زملاء

ياسين الحاج صالح : الثائرون والسلطان – أدوار ونماذج، واستحالات

توقيع هدنة في حمص

1

بقدر ما كان مثال الثورة، على نحو ما أخذنا بتداوله في القرن العشرين، يحيل إلى «الثورة الاجتماعية» التي تسعى لقلب «النظام الاجتماعي»، الهياكل السياسية والعلاقات الاجتماعية القائمة الموصوفة بالاستغلال والاستبداد و«التخلف»، كانت صورة الثائر المفترضة تجمع بين النضال السياسي ضد الأوضاع القائمة وبين التمرد الاجتماعي والانحياز إلى قيم متحررة، فيما يخص المرأة والعلاقة بين الجماعات الأهلية والخروج على أنماط السلوك التقليدية والمعتقدات الدينية الموروثة. الثائر يناضل من أجل التغير السياسي، ومن أجل التغير الاجتماعي والثقافي أيضاً. وهو في سلوكه وفي تفكيره وفي زيه يقدم نموذجاً متمرداً، ويوسع مساحة الممكنات الاجتماعية المغايرة. وحتى سبعينات القرن العشرين وبعض الثمانينات، كان يفترض أن النظام السياسي تعبير عن نظام اجتماعي متخلف، مع شرح التخلف بلغة الاقتصاد السياسي أساساً، وافتراض أن التخلف الثقافي والاجتماعي مضمنان فيه ومتولدان عنه.

لكن ليس هناك، بحدود علمي، دراسات اجتماعية حاولت نمذجة الثائرين في تجارب ثورية عربية على نحو يتجاوز هذه الصورة التقديرية المجردة. في ستينات القرن العشرين وسبعيناته، وفي الإطار الفلسطيني تحديداً، كان يفترض أن الثوري متمرد اجتماعياً، تفكيره «تقدمي» و«علمي» ومتحرر في آن، وهو منخرط عملياً في الكفاح من أجل التحرر العام. إنه «إنسان جديد»، يتجسد فيه التطلع إلى «تحرير الأرض والإنسان» الذي كان شعاراً متداولاً وقتها. لكن لا نكاد نذكر أمثلة فعلية تجسد فيها هذا النموذج المجرد. كان بعض أبطال العمليات الفدائية التي تنطلق من لبنان ضد الاحتلال الإسرائيلي في مطلع السبعينات وأواسطها شبان مدخنون بشعور طويلة، يرتدون زياً مبرقعاً، وكان بينهم من ليسوا فلسطينيين، وكانت الشهيدة دلال المغربي التي قادت عام 1978 من لبنان عملية ضد الاحتلال، فتاة في الثامنة عشرة، سافرة طبعاً.

لكن لا يكاد يكون ما هو معلوم عن تفكير هؤلاء الثائرين ونمط حياتهم. يفترض أن لهم قضية تقدمية ثورية، نعم، لكن من هم؟ كيف اعتنقوا قضيتهم وكيف يعيشونها؟ وكيف يحصل أن يتخلوا عنها، ماذا يفعلون في هذا الطور من حياتهم (هذا موضوع لم يطرق إطلاقاً بحدود ما أعلم)؟ لا نعرف شيئاً مهماً.

بالمقابل ظهر في الوسط الفلسطيني، ويظهر اليوم في الوسط السوري، نموذج الثائر الشجاع، المنخرط في الكفاح ضد السلطة المعتدية (أسدية أو إسرائيلية)، والذي قد يضحي بحياته، لكنه إن لم يكن محافظاً اجتماعياً، فإن هذا البعد من تفكيره وسلوكه ليس نامياً.

2

من تسنت لي الفرصة للقائهم من الثائرين السوريين هم أشخاص شعبيون، شجعان، قاطعون في مناهضتهم للنظام، يحملون أو لا يحملون السلاح في وجهه، لكنهم متوائمون اجتماعياً، كيلا أقول إنهم تقليديون. التواؤم ليس نزعة محافظة قتالية أو منظمة إيديولوجياً، والثائرون هؤلاء ليسوا إسلاميين، لكن قضايا القيم والأدوار الاجتماعية للجنسين، وقضايا الثقافة والفن، لا تكاد تشغل موقعاً في تفكيرهم وتصورهم لمستقبل البلد. ويقترن بذلك في كل حالة أعرفها أن هؤلا الثائرين مرتبطون ببيئات اجتماعية محلية حية، هم في الواقع من المدافعين عنها ومن أبطالها. لا يندر أن يكون لهم رأي سلبي في أعرافها وعاداتها، أن يكونوا «منفتحين» على المستوى الشخصي والعائلي، لكنهم ليسوا متمردين اجتماعياً.

