للخطاب الديني تمنع تحويله إلى أداة صراع سياسي أو طائفي. والحل لا يقوم على إقصاء طرف لصالح آخر، بل على إنشاء إطار جامع مثل مجلس أعلى للشؤون الدينية، يضم ممثلين عن المدارس الإسلامية الكبرى (الأشعرية، السلفية، الشيعية، والزوايا الصوفية) إلى جانب ممثلين عن المكونات الدينية الأخرى كالمسيحيين والدروز والإيزيديين، بحيث يتولى وضع الخطوط العامة للخطاب الديني في سورية، ويمنع التحريض، ويؤسس لميثاق وطني يربط الدين بالقيم الجامعة لا بالمصالح الضيقة. كما يتعين أن يُرفَق ذلك ببرامج لتأهيل الأئمة والخطباء تراعي التنوع السوري وتقطع الطريق على الاستثمار الأمني والسياسي للدين. عندها فقط يمكن سحب البساط من ثنائية “الوزير المعتدل في مواجهة المستشار المتشدد” وتجاوز ازدواجية الرؤى داخل الحكومة، بما يعيد رسم الخطاب الديني تحت مظلة وطنية واحدة. إن التحدي الحقيقي لا يكمن في وجود وزير أشعري صوفي يقابله مستشار سلفي جهادي متشدد، بل في الكيفية التي ستُدار بها هذه التناقضات: فإذا تُركت للفوضى فستجر سورية إلى انقسام أعمق مما عرفته خلال سنوات الحرب، أما إذا حُسم الخيار لصالح خطاب ديني جامع يستند إلى الاعتدال والمواطنة، فإن البلاد ستكون أمام فرصة تاريخية لتأسيس دولة مدنية جديدة لا تُقصي الدين ولا تسمح بتحويله إلى سلاح في أيدي المتصارعين.
- حسن عبد الله الخلف : باحث في الشأن السوري
- المقال صادر عن نشطاء الرأي
- الرابط:https://opl-now.org/2025/11/01/h-2/

المزيد من المواضيع
إقالة مُلتبسة… شخصنة القرار وسوء الإدارة في اتحاد الكتّاب
جلسة مغلقة بين الشرع وترامب: انسحاب إسرائيلي، تنمية مشروطة، ومكافحة الإرهاب
إعادة تعريف اتحاد الكتّاب في سوريا: بين المهام والاستقلالية