لم يرتبطْ حضورُ عمر أبو ريشة في ذاكرتنا بجودةِ شعره ولا مقدرته الفنّيّة العالية وحسب، ولا بشهرتِه في تمثيلِ سوريا كسفير منذ تعيينه سفيراً في البرازيل في عهد حسني الزّعيم عام 1949م، وليس انتهاءً بكونه السّفيرَ الرّابعَ لسورية في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، حيثُ جمعتْه صداقةٌ وثيقةٌ بالرّئيسِ جون كنيدي… وإنّما ارتبطَ حضورُه الأعمُّ والأشملُ في الذّاكرةِ والوجدانِ السّوريّ بقصائدِه الشّجاعةِ الغاضبةِ، الّتي واكبتِ الأحداثَ الكبرى الّتي عاشتْها سوريا والأمّة العربيّة، فوقف الشّاعرُ هادراً بعد مقتلِ الزّعيمِ الوطنيّ الطّبيبِ عبد الرّحمن الشّهنبدر عام 1940م في عيادته بحيّ الشّعلان الدّمشقيّ، ليقولَ:
هَلْ عَلَى الرَّمْلِ بَعْدَ طُوْلِ السِّفَارِ أَثَرٌ مِنْ قَوَافِلِ الأَدْهـــَارِ
بِنْتَ قَاسَيُونَ أيُّ جُرْحٍ أُدَارِيْ فِيْ هَوَاكِ؟ وَأَيُّ جُرْحٍ أُدَارِي؟
كان عمرُ أبو ريشة على الدّوامِ شاعراً تفيضُ شاعريّتُه في الأحداثِ الكبرى، فواكبَ جلاءَ الفرنسيّين عن الأرضِ السّوريّة برائعته: (عروس المجد) الّتي ذكّر فيها بميسلونَ وبطلِها يوسفَ العظمةِ، فاختزلَ روحَ ميسلونَ بالبيتِ الّذي أضحى مثلاً سائراً:
“شَرَفُ الْوَثْبَةِ أَنْ تُرْضِيْ الْعُلا=غَلَبَ الْوَاثِبُ أَمْ لَمْ يَغْلِبِ”
مثلما واكبَ نكبةَ فلسطينَ في قصيدته الذّائعةِ الصّيتِ؛ الّتي افتتحَها بالسّؤالِ الاستنكاري المُوجعِ:
أُمَّتِي هَلْ لَكِ بَيْنَ الْأُمَمِ=مِنْبَراً لِلْسَّيْفِ أَوْ لِلْقَلَمِ؟
أَتَلقَاكِ وَطَرْفِيْ مُطْرِقٌ=خَجَلاً مِنْ أَمْسِكِ الْمُنْصَرِمِ
وعلى ذكرِ هذه القصيدة، يروي أكرم الحوراني في مذكّراته حادثةً وقعتْ في خمسينيّاتِ القرنِ العشرين، تصوّر أثرها العميق في الوجدان فيقولُ:
“في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 1950م ذهب جميل مردم قُبيلَ استقالتِه إلى حلبَ في موكبٍ فخمٍ، ومرَّ في طريقهِ على مدينةِ المعرّةِ، فاستقبلَه صديقُه “ملكُ المعرّةِ” كما كانَ يطلقُ عليه الإقطاعيّ حكمت الحراكي استقبالاً يليقُ به وبكرمِه الحاتمي كما قالتْ إحدى الصّحفِ، وفي حلبَ أقيمتْ له حفلةٌ كبرى في نادي اللّواءِ وصفتْها الصّحفُ آنذاك بالحفلةِ الّتي ضربتِ الرّقمَ القياسيَّ بينَ كلّ ما أقيمَ من حفلاتٍ حتّى الآنَ.