ليس من قابلتهم وكتبت بورتريهات لبعضهم عام 2013 «قبضايات» محليين، أو من «زكرتية» الجماعة المحلية. كانوا عمالاً أو متعهدين صغاراً أو أصحاب ورش وملكيات صغيرة ومتوسطة، يدافعون عن محيط حي، يتعرض لعدوان متعدد الأشكال من قبل الدولة الأسدية، ويحفزهم تطلع غير محدد للعدالة والكرامة. ويبدو أن نموذج الشعبيين هذا أساسي في الثورة السورية، وأصحابه وثيقو الارتباط بقيم المجتمعات المحلية من نخوة وشجاعة ورفض للظلم واستعداد للتضحية.

هؤلاء الشعبيون هم مقاتلو الثورة الأصليون الذين يدافعون عن مناطقهم، يشبهون قيم بيئاتهم التي تعلي من شأن الحمية والشجاعة، لكن يشبهونها أيضاً في قلة التنظيم والتبعثر الموافق للتجزؤ المحلي. وفي تكرسهم لمواجهة النظام، دون تنظيم ودون عقيدة، ودون موارد، أُخِذوا على حين غرة من جهة الجماعات الإسلامية الأكثر تنظيماً والأوفر موارداً. هذه المجموعات الإسلامية إما مرتبطة بقوى خارجية، أهلية أو دول، توفر لها موارد تغنيها عن الارتباط بوسط محلي، أو يجمعها أن عنفها مبدئي وهجومي، تستولي دونما وساوس على موارد عامة وخاصة، وهذا خلافاً لعنف المجموعات الشعبية التي كان عنفها دفاعياً واضطرارياً، وتحترم عموما «أرزاق» الناس. من التقيتهم في الغوطة قبل عامين لهم رأي سيء بجبهة النصرة (وصف أحدهم النُّصرويين بأنهم «أنجاس مناكيد»)، وبأمثال زهران علوش، وكان يعمل بعضهم في إطار مجموعات «الجيش الحر»، أو في تدبر الحياة في المناطق المعرضة للحرب الأسدية المستمرة، أو آل الأمر ببعضهم إلى التشتت أيضاً والخروج من البلد.

لكن القبضايات والزكرتية ليسوا نادرين بين الشعبيين. كثير منهم انخرطوا في الثورة، ومن أشهرهم مثلا أبو علي خبية من دوما، وهو رجل شعبي، من مؤسسي لواء شهداء دوما، ومن أبرز محرريها. ويبدو أنه من متناولي الحشيش، ومتداوليه أيضاً، وعليه مآخذ أخرى من هذا القبيل. قد يكون ذلك صحيحاً أو غير صحيح، لكنه استُخدم ضده وقت اعتقاله من قبل جماعة زهران علوش، «جيش الإسلام»، وهي جماعة سلفية، منظمة وممولة من رعاة إقليميين، تفرض رقابة أعلى على سلوك أفرادها.

أقرب مثال للثائر «الاجتماعي»، أعني المتمرد الذي له قول في شؤون قيم المجتمع وأوضاع النساء والأعراف الدينية المحلية، هو… الإسلامي. هذا رجل (رجل حصراً) له عقيدة ينضبط سلوكه بها عموماً، وطبعاً تفكيره وزيه ونمط حياته، وهو يتطلع إلى أن ينضبط المجتمع ككل بها. يتميز الإسلامي عن الثائر المحلي الشعبي أن ممارسته للعنف المسلح المنظم تجد لها سنداً في عقيدته: «الجهاد». زوجته ومن في كنفه من نساء معزولات عن الحياة العامة الظاهرة، دون أن يعني ذلك بالضرورة أنه لا دوراً عاماً لهن.

