صبحي حديدي : بمناسبه رحيله – جوزيف سماحه وعلاقات الغالب والمغلوب في الجمهوريه اللبنانيه
الأرجح أنّ جوزيف سماحة (1949 ـ 2007) كان يجد نفسه في المقالة المنفردة اليومية أو الوقائعية أكثر من الكتاب المكرّس لقضايا كبرى أو عابرة للطارىء. ولهذا، وإلى جانب ترجمات هامّة بينها “دراسات في الفاشية”، أصدر الراحل كتابين صغيرين هما “سلام عابر: نحو حلّ عربي للمسألة اليهودية”، 1994؛ و”قضاء لا قدر: في أخلاق الجمهورية الثانية”، 1996. وفي هذا الكتاب الثاني ربط سماحة، ببراعة جدلية رفيعة، بين ملفات موت مثقف ذهب ليسامح قتلة أبيه، ويصنع فيلماً اسمه «ذاكرة للنسيان»، فقتلته أكثر من عتمة واحدة، من جهة أولى؛ وملفات «تسامح» أعرض مع الماضي السياسي والتاريخي والثقافي، تبدأ أمثلته من ألمانيا واليابان وفرنسا وإيطاليا ما بعد الحرب العالمية الثانية، قبل أن تنتهي عند مثالين محلييين: الحرب الأهلية في لبنان، والسلام العربي ـ الاسرائيلي، من جهة ثانية
عودة مواطن سامحَ لا تعني عودة وطن تسامحَ وتصالحَ مع ذاته، والأسوأ من ذلك أن تكون الممارسة كلّها صيغة فقدان ذاكرة عن سابق وعي وتصميم، و«مجرد فاصل بين حربين أهليتين». وفي ذلك كله، كان ثمة «حريرية» شاملة (نسبة إلى رفيق الحريري) ترث «المغلوب» الواضح، وتبحث عن «الغالب» المحلي في حدود الصلاحيات التي يمنحها الغالب الإقليمي. وثمة، أيضاً: معارضة عاجزة، وبيان نقدي شجاع حول المستقبل … «لئلا يموت اليسار خجلاً»!
وهدمت الجسور الكاذبة التي تحتكر منافذ اتصال لبنان بمحيطه الإقليمي والدولي، ولم تتردد في تلمّس العوالم والجسور الحقيقية بصرف النظر عن قتامة المشهد الذي احتوى أو كان ينذر باحتواء السيناريوهات القادمة لعمليات الانفصال والاتصال. وتلك كانت شجاعة أخلاقية وسيكولوجية في آن معاً، لأن التفصيل الصغير (في هذا الكتاب الصغير الأقرب إلى مقال واحد طويل) ينتهي دائماً إلى نبش مؤلم وجارح أشبه بانبجاس دم قديم حارّ، وإلى تعرية شاقة لأنها تتفادى «الوقوع في أسر الذاكرة الطرية» التي قد تمهد لاندلاع نار جديدة، دون أن تقود إلى «تكاذب غير جدير بمواطنين يريدون العيش معاً طويلاً وبسلام»، ولكن دون أن تتحاشى المواجهة المعلنة مع «أدوار أسهل، أي أكثر وقاحة».وثمة الكثير من الشجاعة في أن يتبدّى موت السينمائي اللبناني مارون بغدادي (1950 ـ 1993) أكثر من حادثة «قضاء وقدر» من النوع الكلاسيكي، وأن تتكشف طيّ تفاصيلها غير الغنية، وشبه العبثية، حكاية «جثة أخرى في بلاد الموت السهل»، وقوّة «عتمة أضاءت مدى غياب اليسار اللبناني» الذي لم يتعرف على أحد أبنائه ليس لأنه انشق أو ضلّ أو ارتدّ، بل لأن «هذا اليسار لم يعد يملك القوة اللازمة لهذا الحدّ الأدنى من التعبير، ولأنه يخشى النور». وسماحة لا يدير تحقيقاً بوليسياً يرشحه لوراثة آرثر كونان دويل أو أغاثا كريستي، كما كاد أن يوحي أحد الظرفاء اللبنانيين، وهو يتناول قضية موت مارون بغدادي من نقيض معادلة تختصر أخلاقيات «الحزب الحريري» والجمهورية الثانية في العبارة البليغة التي يختارها سماحة عنواناً لكتابه: قضاءً، لا قدَر! ذلك لأن التواطؤ المعلن يقول، ببساطة، إن القضاء والقدر قد تسبّب في تدمير واحتراب و«إسقاط» بلد بأسره، فلماذا لا يعتبر مسؤولاً عن إسقاط/سقوط رجل في عتمة درج؟
