عامٌ مضى على سقوط الطغمة الأسدية، لكن إرثها القضائي ما يزال حاضرًا بأثقل صوره: أحكام إعدام سياسية لم تُلغَ بعد، رغم وضوح بطلانها القانوني والأخلاقي. الملف الذي كان يُفترض أن يُطوى في الأيام الأولى للتغيير، بقي معلّقًا في دهاليز لجنة وزارية لم تُحرّك ساكناً منذ إنشائها. هذا التجميد لا يعبّر فقط عن بطء إداري، بل يكشف عن احتمالات أعمق: استخدام العدالة المؤجلة كورقة تفاوضية، أو إبقاء الماضي رهينة لحسابات الحاضر. إن استمرار هذه الأحكام يطرح سؤالًا جوهريًا: هل نحن أمام مسار عدالة حقيقية، أم أمام إعادة إنتاج المساومات التي عطّلت الإنصاف لعقود؟
القرار الوزاري رقم (2024/ل)، الذي كان يتوقع كثيرون صدوره في إطار التجهيزات العدلية بعد التغيير، لم يصدر فعلياً إلا بتاريخ 16 تشرين الأول/أكتوبر 2025، وفق ما توضحه المادة السابعة من الوثيقة الرسمية. القرار شكّل لجنة خاصة مهمتها النظر في الاعتراضات المقدّمة من المحكومين غيابياً على خلفيات سياسية وثورية.
لكن ورغم صدوره رسميًا في أكتوبر 2025، لم يصدر عن اللجنة أي قرار أو توصية أو بيان، ولم تُقدَّم أي إيضاحات عامة حول سبب هذا الجمود. وهذا يعني أن الفترة التي تلت سقوط النظام – والتي امتدت لعام كامل – لم تشهد أي تحرّك مؤسساتي فعلي لمعالجة هذه الأحكام، وأن إنشاء اللجنة نفسه جاء متأخرًا، ثم بقيت أعمالها مجمَّدة بلا تفسير.
أحكام الإعدام هذه تعود إلى الحقبة الأسدية، يوم كان القضاء امتداداً مباشراً للأجهزة الأمنية، وتضمّ أسماء بارزة مثل رياض حجاب وآخرين من المسؤولين المنشقين والمعارضين.
وهنا يتكرر السؤال بإلحاح: لماذا يبدو الملف وكأنه موضوع في «ثلاجة سياسية» بانتظار لحظة مُعدّة سلفاً؟
هل هو حقاً «قيد الدراسة»؟
منطقياً، ومع سقوط النظام كان يفترض أن تُلغى تلقائياً جميع القرارات الصادرة بحق معارضيه، بوصفها أحكاماً سياسية واضحة صدرت خارج إطار العدالة. لا يتطلب الملف تقنيات معقدة ولا تحقيقات جنائية، بل مراجعة قانونية بسيطة. فكيف يمكن للجنة مكوّنة من خمسة أعضاء – شُكّلت أخيراً – أن تبقى دون أي خطوة عملية منذ يومها الأول؟
– هل نحن أمام لجنة متقاعسة؟
– أم لجنة لم تُمنح التفويض الفعلي للعمل؟
– أم لجنة وُجدت فقط كي يُقال إن «الملف قيد المعالجة»؟
الشكوك تتصاعد:
عدد من الشخصيات المشمولة بالأحكام يعبر عن قلق متزايد، ليس فقط بسبب غياب القرارات، بل نتيجة السياق السياسي المتقلب الذي تبدو فيه كل القضايا قابلة للتأجيل والتوظيف.
يرى بعض هؤلاء – وربما بحق – أن تأخير إلغاء أحكام الإعدام قد يكون مرتبطاً بمحاولة استخدام الملف كورقة تفاوضية بين السلطة الانتقالية والمعارضين. هناك من يتحدث عن أن استمالة بعض الشخصيات البارزة لصالح السلطة الحالية يقف عائقاً أمام حسم الملف، وأن ترتيبات سياسية قد تكون مطروحة «كثمن» للإلغاء.
الإعدام المؤجّل :
يرى آخرون أن إبقاء الملف مفتوحاً قد يكون مقصوداً ليتزامن مع مرور عام على سقوط الطغمة الأسدية. لكن هذا الربط ليس بريئاً: فالقرار لا يحتاج إلى لحظة سياسية، لأنه استحقاق قانوني وأخلاقي، وكان ينبغي إصداره في الشهر الأول من التغيير.
– هل يُطلب من المعارضين تقديم «تنازلات» لاستعادة حقهم الطبيعي في إلغاء أحكام سياسية تعسفية أصلاً؟
– هل يجري إعداد صفقة تُستخدم فيها هذه الأحكام كأرصدة سياسية مستقبلية؟
من يحاسب اللجنة:
عندما يمسّ التأخير مصائر أشخاص وحقوقهم وسمعتهم، يتحول التقاعس نفسه إلى فعل من أفعال الظلم. وإذا كانت اللجنة – التي لم تبدأ عملها فعلياً منذ تأسيسها في أكتوبر 2025 – تُستخدم غطاءً للمماطلة، فإن محاسبتها تصبح ضرورة لا تقلّ أهمية عن معالجة الملف الأساسي.
فالعدالة المُجمّدة ليست عدالة، وتأجيل الإنصاف ظلم جديد يُرتكب باسم القانون.
الملف اليوم على مفترق طرق:
إما قرار فوري وشجاع يلغي كل الأحكام السياسية بلا استثناء،
وإما استمرار الغموض حول من يتحكّم فعلياً بالملف ولماذا يُترك معلّقاً دون أي خطوة منذ تشكيل اللجنة.
وبين الانتظار والذكرى الأولى للسقوط، تبدو أحكام الإعدام وكأنها تحوّلت إلى رمز آخر من إرثٍ ثقيل نحاول الخروج منه، فيما لا يزال البعض يصرّ على إبقاء المستقبل مرتهناً لملفات الماضي.
خلاصة الموقف :
في المحصلة، لا يمكن للعدالة أن تبقى رهينة حسابات سياسية. إن إلغاء أحكام الإعدام التعسفية ليس صفقة ولا أداة ضغط، بل حق وواجب يفتح باب سوريا جديدة، ويضع حداً لاستمرار الظلم تحت أي مسمى.
أحمد سليمان
الرابط: https://opl-now.org/2025/12/21/sleiman-62/


المزيد من المواضيع
الجولان ليس بورصة لأسواق ترامب… والأمم المتحدة مطالَبة بحماية الشرعية الدولية
الاحتلال الأجنبي للجزيرة السورية: تشريع الأمر الواقع ومخاطره على السلم الأهلي
إقصاء الأم وشرعنة الابتزاز: إشكالية قانونية غير إنسانية في التعميم رقم (17) لوزارة العدل السورية