لكن ضمن الإسلاميين ثمة نماذج فرعية. فسليلو القاعدة من الإسلاميين، ثائرون جذريون، عنفهم مبدئي واختياري وواجب، وهم في غير ما حاجة إلى بيئة حية يدافعون عنها أو حتى يحاولون كسبها إلى صفهم. «جبهة النصرة» تعمل على ألا تستعدي المحليين، لكن رسالتها: فرض حاكمية الله، مكتملة بصرف النظر عن رأيهم فيها واقتناعهم بها، وهي لا تقتضي رضاهم ولا تقيم لهم اعتباراً سياسياً. أما داعش فلا تقيم وزناً للمحليين، وقادتها معظمهم مستوردون، وليس معتقدها الديني ذاته غير تكنولوجيا سياسية تشرّع للسلطة المطلقة وللإبادة. لدى الجماعتين عقيدة «علمية» ناجزة كل النجاز وكاملة كل الكمال، ولذلك لا بأس بالعنف من أجل تطبيقها. جماعة النصرة لينينيون، والبذرة القُطْبية الخاصة بالطليعة الإسلامية حية بينهم. الدواعش ستالينيون أكثر: كثير من الدولة وقليل من الثورة.

جماعة «جيش الإسلام» و«أحرار الشام» واقعون في فلك جاذبية النموذج السلفي الجهادي، لكنهم محليون، تديّن أكثرهم أقرب إلى التدين الشعبي المحافظ السائد في مناطقهم (فرض حظر التدخين على مقاتلي جيش الإسلام لبعض الوقت عام 2013، لكن جرى التراجع عنه بعد حين وجيز)، والسلفية إيديولوجية «جهاد» وتعبئة مجربة. وقيادات المجموعتين، جيش الإسلام بخاصة، تعرض براغماتية أكثر بحكم روابطها الدولية، السعودية وتركيا وقطر، وأميركا. أما الإخوان فليسوا جهاديين، وإن «جاهدوا»، تكوينهم بحكم المنشأ التاريخي والتكوين الاجتماعي (مديني، طبقة وسطى، إقناعي مع اهتمام بالهيمنة…) سياسي، يتلون كثيراً بالبيئة المحيطة: يتعلمن أو يتسلَّف حسب الظروف.

ومعظم هؤلاء الإسلاميون، بالمناسبة، ليسوا تقليديين أو محافظين اجتماعياً بالمعنى الشائع، إنهم ثائرون، ولديهم مثال صنعي ومجرد كثيراً أو كثيراً جداً يتطلعون إليه، لكنه مثال غير قائم على المساواة وغير تحرري (معني بكسر قيود وتعظيم طاقات وقدرات كل النساء وكل الرجال). أقرب الإسلاميين إلى المحافظة هم الإخوان، والأكثر تجريداً وصنعية هم داعش ثم جبهة النصرة. لكن ليس بين الجميع من هو «تقليدي».

هناك نموذج آخر، متعلمون ومثقفون من الطبقة الوسطى أو شرائحها الدنيا، وهؤلاء لم يحملوا السلاح في عمومهم (بعضهم فعلوا)، واعتقلوا وعذبوا، واستشهد بعضهم. القضايا الاجتماعية الثقافية حاضرة في تفكير وسلوك المنسوبين إلى هذا النموذج، غير قليل منهم نساء، وبيئاتهم مختلطة. لكن هناك نقطتا ضعف كبيرتان في تكوين هذا المجموع الذي أنحدر منه. إنه مجموع غير منظم، لا ينضبط بفكرة أو مشروع أو عقيدة، فقط قيم عامة مجردة تحيل إلى الحرية والعدالة والكرامة. ثانياً إنه غير منتج للمعاني والقيم، لا يحمل رؤية قوية لمجتمع جديد، وليس متكوناً حول هذه الرؤية وقيم مرتبطة بها وأنماط تنظيم وانضباط موافقة. الجيل الأكبر يتكون من «أنوات» و«تاركين»، تركوا تنظيماتهم المنحلة أو الفاقدة للجاذبية، شيوعيين وناصريين وبعثيين سابقين، ومعتقلين سابقين، والجيل الأصغر من شباب لهم تجاربهم القصيرة المتعثرة  ومن ناشطين مثابرين على العمل، لكن دون مركز أو مراكز جذب فعالة. هنا أناس شجعان، يفكرون على المستوى الوطني، لكنهم ليسوا منتجين لإنسان جديد ومجتمع جديد. المبدأ الديمقراطي الذي يشتركون في الدعوة إليه منفصل في آن عن إنتاج معرفة منظمة بالمجتمع السوري من جهة، وعن حركات ديمقراطية مؤثرة من جهة ثانية. وعلى كل حال، تحطم الأنشط من هؤلاء في العام أو العامين الأولين من الثورة، ومن لم يستشهدوا منهم أو ينقطع أثرهم، انتشروا في الشتات السوري المتسع. يوحد هذه المجموعات أصلاً ضعف جذرها الشعبي، الأمر الذي يفسر سهولة اقتلاعها.