وبدأ جمعُ التّبرُّعاتِ للجيشِ عن طريق يانصيب على جائزةٍ قدّمَها القوتلي؛ وهي شعارٌ سوريٌّ مصنوعٌ من الذّهبِ، ونموذج صغير لطائرة صُنِعَ في رحباتِ الجيشِ السّوريّ، لم يكنْ مقرّراً في هذا الحفل أن يكونَ الشّاعرُ عمر أبو ريشة بينَ المُنظّمين، ولكنَّ الجمهورَ طلبَه بإلحاحٍ، فألقى قصيدتَه المشهورةَ الّتي يقولُ فيها:
رُبَّ وَاْمُعْتَصَمَاهُ انْطَلَقْتْ=مِلْءَ أَفْوَاهِ الْبَنَاتِ الْيُتَّمِ
لَامَسَتْ أَسْمَاعَهُمْ لَكِنَّهَا=لَمْ تُلَامِسْ نَخْوَةَ الْمُعْتَصَمِ
فانقلبَ الحفلُ إلى تظاهرةٍ كبرى، اضطرّتْ جميلَ مردم إلى الهرب ِمن البابِ الخلفيّ لنادي اللّواءِ، وسارتِ القصيدةُ على أفواهِ النّاسِ حتّى أنّني سمعت فتياناً يردّدونَها في حماةَ، وهمْ أمامَ أحدِ الأفرانِ، لقد كانتِ القصيدةُ تعبّرُ عن صميمِ ما كانتْ تختلجُ به مشاعرُ الشّعبِ آنذاك”.
واستمرَّ عمر أبو ريشة يرصدُ الآلامَ والنّكباتِ، ويعطي للحدثِ روحَه ومعناهُ في مرآة الشّعرِ، لتتبلورَ شخصيّةُ الشّاعرِ الغاضبِ، الّذي يهجو، ويعرّي، ويتّخذُ موقفاً، فيعلنُه دونَ أن يواربَ، ويكتبُ فيه القصائدَ دونَ أن يسفَّ أو يبتذلَ… ففي عام 1969م عقدت القمّة العربيّة الخامسة في الرّباط لرسم استراتيجيّة شاملة لمواجهة إسرائيل بعد إحراق المسجد الأقصى في آب/ أغسطس من العام نفسه… لكنَّ القادةَ العربَ لم يخرجوا من القمّةِ بأيّ قرارٍ أو بيانٍ إزاء ذلك الحدثِ الّذي ألهبَ وجدانَ العربِ والمسلمينَ في شتّى بقاع الأرضِ… فكتبَ عمرُ أبو ريشة قصيدتَه الشّهيرةَ الّتي ألقاها في ذكرى الأخطل الصّغيرِ، وأصدرتْها دارُ النّهار ببيروتَ على أسطوانةٍ مسموعةٍ في طبعتين متتاليتين فقالَ:
يَا لَلْرِّئَاسَاتِ كَمْ أَغْرَتْ مَنَاصِبُها
وَكَمْ كِبَارٌ عَلَى إِغْرَائِها صَغُرُوْا
إِنْ خُوْطِبُوْا كَذَبُوْا أَوْ طُوْلِبُوْا غَضِبُوْا
أَوْ حُوْرِبُوْا هَرَبُوْا أَوْ صُوْحِبُوْا غَدَرُوْا
خَافُوا عَلَى الْعَارِ أَنْ يُمْحَى فَكَانَ لَهُمْ
عَلَى الْرِّبَاطِ لِدَعْمِ الْعَارِ مُؤْتَمَرُ
نَامُوْا عَلَى بَهْرَجِ الْدُّنْيَا وَمَا عَلِمُوْا
أَنَّ الْفَرَاشَ عَلَى الْمِصْبَاحِ يَنْتَحِرُ
عَلَى أَرَائِكِهِمْ – سُبْحَانَ خَالِقِهِمْ –
عَاشَوْا وَمَا شَعَرُوْا مَاتُوْا وَمَا قُبِرُوْا