التفريع المدهش التالي لاتهام العتمة بالقتل، هو أن «سلطة المال وكهربة لبنان» تختصران الحريرية التي ليس في وسعها احتمال عتمة تقتل (إذا كانت «قاتلة بالفعل»، كما يتساءل سماحة) وتثقب أساسات “سوليدير”، الأمر الذي يوجب إثارة أقل قدر ممكن من اللغط. وليس مهماً هنا أن تكون الآنسة ريما طربيه، وكانت آنذاك مستشارة إعلامية لدى االحريري، هي التي أوصلت بغدادي إلى العمارة بسيارتها، وانتظرت عودته نصف ساعة قبل أن تغادر المكان مقررة أن «مارون من أصحاب النكتة وله عادة أن يقوم بمثل هذه الأعمال، أي أنه يعد بشيء ولا ينفذه على سبيل النكتة» كما سارت أقوالها في المحضر الرسمي. أو… على العكس، قد يك ون وجود الآنسة مهمّاً للغاية، لأنه يؤشر على الحضور القَدَري الدائم للرئيس الحريري حتى في تلك المناسبات الرجيمة التي تمارس فيها العتمةُ القتل!
وجود الآنسة طربيه ـ بالصدفة العمياء! ـ على مبعدة أمتار من مسرح الموت هو تواجد للرئيس الحريري على مستوى المجاز والإنابة الدائمة، ولكنه لا يكفي للتعبير عن الوجود الشامل للحريرية الشاملة. ثمة ضرورة لنوع مادي من التواجد بعد الموت، ولامتداح الموت قضاء وقدراً بعد الهجاء الطويل للموت على الهوية، ولتحويل حدث الموت إلى «لون من ألوان احتفال الهامشيين بهامشيتهم». بين الرسميين كان الحريري هو الأكثر حضوراً، «لأنه أكثر حضوراً بصفة عامة» كما يذكّر سماحة: قام بزيارة تعزية، وأعلن عن جائزة تقدمها إذاعته الباريسية إلى مهرجان السينما العربية، و«ترميم» فيلم «بيروت يا بيروت»، وتقديم عروض سينمائية دون التنازل عن الحقّ في ممارسة رقابة شديدة حين تتضمن الأفلام «عبارات بذيئة».
ويكتب سماحة:
“بدت المحاولة تعبيراً عن رغبة رئيس الوزراء في الإيحاء بأن موافقته على الخلل في التمثيل السياسي المسيحي لا تحول دون اعترافه بوجود «مخرجين» بينهم وموهوبين أيضاً. ربّ صدفة خير من ميعاد. والعنصر المخصص لهذا النوع من المهامّ موجود، ويقبض معاشاً في سبيل ذلك. هو جاهز لتحويل «صديقه» إلى الشهيد الأول لـ «المؤتمر الدائم للحوار الوطني». لم يستطع «تقديم» شهداء في «جبهة المسيحيين الوطنيين» فاستخدم جثة أبيه مرّة، ثم جثة ابن عمّه قبل أن يوظّف الصداقة المزعومة التي تربطه بمارون من أجل تثبيت خياراته السياسية ـ المالية التي لا تعني شيئاً آخر سوى مصالحه الشخصية”. (ص 66 ـ67)
وسماحة كان يشير بالاسم إلى سمير فرنجية، أحد منتجي ثقافة ذلك “العصر اللبناني الجديد”، العامل ضمن آلة سلطة لا تبدو بحاجة ماسة إلى الثقافة، وتكتفي بمجموعة من «التكنوقراط» بحيث يلعب رجل مثل نهاد المشنوق الدور الذي لعبه ميشال شيحا بعد الاستقلال: هناك كانت عمل
يات تدشين الجمهورية الأولى، وهنا عمليات إقامة الجمهورية الثانية في أسوأ الأحوال، أو عمليات التحضير للجمهورية الثالثة. ومثلما لم تكن «إذاعة الشرق» تصلح مرجعاً عن الخيارات الحريرية في الإعلام والثقافة (لأنها، ببساطة، تبثّ من أرض فرنسية وتخضع بالتالي لحدّ أدنى من المعايير، وأقسى تهمة يتعرّض لها العامل في هذه الإذاعة، كما يشير سماحة على سبيل الدعابة السوداء، هي أنه «مسكّف»، أي: مثقف!)، كذلك لم يكن فرنجية مرجعاً معيارياً للثقافة الحريرية حتى حين أخذ يعبّر بفصاحة عن أحد أوجه صعودها.