3

أما الثائر الذي يجمع بين الراديكالية السياسية والتحررية الاجتماعية والثقافية، المتمرد والمنتج لفكر جديد ولتنظيم وسياسة، فلا يكاد يكون موجوداً. المجتمع السوري لم يجد في تصرفه مدافعين عن الشعب، ينخرطون في كفاحه من أجل العدالة والكرامة، ويدافعون في الوقت نفسه عن تحرر النساء وعن علاقات اجتماعية قائمة على المواطنة والمساواة. ولا تكاد تتوفر تيارات تفكير تربط بين صعود الطغيان السياسي وانتشار النكوص الاجتماعي والثقافي في سورية في العقود الأربعة الماضية، أو ترى في التجميد السياسي المميت مصدراً للاستنقاع الاجتماعي والتعفن الثقافي، فتجمع في عملها بين الاعتراض عليهما معاً. ولم يتطور جدياً نقد لحداثتنا الواقعية يرصد ضعف إنتاجيتها من القيم التحررية وتعاليها على الجمهور العام من جهة، وركونها إلى الاستبداد وضمور روحها الثورية والتغييرية من جهة ثانية، وانحيازها إلى الطوابق العليا المنظمة من المجتمع من جهة ثالثة، وعلمانيتها الهنتنغتونية، أي «الحضاروية» والطائفية من جهة رابعة، ويقترح في مقابلها حداثة مغايرة، تحررية.

ضعف إنتاج المعرفة والثقافة التحررية، وضيق الأفق المحلي السوري بفعل ضعف اختلاط البلد المديد بالعالم، كانا بالأحرى يعزلان حاجات مقاومة السلطانية المحدثة، كنظام سياسي وكبنية اجتماعية قائمة على الطائفية، عن مطالب التفتح والتحرر الاجتماعي، في شأن قضايا النساء والدين بخاصة، ويفصل هذه المطالب الأخيرة عن مقتضيات التغيير السياسي. يفاقم من ذلك أن السلطانية، كانت تدفع عبر السنوات والعقود نحو الانكفاء على الأهلي والجهوي، وتعمم تجزؤ المجتمع، وتقاصر الروابط بين السكان وتدني ثقتهم ببعضم، وتعزز تراجع كثافة التفاعلات الاجتماعية والثقافية والسياسية على المستوى الوطني. وكل ذلك معزز أيضاً بنشاط باعتقال وتعذيب طالبي التغير السياسي، وسجنهم لسنوات طوال. المحصلة هي التعب. تعب المشتغلين في الشأن العام النفسي والفكري، والفقدان العام للحماسة وروح التحرر والتجديد. لم يعد لينا مشروع تغيّر شامل، لم نعد قادرين على التفكير الجذري المنظم. لم يعد لدينا معرفة تفسّر ورموز تعبّئ وبرامج ترشد العمل، ولم ننتج مركب المعرفة والرموز والبرنامج الذي يمكن أن تقوم عليه هيمنة ثقافية، ولو قطاعية.

توفي «أبو أيهم الدرزي» (الأول على اليمين) في حادث سير في النمسا قبل عدّة أسابيع.