لم يخنْ عمرُ أبو ريشة ضميرَه الأدبيَّ والإنسانيَّ يوماً، ولم يكتبْ متملّقاً أو متزلّفاً في شعره… ولم يكنْ لديه أكثرُ من مكيالٍ يكيلُ به الأحداثَ الكبرى الّتي عاشَها، أو عاصرَها، ولهذا لم يصمتْ إزاء مجزرةِ حماةَ الكبرى الّتي ارتكبَها نظامُ حافظ الأسد عام 1982م، لم يهنْ عنده دمُ الضّحايا، ولا أوجاعُ مدينةِ الأُباةِ حماةَ، ولا عزّةُ أهلِها الّذينَ وصفَهم بـ”سادة منتـدى”، فكتبَ عنها قصيدتَه: “عودة مغترب” الّتي أوصى بنشرِها بعدَ وفاتهِ، لتكونَ صوتَه للأجيالِ القادمةِ وشهادتَه الشّعريّةَ الرّفيعةَ عن واحدةٍ من أقسى المجازرِ في التّاريخِ السّوريّ المعاصرِ، وعن واحدٍ من كبارِ المجرمين في هذا التّاريخِ الدّامي، فخصَّ حافظَ الأسد بقوله:
وَأَزَاحَتِ الْأيَّـامُ عَـنْهُ نِقَابـَهُ=فَأَطَلَّ مَسْخاً بِالْضَّــــلال مُـزَوَّدا
تَرَكَ الْحُصُوْنَ إِلَى الْعِدَى مُتَعَثِّراً=بِفِرَارِهِ، وَأَتَى الْحِمَى مُسْتَأْسِدا
سِـكِّيْنُـهُ فِيْ شَـدْقِهِ وَلُعَـابُهُ=يَجْرِي عَلَى ذِكْرِ الْفَرِيْسَةِ مُزْبِدا
مَا كَانَ هُوْلَاكُو وَلَا أَشْـبَاهُهُ =بِأَضَلَّ أَفْئِـدةً وَأَقْسَـى أَكْـبُدا
هَذِي حَمَاةُ عَرُوْسَةُ الْوَادِيْ عَلَى=كِبْرِ الْحِدَادِ، تُجِيْلُ طَـرْفاً أَرْمَدا
هَذَا صَلَاحُ الْدِّيْنِ يَخْفِيْ جُرْحَهُ=عَنْهَا، وَيَسْأَلُ: كَيْفَ جُرْحُ أَبِي الْفِدَا
سَرَوَاتُ دُنْـيَا الْفَتْحِ هَانَتْ عِنْدَهُ=وَأَصَابَ مِنْهَا مَا أَقَـامَ وَأَقْعَـدا
مَا عَفَّ عَنْ قَذْفِ الْمَعَابِدِ بِالْلَّظَى=فَتَنَاثَرَتْ رِمَمـاً، وَأَجَّتْ مَوْقِـدا
كَمْ سُـجـَّدٍ فَـاجَـأَهُـمْ، وَمَا=كَانُوْا لِغَيْرِ اللهِ يَـوْمـاً سُـجَّدا
عَـرَفَتْهمُ الجُلَّى أَهِـلَّةَ غَـارَةٍ=وَغُزَاةَ مَيْدَانٍ، وَسَادَةَ مُنْتَـدَى
للكبيرِ عمرَ أبو ريشة، الكبيرِ في شعرِه ومواقفِه، الكبيرِ في قضايا كبيرةٍ وتحوّلاتٍ تاريخيّةٍ صارخةٍ لم يشحْ وجهَه عنها، نخصّصُ ملفَّ هذا العددِ من (الموقفِ الأدبيّ)؛ لنضعَ الشّاعرَ وشعرَه في سياقه الحقيقيّ، نسراً يحلّقُ في سماءِ الوجدانِ السّوريّ والألمِ السّوريّ، ليحدّثَ الأجيالَ عن الكلمةِ الشّجاعةِ والشّعر الّذي ينفعُ النّاسَ، ويثري إيمانَهم بقيمِ الحقِّ والعدلِ والجمالِ… والغضبِ عندَما يُنتَهكُ الحقُّ، وتختلُّ موازينُ العدلِ، ويشوّهُ الجمال، وقد لخّص روح الغصب في شعره ذات مرّة بالقول:
فِيْ فَمِي الْشِّعْرُ غَاضَبٌ أَنَا أَخْشَى إِذَا انْفَجَرْ
محمد منصور: كاتب سوري
__________________________
● بحسب إشارة الكاتب محمد منصور على صفحته، فإن المقال افتتاح العدد الأخير من مجلة «الموقف الأدبي»، الذي أنجزه قبل استقالته من اتحاد الكتّاب العرب، أخّره رئيسُ الاتحاد الجديد خمسةَ أسابيع قبل نشره.

المزيد من المواضيع
من المسؤول عن سرقة مركز الوثائق التاريخية في قصر العظم بدمشق؟
توم باراك بين بغداد ودمشق… هندسة صراع أم صفقة سلام؟
إسرائيل تتوغل مرارًا في الأراضي السورية وتستهدف المدنيين