في لحظة إقليمية مشحونة بالتحولات، تتقاطع التحركات الأميركية في الجزيرة السورية المحتلّة من قبل ميليشيا قسد مع زيارات غامضة لرجل الأعمال توم باراك، لتكشف أن ما يجري ليس مجرد تفاصيل بروتوكولية، بل إعادة رسم دقيقة لمسرح الصراع. من بغداد إلى دمشق وصولًا إلى تل أبيب، يتضح أن واشنطن ترتّب البيت الخلفي وتفتح قنوات تفاهم إقليمية قبل أي تغيير ميداني كبير، فيما تُبقي البلاد في حالة رمادية بين الحرب والسلام، تُدار فيها الفوضى وتُهندس الأزمات بما يخدم مصالح القوى الدولية.
منذ بدء التحركات الأميركية الأخيرة في الجزيرة السورية، بدا واضحًا أن واشنطن لا تسعى إلى إنهاء الصراع، بل إلى إعادة ترتيب الأوراق بما يبقي سوريا في حالة عدم استقرار قابلة للإدارة. ومع سقوط بشار الأسد في ديسمبر الماضي، دخلت البلاد مرحلة جديدة، حيث لم يعد النظام مركز المعادلة، بل تحولت فلوله إلى أوراق ضغط متناثرة تُستخدم عند الحاجة. في هذا السياق، يبرز اسم توم باراك، رجل الأعمال المرتبط بشبكات مصالح خليجية–أميركية، كوجه جديد في مشهد معقد، يثير التساؤل: هل هو وسيط للحل أم مهندس لصراع مضبوط الإيقاع؟
زيارة باراك لبغداد… ترتيب البيت الخلفي:
اجتماع المبعوث الأميركي مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، وبحث ملف قسد والمخيمات والحدود، كشف أن واشنطن تريد ترتيب “البيت الخلفي” قبل أي خطوة أكبر. نقل أكثر من ألف شخص من مخيم الهول إلى العراق تحت حماية أميركية ليس تفصيلاً، بل تفريغ تدريجي لتبعات الحرب على داعش، وكأن هناك رغبة بتصفية الملفات العالقة بسرعة.
خط سير باراك من بغداد، دمشق، تل أبيب. ليس عشوائيًا، بل يمرّ عبر ثلاثة أطراف معنية مباشرة بإعادة رسم شرق الفرات، ما يعكس رغبة أميركية في تفاهمات إقليمية هادئة قبل أي تغيير ميداني كبير.
الرسائل الأميركية الأخيرة واضحة:
– المجلس الوطني الكردي يُنصح بالابتعاد عن قسد.
– العشائر العربية تُدفع لفكّ الارتباط فورًا.
هذه ليست إشارات سياسية ناعمة، بل تهيئة أرضية لمرحلة ما بعد قسد بصيغتها الحالية. واشنطن لا تريد انهيارًا فوضويًا، لكنها تعمل على إعادة هيكلة لمناطق الجزيرة بما يضمن استمرار نفوذها دون أن تتحمل كلفة الانخراط المباشر.
فيدان في طهران… رسالة الصمت عند طبول الحرب:
زيارة رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان إلى طهران حملت رسالة مفتاح: “الصمت عند طبول الحرب”. تركيا تُبلّغ إيران أن عليها ألا تتدخل أو تُعرقل، لأن شيئًا ما يجري الإعداد له. هذا الشيء قد يكون عملية تركية، أو إعادة ترتيب أميركية–عربية–تركية للمنطقة، حيث يُعاد توزيع النفوذ على حساب قسد وفلول النظام.
قسد كعامل اختلال… ودور واشنطن في إبقائها:
قسد، وهي مليشيا تحتل أراضٍ سورية في الجزيرة، ليست سوى أداة بيد واشنطن. الولايات المتحدة قادرة على إنهاء نفوذها في ساعات، لكنها تتعمّد إبقاء الملف مفتوحًا وتفعيله في لحظات معينة، بما يهيّئ البلاد لصدام جديد.
واشنطن تشجّع العشائر العربية على فكّ ارتباطها، وتلمّح للمجلس الوطني الكردي بالابتعاد عن قسد، لكنها لا تسحب الغطاء الكامل عنها. كأنها تدفع المنطقة إلى حافة الحرب دون السماح بالسقوط الكامل فيها، إلى أن تكتمل الصيغة التي تعمل عليها.
فلول النظام… أوراق ضغط بعد سقوط الأسد:
بعد سقوط الأسد، لم تعد فلول النظام قوة حاكمة، بل أدوات كامنة يجري تدويرها بما يخدم المخطط الأكبر. هذه البقايا الأمنية والعسكرية والمليشياوية تنتشر في الشرق والجنوب، وتُستخدم لتشويش أي ترتيبات محلية أو لإشعال جولات جديدة من التوتر عند الحاجة. إنها أشبه بقطع شطرنج تُحرّكها القوى الخارجية لإبقاء المشهد معلقًا.
خاتمة المشهد:
المشهد الراهن لا يوحي بوجود مشروع لحل نهائي، بل العكس: هناك إدارة دقيقة للفوضى، وربما هندسة لاحتراب محدود، يُبقي البلاد معلّقة في منطقة رمادية تخدم أكثر من طرف دولي. زيارة باراك لبغداد، رسائل واشنطن للعشائر والمجلس الكردي، وخطوط التواصل التركية–الإيرانية، كلها عناصر في لوحة واحدة: إعادة تشكيل الجزيرة السورية عبر تفاهمات إقليمية ودولية، مع إبقاء قسد كعامل اختلال إلى حين اكتمال الصيغة الجديدة.
* ينُشر في وقت واحد بالتزامن مع نشطاء الرأي

المزيد من المواضيع
عام على السقوط… ولا تزال الإعدامات الأسدية قائمة: من يعطّل قرار الإلغاء؟
الجولان ليس بورصة لأسواق ترامب… والأمم المتحدة مطالَبة بحماية الشرعية الدولية
الاحتلال الأجنبي للجزيرة السورية: تشريع الأمر الواقع ومخاطره على السلم الأهلي