المترجم الأمين لهذه الثقافة هو، آنذاك، علي جابر، المدير العام والرجل الأول في «تلفزيون المستقبل»، الجهاز الإعلامي الوحيد الذي يحمل «النظرة الإيجابية عن البلد»، ويتبنّى «نظرة أمريكية إلى التلفزيون»: الديكور، الإضاءة، الحركة، المذيعات، «الشكل»، والشكل فقط. وحين يسأله صحافي عن رأيه في القائلين بوجوب أن يظل التلفزيون سطحياً، يجيب جابر: «نعم. التلفزيون هو الشكل. هو الديكور، الإضاءة، الحركة. الأفكار العميقة مكانها الصحف والمجلات. التلفزيون مادة سطحية، وهو إذا شئت للفقراء أولاً. المرتاح اقتصادياً، الغني، يمكنه شراء المجلات». هذا هو الحريري الأول بامتياز، ومنافسه على الحداثة الحريرية ليس المثقف الذي «أفنى عمره بغباء، وهو يحشو رأسه كتباً وأفلاماً ولوحات»، ولكنه لا يعرف اليوم سعر السهم الواحد في “سوليدير”. ثمة «وسيلة وصول» باتت معروفة، وثمة «موجة» لا مناص من ركوبها: أن تكتفي بأن تكون «حريرياً» صغيراً تتسقّط الفرصة، منتظراً أن يرفعك أحد إلى فوق. وسماحة لا يخفي عن هذه الحداثة الفظة وجهها الطبقي والسياسي ،الأخلاقي، إذْ هاهنا:
“تصبح الصرعة هي الإبداع، واللكنة هي اللغة، والفولكلور هو الشعب. نظرة دنيئة تتلاءم مع ما هو مطروح سياسياً واقتصادياً من أن الحكم مِنّةٌ من الحاكم، والإعمار عطاء من المحسن الكريم. ويصل الاستعلاء إلى ذروة جديدة حين يكشف عن وجهه الطبقي الفج: التفاهة مخصصة للفقراء. لا بل إنها ضرورية لهم من أجل تمكين الحاكم من أن يحكم ضدهم. يجب تسليتهم عن الهموم التي نخلقها لهم. فهذا يزيد اصطبارهم وقدرتهم على التحمّل. الكتب والثقافة والمعرفة والإطّلاع والذوق، هذه كلها للأغنياء فقط، وللآخرين سقط المتاع في انتظار أن يرتاحوا اقتصادياً”. (ص 75)
ولكن سماحة لا يوفّر «اليسار» أيضاً، أو هو يضعه في قلب معادلات وتحديات هذه الحريرية التي تعتبر أنّ مشروعها هو الردّ الوحيد المتاح على تحوّل طبيعة الصراع «من عسكرية إلى اقتصادية»، وتمضي في البناء العشوائي إلى أبعد حدّ، وتراهن على تحوّل لبنان إلى «جنّة ضريبية»، أي إلى «جحيم اجتماعي» كما يقول سماحة، وتتنطح لمهمة إنقاذ المنطقة العربية بأسرها من الورطة التي أوصلها إليها «الضابط» في حروبه العديدة مع اسرائيل. هذه سلطة ريعية تفرض انقلاباً كاملاً في علاقة الحاكم بالمحكوم، فتحيل الأول إلى محسن كريم، وتحيل الثاني إلى «رعيّة». والحاكم يقول: «أنا الغنيّ، أنا الثقة الدولية، أنا الموارد الطبيعية، أنا المساعدات، أنا القروض، أنا استقرار العملة، أنا عودة الرساميل، أنا الإعمار، أنا ضعف الناتج الوطني المحلي، أنا واحدة من شركاتي تساوي الموازنة الوطنية كلها، وبالتالي أنا أفضالي عليكم كثيرة إلى حدّ أني في حلّ من الخضوع لمساءلتكم».أين اليسار من هذا كله، وفيه؟ وإذا كان الحاكم يعتبر أنه ممثل «حزب الأوادم» في السلطة، فأين «حزب الزعران» بعيداً عن حوارات الأوادم وتخل السلطة، أي أين المعارضة؟ إنها، أو اليسار فيها على الأقل، خجولة، مصابة بعقدة نقص، متخبطة (ومثال سماحة هنا هو الحزب الشيوعي اللبناني كنموذج صارخ)، لم تقدّم سوى الخلل السياسي حين كان «البناء الاقتصادي» ينتج أزمة اجتماعية حادّة جداً. هذه المرّة جاءت «الطغمة المالية» بالفعل، ودونما مزاح وجعجعة لفظية وتشخيصات يسارية طفولية. «هذه المرّة جاء الذئب فعلاً، غير أن الضحية كانت مسلوبة الإرادة، ومعدومة القوى».
غياب الصوت المعارض «يجعل الفئات الوسطى المأزومة بكماء إلى حدّ ما»، و«يضعف الحركة النقابية بحرمانها من بُعد سياسي»، و«يشيع اليأس في صفوف الاحتياطي البشري الكبير الجاهز للالتفاف حول تيار وطني ديمقراطي علماني وعروبي». لماذا العدمية؟ لماذا طأطأة الرأس خجلاً؟ ألم يقاوم اليسار تيار التراجع العربي طويلاً قبل أن تتدخل إسرائيل وتوجّه الضربات القاصمة الحاسمة؟ ألا يملك اليسار رؤية لعلاقة «ضرورية» مع سورية لا تطمس الموقف من «قضايا حاسة جداً، منها السياسة العربية لسورية، ومواقفها من قضايا تمتدّ من السلوك حيال المقاومة الفلسطينية إلى الموقف من حرب الخليج الثانية، مروراً بالدخول إلى لبنان في عام 1976»؟
وعند مناقشة كهذه تبدو مستويات شجاعة هذا الكتاب وكأنها تتجلى دفعة واحدة. وسماحة لايجد غضاضة في وقفة مسؤولية وأمل وتحريض من أجل النهوض (على ما في هذه المسمّيات من مخاطر انكشاف «عاطفي» و«لا عقلاني» في ظلمات اليأس وعجيج البراغماتية و«العقلانية» العربية)، ويرى أن «من حق اليسار اللبناني، وواجبه، أن يكون فخوراً بالكثير الذي قام به، وهذا هو شرط الانتقال إلى موقع المبادرة»، وآن له أن يدرك أن البديل الراهن عنه، أي التيار الأصولي، «لا يملك الحلول التي تجعله بديلاً للوضع العربي الراهن، وأن إمكانات التعايش بينه وبين القوى المهيمنة على المنطقة كبيرة». وهو يستنتج أن «الكارثة» الراهنة «التي تبدو أبدية، إنما هي لحظة تاريخية»، وأن «عَقْلَ أسبابها هو المدخل إلى تجاوزها»، خصوصاً في ضوء ما يتجمّع من «نُذُرٍ» في الأفق. وإذا كان لبنان معرّضاً، أكثر من غيره من البلدان العربية، لدفع ثمن التطبيع مع إسرائيل، فإنه أيضاً معرّض إلى «تعريب» زائف واليسار هو الأقدر على تقديم فهم للعروبة لا تصبح معه «مجرّد مسدس موجّه إلى الرأس» وذريعة لنشوب «حروب الآخرين على أرضنا»، بل بل تتخذ صيغة انتماء حضاري وثقافي ومشاركة في مصير مشترك. ويقول سماحة: «إن اليسار اللبناني هو الأقدر على تقديم دروس في العروبة، بصفتها انتماء ونضالاً، إلى سورية نفسها».
وفي ممارسته لهذه الشجاعة الأخيرة يفصح جوزيف سماحة ـ وكما كان حاله في كتابه السابق «سلام عابر» ـ عن شجاعة نصية خاصة في خيارات كتابة تتلهف على النطق بالحقيقة دون أن تعبأ بهذه أو تلك من القواعد الشكلية في ترتيب الفصول أو ضبط التداعيات والاستطرادات والخروج النزق عن الفكرة المركزية في الفقرة أو الفصل بأسره (الفصل الأول مثال ممتاز على هذه الخيارات). ولكن نثر سماحة فاتن وحارّ ومتدفق، يعبأ كثيراً بالتركيب والبنية والمعمار، ويسخّر اللغة ـ كمعجم واستعارات وعلامات وقف ـ سلاحاً مركزياً في هذا الوطيس الجدلي المعقد والكثيف.وتلك خيارات قلّ أن نجدها في الكتابة السياسية العربية.
(*) جوزيف سماحة: «قضاءً، لا قَدَر: في أخلاق الجمهورية الثانية».
دار الجديد، بيروت 1996.