4

وعلى هذا النحو حالت ديناميات تطورنا السياسي والاجتماعي، وفي قلبها الدولة السلطانية المحدثة (سلالة حاكمة، تنظيم طائفي، ومقاومة التغيّر)، دون أن تلتقي نزعات الاحتجاج الاجتماعي القاعدية بإنتاجية أوسع للقيم والتجارب التحررية. حامي الجماعة المحلية، المكشوفة أمام الطغيان والمنكفئة على نفسها، في مثل هذه الشروط يمكن أن يكون عدوانياً جداً حيال جماعة محلية أخرى. وتقديري الذي يحتاج إلى تقصٍّ أكثر تدقيقاً أن النموذج الأصلي لظاهرة الشبيحة هو البطل الشعبي المطارد، المتمرد على الدولة والنظام الاجتماعي، مثل بوعلي شاهين على نحو ما جرى تصويره في فيلم «الفهد» لنبيل المالح، نقلا عن قصة لحيدر حيدر (أو مثلاً «ميميد الناحل» في رواية المرحوم ياشار كمال). لكننا هنا، حيال ظاهرة الشبيحة، أمام تمرد منحط، يندرج في سياق نظام اجتماعي وسياسي تمييزي وامتيازي، صار فيه قادة الشبيحة من كبار أصحاب النفوذ الذي يتمردون على ما تفرضه عليهم الدولة الظاهرة من قيود، لكنهم نافذون في الدولة الباطنة. وهو تمرد منحط لاعتبار آخر: تعميم المحلي الشعبي من الوسط العلوي أو بعض بيئاته الفرعية على النطاق السوري (لم يعد شعبياً ولا احتجاجياً ولا دفاعياً)، وفي كنف الدولة الأسدية دوماً. أعاقت الأسدية احتياز الشعبي وعي محركات احتجاجه الديمقراطية، وإمكانية ظهور فاعل شعبي متحرر وعامل من أجل التحرر العام، فانحط الشعبي إلى طائفي، قوة قمع دفاعاً عن أوضاع امتيازية.

وليس هناك ما يحول بين البطل الشعبي حامي حمى الجماعة المحلية اليوم في سياق الثورة وبين الانقلاب إلى معادل للشبيح، يتسلط على هذه الجماعة نفسها أو على غيرها. هذا شيء ملحوظ مع فشل عملية التحول السياسي في البلد، وما كان يمكن أن تحمله من انفتاح بيئات شعبية على بعضها، وانقلاب طاقة بعض هؤلاء الشجعان المحلية على البيئات الضيقة التي خرجوا منها. قد تكون سيرة أبو علي خبية من هذا النموذج. بعد فشل محاولة الدخول إلى دمشق في صيف 2012، وكان الرجل من أبطالها، وجد نفسه بالتدريج في بيئة محاصرة ضيقة، وصارت فاعليته المواجهة للنظام محدودة مع حصار الغوطة، وصعود مجموعات دينية منظمة وأكثر انضباطاً، «جيش الإسلام» بخاصة. صار عبئاً على «النظام الجديد» في مدينته، واستخدمت عيوبه ضده، وجرى ضرب جماعته واعتقاله هو نفسه.

ومثلما الشبيح انحطاط للبطل الشعبي، ومثلما شكلت الأسدية انحطاطاً سلطانياً للدولة الوطنية ومضخة للنكوص الاجتماعي، تطور في السياق نفسه نموذج منحط للمثقف: المثقف المزايد على المجتمع، المتعالي عليه، الذي يواجهه بقيم مجردة ويعمل على سلبه صورته وتجريده من الكلام. ليس هذا المثقف عاملاً للتحرر الاجتماعي والسياسي، يجد بهجته في الأحرى في تسويغ الأوضاع المتدهورة بتخلف المحكومين، مع تحويل سند التخلف هذه المرة إلى العقليات والثقافة، ومع حرص وسواسيّ على تجنب ما يحيل إلى الصعيد السياسي أو يشير إليه بأي شكل. وهو ما يجعل هذا المثقف، وهذا الاستعداد الذي ازداد انتشاراً منذ نهاية الشيوعية، منبعاً مستمراً للنعر الطائفي وقت كانت الدولة السلطانية تعاقب كل نقد لممارستها في هذا الشأن بأنها «إثارة للنعرات الطائفية»!

