عزمي بشارة : أولئك إخواني فجئني بمثلهم
هي لحظة صمود تاريخية تسجل لشعب عظيم أمام قسوة غير مسبوفة لنظام تحميه كذبة “المجتمع الدولي”. لقد رفض هذا النظام اي إصلاح مخيّرا حلفاءه أن يقبلوه كما هو، أو يمضي إلى الحرب مع شعبه حتى النهاية غير آبه بدمار سورية ككيان، فتخلى عنه كثيرون رفضوا خياره الدموي، واختار حلفاؤه مصالحهم الاستراتيجية معه، وقبلوه كما هو. وبغض النظر عما يفكر فيه بعضهم، أو يدّعيه، حولالنظام ومساوئه، فقد لحق بهم العار أيضا، لأنهم قبلوا شرطه أن يقفوا معه من دون شروط. وأصبحوا طرفا في حربه الشعواء على شعبه. أما “المجتمع الدولي” فلا يهمه أن تتدمّر سورية ككيا، وشقه الإسرائيلي يريدها أصلا أن تستنزف تماما في حرب أهلية.
لكن الشعب في مرحلة الثورة يرفض هذا الخيار، وهذه هي الممانعة الحقيقية: إنه يرفض أن يأخذه النظام رهينه عدم مبالاته بالنتائج المتمثلة بشعار الأسد أو فلتحرق البلد، ويأبى أن يأخذه النظام رهينة الخيار الدموي: إما العبودية أو الحرب الأهلية. فهذا الخيار ينفع في ردع الناس قبل الثورة، أما وقد اقتحموا بها حواجز الخوف، فلم يعد بإمكان أحد أن يضعهم أمام هذه الخيارات. فهم أيضا ماضون حتى النهاية.
بهذه الخيارات السياسية الأمنية وبتسليح ميلشياته قاد النظام الشعب الى الدفاع عن نفسه، كشعب مسلح، وقاد البلاد الى الحرب الأهلية. فهو يعتبرها مبرر الاستبداد. ولكن الحرب الأهلية المفروضة من أعلى لا تلغي طبيعة الثورة المفروضة من القاعدة الشعبية. فما يجري في سوريا هو ثورة شعبية تتعرض لمحاولة تحويلها الى حرب اهلية، أما ما جرى في العراق، فهو احتلال أجنبي.
وإذا كانت الشعوب على حق فهذا لا يعني أنها تشكل معسكر الأخيار، ولا أنها إذا تسلحت فإنما تتسلح بالطهارة. في سوريا شعب مسلح حاليا، والشعب يخرج بمناقبه ومثالبه، بآماله العظام وتنوّره، وتخلف بعض قطاعاته. وهو يصمد بالتعبئة ضد الاستبداد من أجل الحرية، وبالتعبئة بالتضامنات الأهلية التي تحتضن الناس في محنتهم وتشد من أزرهم، والتي تلوثها الأحقاد من ناحية أخرى. ولن يعالج الجراح واللوثات الطائفية والأهلية على أنواعها سوى وعي الثوار السوريين وإصرارهم على أن الهدف هو إقامة نظام حكم ديمقراطي لمواطني سورية كافة، والتحديد الجاد لطبيعة المرحلة الانتقالية، والقبول بالمراحل الانتقالية حفاظا على الدولة. من هنا أهمية نشوء قيادات سياسية واعية على المستوى الوطني، وليس المحلي فقط في الداخل السوري. وهي تنشأ باستمرار، فأتون الثورة السورية العظيمة يولّد قيادات ميدانية وسياسية باستمرار.
لم يقل أحد أنه ما دام الشعب ثائرا فإن مطامع الدول سوف تتوقف، وأنه لن تحاول كل دولة أن تمرر مصالحها من خلال الاحتراب.
وقد ينشأ الوضع الذي يقتنع فيه حلفاء النظام أنه لا يمكن إنقاذه، وأنه لا بد من قبول مرحلة انتقالية من دون الأسد، ولو بمجلس عسكري يقود الى انتخابات. ربما يقتنعون أن يتخلوا عنه مقابل ذلك. لكن الشعب السوري سوف يتحرر بفضله هو. فحتى لو جاءت مساعدات متأخرة، سوف يبقى هو صاحب الفضل الأول والأخير. سوف يقدّر من تضامنوا معه، ولن يقدّر من تخلوا عن النظام لأنه لم يعد بوسعهم إنقاذة بعد كل هذا الدم والخراب. ولكن لا أحد يمكنه أن يفرض اي نوع من الوصاية على الشعب السوري في المستقبل. فالحرية كلها ملكه، لقد دفع ثمنها غاليا بدمه. وسوف يذكر التاريخ صموده في امتحان الايام الحرجة التي يعيشها حاليا في ظل القصف الذي تتلوه غارات العصابات البدائية.
كل من تعز عليه قيم العدالة والحرية وكرامة البشر يمكنه أن يقول عن ثوار سوريا أولئك إخواني فجئني بمثلهم..
عزمي بشارة : مفكر عربي
المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة