عريب الرنتاوي – أعمدة لبنان الثلاثة
ثلاث قوى، تمثل نصف اللبنانيين إن لم نقل ثلاثة أرباعهم: حزب الله يمثل ما لا يقل عن ثلثي الشيعة، تيار المستقبل يمثل النسبة ذاتها تقريبا من السنة، والتيار العوني يمثل ثلثي المسيحيين وفقا لنتائج آخر انتخابات برلمانية في لبنان، وهي وإن ضعفت جميعها في الآونة الأخيرة، ولأسباب مختلفة، إلا أنها ستحصد في الانتخابات المقبلة، مبكرة جرت أم في موعدها المقرر، نصيب الأسد من مقاعد الطوائف اللبنانية الثلاث الكبرى.
ما يميز هذه القوى / الأعمدة الثلاث، فضلا عن كونها الأكثر شعبية وتمثيلا ونفوذا، أن أي منها لم يتورط بدماء اللبنانيين، أو بالأصح لم يوغل في التورط بدماء اللبنانيين، في حروبهم الأهلية أو في حروب الآخرين عليهم: حزب الله الذي نشأ بعد اجتياح إسرائيل للبنان، تخصص في قتال الإسرائيليين، وانغماسه في صراعات محلية ظل محدودا ونادرا بشهادة خصومه قبل أنصاره، والتيار العوني رفع لواء الدولة والمؤسسات، وإن كان زعيمه قد خاض حربا ضد “القوات اللبنانية”، أسميت “حرب الإلغاء”، فقد فعلها من موقعه كقائد للجيش ورئيس لحكومة انتقالية، وليس كزعيم للتيار الذي لم يكن قد نشأ بعد، أما تيار المستقبل، فهو امتداد لإرث الرئيس الراحل رفيق الحريري الذي دخل على خط السياسة اللبنانية، أو بالأحرى قرر خلع “الدشداشة والغطرة” على ضفاف بحيرة ليمان مرورا بالطائف وصولا إلى السراي الكبير.
خارج هذه القوى الثلاث، ثمة تيارات وأحزاب وفصائل ومنظمات، تسرح في كل طائفة وتمرح، بعضها متطرف سياسيا وفكريا، وبعضها تلطخت روحه قبل يداه، بدماء الأبرياء في الحرب الأهلية، وبعضها ميلشيات تضم في صفوفها من “زعران ولصوص وعاطلون أبديون عن العمل”، من دون أن نقلل بالطبع، من شأن قوى نظيفة ومخلصة وشريفة، في كل هذه الطوائف، خارج إطار الأعمدة/القوى الثلاث المذكورة، على تواضع حجمها وتأثيرها.
هذه القوى تتوفر أيضا، وإن بتفاوت، على أهم سلاحين لتجيّش المناصرين وتعبئة المريدين وتنظيمهم: المال والسلاح، حزب الله لديه الكثير من الاثنين على حد سواء، تيار الحريري لديه الكثير من المال والقليل (نسبيا) من السلاح، والتيار العوني لديه القليل من هذا وذاك، برغم أنه يمثل واقعيا مجتمع المال والأعمال والطبقة الوسطى المسيحية التواقة للدولة والرافضة “للأمن الذاتي والإدارات المدنية”.
في المحصلة ونهاية المطاف، ليس للبنان وأمنه واستقراره وسلمه الأهلي من مصلحة في إقصاء أو إلغاء أي من هذه القوى الثلاث، ناهيك عن “لا واقعية” الحديث عن الإلغاء والإقصاء في الحالة اللبنانية عموما، ولهذا القوى على وجه الخصوص…فإن ضَعُفَ حزب الله، قَويت شوكة حركة أمل، وأمل أقرب للمليشيات المذهبية غير المنضبطة، بخلاف مقاتلي حزب الله ومؤسساته الأشد انضباطا، والأبعد عن حسابات الحارات والزواريب، وإن ضعف تيار المستقبل، تقوّى التيار السلفي بمدارسه ومكوناتها المختلفة، وهذا أمر يجب أن يثير القلق إلى حد الرعب في نفوس الجميع من دون استثناء، بمن في ذلك تيار الحريري والحريري شخصيا وسنة لبنان وشيعته ومسيحييه ودروزه…أما إن ضعف التيار العوني، تيار الدولة والمؤسسات والجيش، فإن البدائل ستتوزع بين قادة ميليشياويين وتحديدا جماعة “حاجز البربارة” وخبراء القتل على الهوية.
في واقع الحال اللبناني، لا قيمة جوهرية تحسب للطوائف والمذاهب الأخرى، ولا قيمة للّاعبين من خارج هذه القوى الثلاث تحديدا، بمن في ذلك وليد جنبلاط وسمير جعجع والمرين الأب والابن، قرنة شهوان وكتائب أمين الجميل و”يزبك” أرسلان ومردة فرنجية، وسنة بيروت وصيدا وطرابلس وعكار، ولا قيمة بعيدا عن هذه الأعمدة الثلاث، لعشرات الأحزاب والجمعيات واللجان والروابط التي تنتشر على مساحة الطوائف وفسيفساء المذاهب، انتشار النار في الهشيم، من دون أن يكون لأي منها قيمة بذاته، بل بالمقدار الذي تقترب فيه أو تبتعد عن أي من الأقطاب الثلاث المذكورة.
كيف يمكن لهذه القوى أن تلتئم على مائدة حوار خاصة وضيقة، بعيدا عن الشخصيات الأربعة عشر المدونة في مفكرة الرئيس نبيه بري؟…سؤال تبدو الإجابة عليه مركونة في جيبي حسن نصر الله وسعد الدين الحريري، ومن خلفها طهران والرياض، وبدرجة أقل دمشق والقاهرة، وهي إجابة تبدو ممكنة، وهي وإن تك صعبة للغاية، إلا أنها ليست مستحيلة، خصوصا حين تقترن بقليل من الكرامة الشخصية والالتزام الوطني والابتعاد على الحسابات الشخصية الموغلة في تفاهتها وتهافتها.