تُطرح في المرحلة الراهنة، عبر تسريبات ومقاربات سياسية وأمنية، تصوّرات يجري تسويقها بوصفها حلولًا واقعية للأزمة السورية، غير أنّ التدقيق في مضامينها يكشف أنها لا تؤسس لمسار انتقالي سليم، بل تعيد إنتاج اختلالات بنيوية ساهمت أصلًا في تدمير الدولة. ومن أخطر هذه الطروحات ما يُتداول حول اتفاق مزعوم لدمج ميليشيا قسد ضمن هياكل الدولة السورية، إذ لا يمكن النظر إلى هذا المسار بمعزل عن واقع الاحتلال الأجنبي للجزيرة السورية، ولا عن السياق الذي نشأت فيه هذه القوة، ولا عن طبيعة التفاهمات الأمنية والسياسية التي أحاطت بها منذ تأسيسها. فالمسألة هنا لا تتعلق بتفاصيل تقنية في إعادة الهيكلة، بل بجوهر السيادة الوطنية، ووحدة الإقليم، واحتكار الدولة لاستخدام القوة المسلحة.
أولًا: في الأصل البنيوي لقسد وإشكالية الشرعية
نشأت ميليشيا قسد، التي كان اسمها الأول «وحدات الحماية الكردية»، بوصفها تشكيلًا يُدار عبر قيادات حزب العمال الكردستاني التركي إلى جانب نسخته السورية. وبعد ارتكابها سلسلة من الانتهاكات بحق المتظاهرين السوريين، بمن فيهم أكراد سوريون، أُعيد تقديمها تحت مسمى يحمل صفة “الديمقراطية”، في حين ظل جوهرها حركة ذات نزعة انفصالية واضحة. وفي سياق الحرب، استفادت هذه الميليشيا من ابتعادها عن السلطة المركزية، وتمدّدت ضمن ترتيبات معقّدة شملت تنسيقًا مباشرًا وغير مباشر مع نظام بشار الأسد الساقط، سواء عبر تفاهمات أمنية، أو تقاطع مصالح ميدانية، أو إدارة مشتركة لبعض الملفات. هذا المعطى ليس تفصيلًا تاريخيًا، بل عنصرًا حاسمًا في تقييم أي محاولة لاحقة لإعادة إدماج هذه القوة، إذ إن إعادة تدوير تشكيل نشأ في ظل منظومة إرهابية، ومنحه غطاءً قانونيًا جديدًا من دون مراجعة شاملة لدوره ووظيفته السابقة، لا يُعدّ قطيعة مع الماضي، بل تقنينًا لإرث النظام الأسدي الآفل.
ثانيًا: في الادعاء القانوني للاعتراف باتفاق سابق
الحديث عن «اعتراف خطي» باتفاق شفهي سابق، غير منشور وغير خاضع لأي مسار دستوري أو رقابي، يفتقر إلى المشروعية القانونية. فالقضايا السيادية لا تُدار عبر مراسلات مغلقة أو تفاهمات ما قبل الدولة، بل عبر أطر دستورية شفافة تخضع للنقاش العام والمساءلة. وأي التزام يُنتج خارج هذه القواعد لا يُنشئ حقًا قانونيًا، بل يكرّس غموضًا قابلًا للتوظيف السياسي.
ثالثًا: في مفهوم الدمج وتشويه معناه
ينص الطرح المتداول على الإبقاء على قسد كقوة موحدة بثلاث فرق مستقلة وظيفيًا وقياديًا. هذا التوصيف، من منظور قانوني ومؤسسي، يناقض مفهوم الدمج ذاته. فالدمج يعني حلّ البنية الفصائلية، وتفكيك القيادات المستقلة، وإعادة تشكيل الأفراد ضمن مؤسسة وطنية واحدة بعقيدة جامعة. أما الإبقاء على القوة المسلحة بهيكلها وخصوصيتها، فهو اعتراف دائم بسلاح خارج سيطرة الدولة، مهما تغيّرت تسمياته.
رابعًا: في تحييد الجيش عن جزء من الإقليم
النص الذي يتحدث عن منع دخول الجيش الوطني وأجهزة الدولة إلى شمال شرق سوريا يشكّل انتهاكًا صريحًا لمبدأ وحدة الإقليم. فلا توجد دولة ذات سيادة تقبل قانونيًا باستثناء جزء من أراضيها من ولايتها العسكرية والأمنية. مثل هذا الترتيب لا يحقق الاستقرار، بل يرسّخ كيانًا أمنيًا منفصلًا، مفتوحًا على التدخلات الأجنبية، وقابلًا للتحول إلى بؤرة نزاع دائم.
خامسًا: في المحاصصة الأمنية وتقويض الدولة
تخصيص مناصب عليا في وزارات سيادية وقيادة الأركان على أساس الانتماء إلى تشكيل مسلح لا يُعدّ تمثيلًا، بل محاصصة أمنية. هذا النموذج يقوّض مبدأ المواطنة المتساوية، وينقل منطق تقاسم النفوذ من المجال السياسي إلى قلب المؤسسة العسكرية، ما يُضعفها من الداخل ويجعلها رهينة توازنات فصائلية.
سادسًا: في إعادة إنتاج القيادات بدل المساءلة
إدراج أسماء قيادات فصائلية لتولّي أدوار مستقبلية داخل الجيش، من دون مسار وطني واضح للمساءلة والتقييم المهني، يُعدّ التفافًا على مفهوم العدالة الانتقالية والإصلاح المؤسسي. فالجيوش الوطنية لا تُبنى عبر لوائح جاهزة، بل عبر معايير مهنية صارمة تضمن الولاء للدولة لا للتشكيلات السابقة.
سابعًا: المقارنة مع نماذج فاشلة
تُظهر التجارب المقارنة بوضوح أن تقنين السلاح خارج الدولة لا يؤدي إلى الاستقرار. ففي لبنان، تحوّل السلاح الذي نشأ بذريعة استثنائية إلى عائق دائم أمام قيام الدولة. وفي العراق، لم يؤدّ دمج الفصائل شكليًا إلى توحيد القرار الأمني، بل إلى ازدواجيته. أما ليبيا، فقد شكّلت المثال الأوضح على فشل تقنين الميليشيات في منع الانقسام. والقاسم المشترك في هذه الحالات هو تجاهل السؤال الجوهري المتعلق بنشأة هذه القوى ووظيفتها الأصلية.
خواتيم كمقدمة للفوضى:
إن أخطر ما في الطرح المتداول حول دمج ميليشيا قسد لا يكمن في بنوده المعلنة فحسب، بل في كونه يسعى إلى تشريع ترتيبات صُمّمت في ظل نظام استبدادي وتحت مظلة تدخل أجنبي، ومنحها صفة قانونية لاحقة. هذا المسار لا يهدد وحدة الأراضي السورية فقط، بل يعرّض السلم الأهلي لمخاطر دائمة، عبر تكريس الانقسام بقوة السلاح لا عبر العقد الوطني. إن أي عملية بناء دولة حقيقية تقتضي قطيعة واضحة مع منطق الميليشيا، ورفض إعادة تدوير أدوات الماضي، والانطلاق نحو دولة واحدة، بسيادة كاملة، وسلاح واحد، ومؤسسات تخضع للقانون لا للتفاهمات الأمنية.
أحمد سليمان
الاحتلال الأجنبي للجزيرة السورية: تشريع الأمر الواقع ومخاطره على السلم الأهلي

المزيد من المواضيع
الجولان ليس بورصة لأسواق ترامب… والأمم المتحدة مطالَبة بحماية الشرعية الدولية
إقصاء الأم وشرعنة الابتزاز: إشكالية قانونية غير إنسانية في التعميم رقم (17) لوزارة العدل السورية
من المسؤول عن سرقة مركز الوثائق التاريخية في قصر العظم بدمشق؟