كان هذا النهج الحضاروي يظهر منذ ما قبل الثورة كهروب من مواجهة منبع مشكلات سورية الاجتماعية والسياسية والثقافية، حكم السلالة الأسدية السلطاني، وكلوم للمجتمع المقيد على قيوده. لكن لزم أن تأتي الثورة حتى يظهر كم أن هذا صحيح. أظهر هؤلاء الدعاة وجها فاشياً بالغ السفاهة والعدوانية، يزايد حتى على أجهزة أمن الدولة الأسدية، أو عملوا بالتنسيق مع جهات في هذه الدولة على توفير تعبيرات موازية عن مجتمع السوريين البيض، تشكل احتياطياً لهذا المجتمع يضاف إلى النظام، ويمكن أن يكون بديلاً عنه. إنهم الشبيحة الثقافيون العاملون في خدمة مجتمع السوريين البيض.

ووفر التعريض بالشعبوية، وكان مزدهراً في العقدين السابقين للثورة، جسراً نظرياً وقيمياً تبريرياً لهؤلاء الدعاة، مكّنهم من الانفصال عن عموم السكان، ومن تهنئة أنفسهم على العقلانية والتنوير في الوقت ذاته. أتكلم على تعريض لأنه طوال نحو عشرين عاماً من تسفيه الشعبوية المزعومة لم يكتب «التنويريون» مقالة واحدة تتناول المفهوم، وتتكلم على أصله وتوظيفاته المحتملة، وتشرح تجارب اللاشعبويين المزعومين التي قادتهم إلى التشكك بالشعبوية، أوتقول إن كانوا بعد هجاء الشبعوية يستبقون من مفهوم الشعب شيئاً.

5

لن يكون منصفاً القول إنه لم يظهر من يجمعون بين تجسيد قيم تحررية في سلوكهم وعملهم وتفكيرهم، وبين الدفاع عن المجتمع وحق عموم السكان في الحرية والمساواة، والانخراط في الكفاح السياسي من أجل ذلك. إن مثال سميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي، وفائق المير وجهاد أسعد محمد، وفراس الحاج صالح، واسماعيل الحامض… كبير وبطولي. أتكلم على أشخاص عرفتهم عن قرب، نشطوا بين عموم الناس في البيئات الثائرة، وليس حصراً في الدوائر الأضيق لبيئات متعلمي الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى المدينية. ولقد جسدت سميرة ورزان بخاصة، في دورهما وعملهما ومظهرهما، القيم التحررية للثورة، اجتماعياً وسياسياً، هذا قبل أن يختطفهما أسديان صغيران، زهران علوش ومفتيه سمير الكعكة، في دوما قبل ما ينوف على عام ونصف.

إلا أنه يبقى صحيحاً أن نسبة من دافع عن المجتمع تحررياً، ومن عملوا بصورة فعالة على إنتاج قيم وتجارب تحررية، لا يشكلون قطاعاً واسعاً من السوريين المشتغلين في الشؤون العامة. حالت دون ذلك ما سبقت الإشارة إليه من شروط الازدواجية البنيوية المتعددة المستويات في سورية: ازدواجية الدولة (دولة ظاهرة ودولة باطنة)؛ ازدواجية الأمة: أمة السوريين البيض وأمة السوريين السود؛ ازدواجية الدين (أديان السكان الخاصة والدين الأسدي العام)؛ ازدواجية المثقفين: تحديثيون اجتماعياً وتابعون سياسياً، أو العكس: تغييريون سياسياً وتابعون اجتماعياً؛ ازدواجية سياقات الكلام: سياق ظاهر حميد، وسياق باطن مسكون بالهواجس؛ ازداوجية الكتابي «الوطني» والشفاهي الطائفي؛ إلخ، وبقدر ما وفرت هذه الازدواجية المتعددة المستويات هوامش مناورة واسعة للنخبة السلطانية في مواجهة المجتمع المحكوم، كانت آلية تفريغ فعالة لهذا المجتمع من الإرادة الجمعية والطاقة السياسية وروح الثورة.

أعمل على إبراز دور هذه الثنائية البنيوية لأنه يتعذر في تصوري ظهور الثائر المتمرد اجتماعياً، والمثقف المسؤول اجتماعياً، وإنتاج الحركات التحررية الجديدة، دون كسر هذا الشرط ذاته. تتوافق السلطانية الجديدة مع انقسام اجتماعي «ثقافي» أو «حضاري»، ليس انقساماً اجتماعياً سياسياً. وتتوافق الانقسامات الثقافية مع سيكولوجية قائمة على الارتياب والمراقبة وعدم الثقة، بما يحول دون عمل مشترك منظم، وبما يوجه الصراعات الاجتماعية المحتملة نحو محصلة صفرية: ما يكسبه طرف يخسره طرف، وليس هناك احتمال لأن يكسب الجميع معاً.

وشرط استمرار السلطانية هو أن لا تكف عن إعادة إنتاج نفسها على كل المستويات، بما في ذلك انقسام قوى المعارضة، وتفوق خصوماتها على ما يفترض أنها معارضتها الجامعة للنظام. وبينما تستنفد هذه الخصومات قدراً كبيراً من طاقات الجميع، يبدو أن أكثر ما يجري التضيحة به هو التحرر الاجتماعي، أدوار وأفكار ومخيلات وتجارب جديدة للنساء والرجال، في عمل مشترك من أجل مجتمع قائم على الشراكة والأخوة، وضد أية قيود سياسية أو دينية. هذه القضايا إما يجري إغفالها وإرجاؤها، أو تستخدم استخداماً رمزياً لتدعيم سياسات الهوية الفئوية، وليس للتحرر الفعلي.

6

ما يمكن استخلاصه من هذه الانطباعات أن الأدوار السياسية تتحدد بصورة كبيرة بالبنية العامة للدولة والسياسة والمجتمع، وأن فهم تنويعات صورة الثائر في الإطار السوري يحيل إلى البنية السلطانية المحدثة للدولة والمجتمع في «سورية الأسد»، وتحديداً الثنائية المتعددة المستويات المميزة لهذه البنية. وهذا بقدر ما إن صورة الثائر المتمرد اجتماعياً وثقافياً، الذي يعمل من أجل التغير السياسي والاجتماعي، والهجومي ثقافياً بقدر ما هو هجومي سياسياً، تفترض بنياناً وطنياً للدولة والسياسة والنظام الاجتماعي، أو تفوق السير نحوه على السير باتجاه التجزؤ والثنائية.

على فوارق ظاهرة بين البيئتين الفلسطينية والسورية، أعتقد أن انتشار نموذج الثائر السياسي دون أن يكون ثائراً اجتماعياً، يشير إلى فشل عملية البناء الوطني، فشل لا يعود حصراً إلى أن الفلسطينيين محرومون من وطنهم أصلاً، فالسوريون ليسوا أقل حرماناً. جوهر الأمر هو فشل بناء الدولة الوطنية، والنكوص إلى بنى قبل ودون وطنية، مع تطور الدولة ذاتها إلى مضخة جبارة للنكوص الاجتماعي والثقافي، وإن مع تمويه هذه العملية بخطاب يمكن أن يكون تحديثياً أو ممانعاً، أو إسلامياً.

لم نر الثائر الذي يجمع في آن بين الدفاع عن الشعب والعمل من أجل التحرر الاجتماعي والثقافي، لأن الشعب ذاته تفكك وتدهورمع فشل البناء الوطني. لا شعب في الدولة السلطانية المحدثة (والتقليدية)، فقط رعايا وأتباع.

بعد كل ذلك، يبقى مطلب التحرر الشامل ماثلاً في المخيلة مثل طوبى حية. لا نستطيع التخلي عن هذه الطوبى لأنها وعد بتكاملنا الخاص، كمشتغلين في الثقافة والشؤون المشتركة، وليس فقط لتكامل عملية التحرر الاجتماعي التي لا تنتهي. لكن الطوبى ليست شيئاً قد يتحقق يوماً أو لا يتحقق، إنها بعد محايث للعمل التحرري، يمكن أن يتجسد في كل وقت في تفكير التحرريين وفعلهم.

ياسين الحاج صالح : كاتب سياسي ومعتقل يساري سابق، مؤلّف مشتغل بالشؤون السورية ونقد الثقافة والإسلام المعاصِر .
الجمهورية
اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق