5 ديسمبر, 2025

بصدد حزب السلطة والمجرم الهارب وحكاية الشعب الزائد: هل يُعاد إنتاج الاستبداد بعباءة القداسة؟

تتكاثر المشاريع السياسية في سوريا كما تتكاثر الظلال بعد غروب الشمس، ويقابلها وعودٌ بمشاريع اقتصادية في ظلّ تضخّمٍ معيشيٍّ خانق. وعلى الجانب الآخر، تتعالى أصواتٌ إقصائية ضدّ كلّ من يجرؤ على النقد، حتى بلغ الأمر ببعضهم حدّ إطلاق الاتهامات على من يعيشون في الخارج، واعتبارهم -كما وصفهم الطاغية بشار الأسد – «شعبًا زائدًا»، لمجرد أنهم يعارضون جرائمه.

النزعة ذاتها نراها اليوم لدى بعض من يعتقدون أنفسهم حُماةً لدولةٍ ما زالت في طور التشكّل. والمؤسف أنّنا نشهد ظاهرة التحاقٍ مصلحيٍّ من قِبل أشخاصٍ كنّا نظنّهم فاعلين في المجال العام، تارةً عبر جمعياتٍ مدنية، وتارةً عبر قنواتٍ فضائية. هؤلاء باتوا يقدّمون أنفسهم بوصفهم «استشاريين»، فيما تخلو جمعياتهم من أيّ بيانٍ يوضح موقفهم من التحوّلات المصيرية التي تمرّ بها بلادنا.

وهكذا، تلاقت مواقف أصحاب الرؤوس الحامية مع أولئك الذين كانوا، حتى الأمس القريب، يقدّمون أنفسهم بوصفهم من شارك في « مظاهرة» أو « ربع مظاهرة » او ربما مرّ صدفةً في شارعٍ شهد احتجاجًا ضدّ الأسد.

إنّها مرحلة انتقالية مرتبكة؛ فمن جهةٍ تُطرَح النقاشات حول مساعي السلطة الجديدة لإطلاق حزبٍ سياسيٍّ يعيد تعريف الشرعية، ومن جهةٍ أخرى تتزايد مؤشرات توظيف الخطاب الديني في الحياة العامة كأداة تعبئة واستقطاب. 

يبدو أنّ سوريا الخارجة من رماد الاستبداد القديم تسير نحو نسخةٍ مُقدَّسة من النظام نفسه. فبدل أن يتجذّر مفهوم الدولة المدنية، يتنامى نمطٌ جديدٌ من الحكم يحمل مشهدًا متشابكًا مشوَّشًا في محاولةٍ لإحياء زمن الحاكميات. 

هنا يُطرح السؤال الجوهري: هل يُعاد إنتاج الطغيان بعباءة القداسة؟

سقوط النظام وبداية الغموض:

لم يُحسَم النقاش بعد حول تفاصيل ما أسمّيه بـ«الصندوق الأسود» لسقوط النظام الأسدي. فالرئيس المخلوع بشار الأسد اختفى من المشهد بين روايتين: إحداهما تقول إنّه هرب بطائرةٍ روسيّةٍ إلى موسكو بعد أن نهب ما استطاع من أموال البلاد، وأخرى تتحدّث عن تسويةٍ دوليّةٍ وفّرت له ملاذًا آمنًا مقابل خروجه الهادئ.

ورغم أنّ مؤتمرات جنيف لم تتضمّن بندًا صريحًا حول خروج الأسد مقابل ضمانات، فإنّ تسريباتٍ من كواليس المفاوضات – خصوصًا بعد تعثّر المسار السياسي – ألمحت إلى احتمال تسويةٍ من هذا النوع. لم يُوثَّق ذلك رسميًّا، غير أنّه ظلّ حاضرًا في التحليلات السياسية، ثم عاد بقوةٍ بعد انهيار النظام، بوصفه أحد السيناريوهات التي حالت دون انزلاق البلاد إلى فوضى شاملة.

ومهما يكن من أمر، فقد دخل المشهد السوري مرحلةً جديدةً من الارتباك واللايقين. لم يعد السؤال: كيف سقط الأسد؟ بل: ماذا سنفعل بما تبقّى من الدولة المهدَّمة؟ وهل يمكن أن تنهض دولةٌ على إرثٍ مدمَّر دون أن تتشارك في بنائها كلّ القوى السياسية والثورية التي جرى عزلها عن المشهد؟

المفارقة أنّ الغياب المفاجئ للطاغية لم يُفضِ إلى انفتاحٍ، بل إلى عودةٍ متخفّيةٍ لآليات السيطرة ذاتها، وإنْ جاءت هذه المرّة بلغةٍ أكثر تهذيبًا ومفرداتٍ أكثر قداسة.

سلطة انتقالية وإصلاح خجول:

منذ تولّي القيادة الانتقالية الحكم، تعيش الساحة السورية حالة ارتباكٍ إداريٍّ وسياسيٍّ مستمرة. وبينما ينتظر المواطنون خطواتٍ جريئةً نحو العدالة والمشاركة، أعلنت السلطة عن إعادة قسمٍ من الدبلوماسيين والضباط المنشقّين إلى الخدمة. خطوةٌ وُصفت بأنها «تصحيحٌ للمسار»، لكنها جاءت مترددة، باهتة، كأنها هبةٌ لا اعترافٌ بالخطأ.  

هذه الإعادة المحدودة كشفت أنّ السلطة تحتاج خبراتهم أكثر ممّا تعترف بحقّهم. فهي لا تميل إلى المشاركة الحقيقية بقدر ما تبحث عن إعادة إنتاج الكفاءة داخل بنيةٍ مغلقةٍ تحافظ على مركز القرار بيد قلّةٍ ضيّقةٍ من المقرّبين.  

كان المنتظر أن تكون هذه الخطوات مقدّمةً لتحوّلٍ مؤسّسي، لكنها بقيت أقرب إلى حركةٍ شكليّةٍ لا تغيّر جوهر الذهنية القديمة.

الحاكميات: الاستبداد بلغة المقدّس

في غياب التشريعات واستمرار هشاشة المؤسسات، ظهر نمطٌ جديدٌ من الحكم يتغذّى على الفراغ ويستمدّ شرعيته من المفردة الدينية.
فـ«الحاكميات» هنا ليست مشروعًا دينيًّا تقليديًّا بقدر ما هي صيغةٌ سياسية تُستخدم فيها اللغة الدينية لتغطية الاستبداد. فالقائمون على هذا التوجّه ليسوا علماء دين، بل سياسيون من خلفيات فصائلية، جرى توظيف بعض المشايخ ليكونوا أدوات ضبطٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ.

إنه مشهدٌ يُشبه إلى حدٍّ ما نموذجًا أسمّيه «حاكمية إدلب»، حيث تتشكّل دولةُ ظلٍّ دينية تعمل تحت مظلة الحكومة الانتقالية. وهكذا تتحوّل القداسة إلى وسيلة ضبطٍ اجتماعيٍّ بديلةٍ عن القانون، وتُستعاد سلطة رجل الدين بوصفه وسيطًا بين الشعب والسلطة.

وبالتالي، نحن أمام واقعٍ أفرز ما يمكن تسميته بـ«حكومة الظل»، وهي الحالة التي أشرتُ إليها في مقالٍ سابق يحمل العنوان نفسه، إلى جانب مقال آخر بعنوان «مشيخة رقابة الدولة».

حزبٌ يتوضّأ قبل خطابه:

رغم وضوح النصوص الدستورية في ضمان حرية العمل الحزبي، تسعى السلطة الانتقالية إلى تأسيس حزبٍ جديدٍ يستبق صدور أيّ قانونٍ للأحزاب ينظّم الحياة السياسية. الحزب المقترح يبدو مفصّلًا على قياسها: يستمدّ رمزيته من الخطاب الديني، ويقدّم نفسه كامتدادٍ «روحي» للدولة، لا كمؤسسةٍ مدنية.  

الفرق بين «بعث الأسد» و«حاكمية المشايخ» أنّ الأول كان يستمدّ شرعيته من الشعارات القومية، بينما الثاني يحاول أن يكتسبها من النصوص الدينية وسلطة الوعظ. لكن الجوهر واحد: احتكار المعنى والولاء، وتكريس التبعية باسم قضيةٍ عليا.  

بهذا المعنى، نحن أمام بعثٍ جديدٍ يتوضّأ قبل خطابه، لا أكثر.  

السلطة لا تبحث عن حزبٍ يشاركها الحكم، بل عن واجهةٍ تبرّر وجودها. وهكذا تتكرّر اللعبة القديمة بلغةٍ أكثر أناقة، لكنها لا تقلّ تسلّطًا.

بين أنقرة وطهران: جسر نفوذ:

ما يحدث داخل سوريا لا يمكن فصله عن تقاطع النفوذ الإقليمي. فإيران، بخطابها القائم على «ولاية الفقيه»، ترى في الحاكمية امتدادًا مشروعًا لسلطتها العقائدية. أما تركيا، فتمدّ نفوذها عبر الإسلام السياسي المعتدل، محاولةً تطويعه ليخدم مصالحها في الشمال السوري.  

وهكذا تصبح الحاكميات السورية الجديدة ملتقى لمشروعين متناقضين في الشكل، متكاملين في الجوهر: كلاهما يسعى إلى تحويل الإيمان إلى أداة طاعةٍ سياسية.  

وفي هذا المشهد المزدوج، يُطلب من السوري أن يؤمن لا أن يفكّر، وأن يطيع لا أن يختار.

الشعب الزائد: تكرار الخطيئة

في ظلّ هذه التحوّلات، يعود إلى الواجهة مصطلحٌ قديمٌ صاغه بشار الأسد حين وصف المعارضين في الخارج بأنهم «شعب زائد». اليوم، يُكرَّر الخطاب نفسه على لسان بعض أنصار الحكومة الانتقالية الذين يشيطنون كلّ نقدٍ ويعتبرون المهاجرين والمتابعين من الخارج عالةً على الوطن.  

لكن الأرقام تفنّد هذا المنطق: يعيش في الداخل نحو 12 مليون سوري، بينهم مئات الآلاف في المخيمات وتحت الفقر. بينما يوجد في الخارج عددٌ مماثل تقريبًا، أكثر من نصفهم لاجئون، والملايين ما زالوا يدعمون ذويهم في الداخل ماديًّا ومعنويًّا.  

إنّ وصف هؤلاء بأنهم «زائدون» يعيد إنتاج الذهنية نفسها التي دمّرت البلاد: ذهنية إقصاء نصف الشعب وتجريدهم من شرعية الانتماء.  

اللافت أنّ الحملة ضد «أصوات الخارج» تُدار من مجموعاتٍ إلكترونيةٍ ذات خلفيةٍ فصائلية، تمارس الوصاية وتعيد إنتاج الفوضى والمحسوبيات التي عرفتها سوريا في عهد الطغمة الأسدية البائدة.  

إنّ تكرار هذا الخطاب يعني أنّ البعض لم يتعلّم بعد أنّ الوطنية لا تُقاس بالمكان، بل بالموقف.

انفتاح الرئيس… وانغلاق المحيط: 

على الرغم من أنّ الرئيس الانتقالي ظهر بصفةِ شخصيةٍ متّزنة، وتحدّث عن ضرورة مراجعة الماضي واحترام الرأي المختلف، وكذلك اعتبر تجربته السابقة في التنظيمات الجهادية محطةً للمراجعة، إلا أنه حتى اليوم محاطٌ بفريقٍ يشتغل بعقليةٍ نقيضة: جيشٌ من «الانتحاريين الرقميين» يملأ الفضاء الافتراضي بالتخوين والشيطنة، ويصوّر أيّ نقدٍ على أنه «استهدافٌ لمؤسسات الدولة».  

تُدار الحكومة بمنطق الولاء لا الكفاءة، فثلثا الوزراء بلا خبرة، والثلث المتبقي من الأقارب أو من طبقةٍ توافق بلا اعتراض. أما المرأة، فحُشرت في المناصب الهامشية كما كانت في العهود السابقة.  

إنّ هذا التناقض بين خطاب الرئيس وأداء فريقه يُعيد إلى الأذهان المشهد ذاته الذي سبق سقوط النظام السابق: رأسٌ يتحدّث عن الإصلاح، وجسدٌ يُعيد إنتاج الفساد والاستبداد.

اختبار الهوية السورية الجديدة:

المشهد الحالي ليس نقاشًا حول حزبٍ جديدٍ فحسب، بل اختبارٌ لهوية سوريا القادمة.  

هل ستكون دولة مواطنةٍ ودستورٍ وقانون، أم دولة «حاكميةٍ» جديدة تُعيد إنتاج الطغيان بلغةٍ أكثر قداسة؟  

ما لم تُكتب قوانين واضحة تضمن حرية التنظيم والفصل بين الدين والسلطة، ستظلّ البلاد تدور في حلقة الاستبداد المغلّف بالشعارات.  

وهنا تبرز الأسئلة الكبرى:  

– هل تمثّل الحاكميات مشروعًا سياسيًّا بغطاءٍ دينيٍّ أم دينيًّا بغطاءٍ سياسي؟  

– لماذا تخشى السلطة الانتقالية التعدّدية فتستعيض عنها بالطاعة الدينية؟  

– وكيف يمكن تجنّب تحوّل الإيمان إلى أداة تبريرٍ جديدة للطغيان؟

إنّ التحدّي الحقيقي اليوم ليس في مَن يحكم، بل في كيف نحكم، وفي أيّ عقدٍ مدنيٍّ سيجمع السوريين بعد عقودٍ من الوصاية.  

فإمّا أن تُبنى الدولة على الحرية والمواطنة، أو تُدفن تحت رماد القداسة المبهمة.

أحمد سليمان

  • صادر عن نشطاء الرأي

الرابط : https://opl-now.org/2025/11/06/ahmad-aleiman/

About The Author

error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب