زملاء

عبد الكريم وشاشا “العلمانية” كما تدعو إليها جماعة عبد الحميد أمين داخل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في الخطاب والممارسة

تنبيه لابد منه: في البداية درءا لكل التباس أنبه أن جماعة عبد الحميد أمين بالنسبة لي لا علاقة لها بحزب النهج الديمقراطي الذي أحترمه جدا وأقدر مناضليه ونضالاتهم وتضحياتهم.
تــقــــديــم: لا بد أن المتتبع لما يجري داخل “قوى التغيير” المغربية، الحاملة والمبشرة بمشروع مجتمعي في حده الأدنى هو، الدولة الوطنية الديمقراطية، بكل مقوماتها الحداثية النافية للتخلف، والتبعية، والقطع مع مجتمع القرون الوسطى، والحكم المطلق… سيلاحظ أن هذه القوى في حراكها، سواء في مجابهتها المصطرعة لدولة الاستبداد، وسواء في انخراطها داخل ” الخندق الغميق” على خطوط تماسها بين مكوناتها، وفي “إنتاج” وطرح أسئلتها المتباينة للإشكاليات المجتمعية العالقة، وفي تدبير وإدارة اختلافاتها وتمايزاتها؛ سيضم صوته لا محالة إلى صوت الباحث السوري المناضل ياسين الحاج صالح للمطالبة ب: ” قوى التغيير تحتاج إلى التغيير

فبعد عقود مريرة من الكفاح والمقاومة، والتضحيات الجسام، والضربات المتتالية والمتكالبة: من الزنزانة حتى الشهادة، ومن التجويع والتشريد حتى التقتيل والمحو، والضرب بكل قوة لتبديد كل المعالم، روحا وفكرا ورفاتا، في إحدى أكثر الفصول قتامة وفظاعة من الجرائم السياسية المرتكبة في حق هذه القوى، وقد استعمل النظام المخزني الغاشم كل أساليب الاجتياح وطرائق التغلغل، لدك ونسف الحصون المنيعة للقوى المكافحة التي سطرت في المقابل إحدى أنبل صفحات الممانعة والتضحية والبطولة ونكران الذات..

لقد كانت قوية أولا بتماسك لحمة جبهتها الداخلية، وبالخطاطات الفكرية البديلة التي وضعتها في خضم اكتوائها بالواقع الساخن، الملموس، العيني، وليس المجرد، الإسقاطي، لاستماعها العميق لنبض الحياة، وأي حياة ؟؟ إنها حياة وتحولات المجتمع المغربي الما بعد الكولونيالية، من أجل “اكتشاف طريق” وذلكم هو جوهر النظرية الماركسية كما فهمها لينين هذا المبدع الخلاق هي أنها:

(تمدنا بالمبادئ الموجهة العامة التي هي في الواقع الخاص تطبق في انجلترا تطبيقا مختلفا عن تطبيقها في فرنسا، كما تطبق في فرنسا تطبيقا مختلفا عن تطبيقها في ألمانيا، وفي ألمانيا تطبيقا مختلفا عن روسيا. — الجزء الرابع/ الأعمال المختارة – ص: 211 – 212 ).

إلا أن هذه القوى في ظل إخفاقاتها وانتكاساتها المتواترة، بدل أن تعزز الديمقراطية الداخلية بمزيد من الديمقراطية، وأن ترسخها في الوجدان وفي الممارسة النضالية وداخل أنسجتها التنظيمية مثمنة ومثرية رصيدها وخبرتها، وأن تقدم بديلا ومثلا ناصعا، أولا لها، ولمناضليها، وأخيرا للخصوم بل للتاريخ؛ أدارت ظهرها في نكران مجحف لكل تلك المكتسبات في سقوط دراماتيكي مريع ومدوي. وتوفق أخيرا النظام الاستبدادي في تماميته وشموليته، غب هزيمة نكراء ماحقة أن يستنبت ويستوطن داخلها أطره الفكرية، وقواعده الذهنية بكل أشكالها التقليدانية المتزمتة، بهذا فقط، استفاقت القبيلة من سباتها، والزاوية استأنفت حضرتها وشعائرها، وتحلق المريدون حول شيخ يوجد وينوجد في كل مكان وفي كل وقت، سميع حكيم، عليم بخائنة الأعين وما تخفيه الصدور..وذهبت كل الدعاوي أدراج الرياح، لا تلك التي أطلقها عبد الله العروي في ” الإيديولوجية العربية المعاصرة” أو في ” العرب والفكر التاريخي” ولا انتقادات هشام شرابي للتقاليد البطريركية الرازحة الكابحة، ولا في خطاطة عبد الله الحمودي المتأرجحة بين الشيخ والمريد، وتم الاستبدال والقلب بمعادلات تخطيطية تبسيطية مهلهلة فضفاضة دعائية، بل تم اختزالها إلى بيانات وبلاغات ومانشيتات ، تروم إلى التجييش والتحميس وليس إلى التثقيف والتوعية وسباق المسافات النقدية.. وتماهت الحدود وتداخلت، وغامت التفاصيل، ما بين النقابي والحزبي والحقوقي والملكية الخاصة كريع شخصاني بقوة الرأسمال الرمزي لذلك الماضي المجيد الذي تم أسطرته (= من الأسطورة) واستعادته على شكل ملحمة تتغنى به الأجيال، ابتزازا وبهتانا ..

وانتصبت داخل تنظيماتنا الحزبية وإطاراتنا الجماهيرية تراتبية شبه عسكرية صارمة، بمراسيم وفرمانات ( فهناك المقدم والقايد والباشا ..والجندي البسيط، والعريف والعقيد والجنرال..و…والإمبراطور ظل الله الممدود في أرضه..وهناك المحظوظون المقربون، كما هناك المغضوب عليهم المنفيون من رحمة وشفاعة الزعيم، بينهم وعليهم بصاصون وآذان وعيون) وشاع منطق السخرة والعلاقات العمودية القاهرة.. وداهمتنا كائنات رخوية، أخطبوطية…

كان بودي، بل من كل قلبي، بدل هذه الاستطرادات الطللية الموجعة، قبل أن أقارع مفهوم” العلمانية” على بساط النقد كما يفهمها التيار الاستئصالي داخل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، في خطابه وممارسته، أن أتوجه قائلا إلى “رفاق مفترضين” نختلف معهم كما توجه ذات تاريخ، وذات تعليق، وذات اختلاف، المفكر محمود أمين العالم، إلى الدكتور أنور عبد الملك، وهو يقول بنبل وتواضع المفكرين الكبار:

( د. عبد الملك رفيق كفاح، وصديق عمر لهذا يسعدني أن يكون تعليقي على بحثه ليس مجرد تعليق فكري، وإنما هو كذلك امتداد لكفاحنا المشترك. مهما تنوعت الوسائل واختلفت الأساليب من أجل اكتشاف طريق….ولكننا نختلف في بعض التصورات أو في مناهج الوصول. على أنه اختلاف الاجتهاد في سبيل هدف واحد مشترك. وهذا هو المعنى الرفيع للزمالة الفكرية والنضالية، وهذا هو المعنى الرفيع، كذلك للصداقة.. – محمود أمين العالم: الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر- ص: 54 – الطبعة الأولى1988).

لكن التيار الإقصائي، والحزب السري المقنع داخل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، لم يترك أي خيار لممارسة “الزمالة النضالية والفكرية الرفيعة”.. غير آسف.. ونحن نرى ونصطدم ا بالامتدادات الماسخة للممارسات البورصوية العتيقة المحنطة، ، تبتلع كل المكتسبات والتقاليد النبيلة وتلك الزمالة النضالية والثقافة الديمقراطية الداخلية التي تحققت بالغالي والنفيس، تزدردها وتضربها عرض الحائط في أقل من ست سنوات…فقد تحولت الجمعية في هذه السنوات القليلة إلى قبائل وعشائر متناحرة، وإلى حزب ونقابة ماسونيتين وطائفة أرتودوكسية تكفيرية، منخرطة في حروب تطهيرية، وما يقع في كل فروعها من تطاحنات دامية، واصطفافات، يذكرنا بالحروب الدينية في القرن الخامس والسادس عشر (اللجوء إلى أسلوب الانزالات والتحكم في مسطرة الانخراط وتوزيع البطائق. ورفع الشعارات الجياشة أو التصفيقات للتشويش، عندما يفتح نقاش جاد ونقدي أثناء انجموعات العامة… وغيرها من أساليب الغوغاء والدهماء.. والتقارير المزيفة التي يدبجها ويبعثها الولاة والعمال والموالي وفق رغبات وأوامر ونزوات الشيخ عبد الحميد أمين..الخ)
وتلك التمريرات السياسوية المغلفة بهتانا بالحقوقي، والحقوقي بريء منها براءة الذئب من دم يوسف…

1- ما بين العلمانية والعلمانوية لدى جماعة عبد الحميد أمين

رغم المبالغة في التلويح بمطلب “العلمانية” لدى جماعة عبد الحميد أمين ومريدوه – وتضخيم الحديث عنها في الكواليس، تبقى دعوة “إيديولوجية” مزيفة خافتة، مواربة وماكرة هدفها التمايز واستعراض العضلات وابتزاز المكونات الأخرى.. فليس هناك دراسات وازنة وعلمية مدققة وسياقات المطالبة سياسيا واجتماعيا وثقافيا، ولا ندوات وأوراش فكرية تشتغل وتنشغل بمفهوم العلمانية في السياق المغربي: الآن – هنا.

(يقرأ ياسين الحاج صالح العلمانية في السياق والسجال السوري بأن العلمانية في كل مكان دعوة إيديولوجية وعملية موضوعية مرتبطة بانتشار الحداثة، لا تفهم إلا ضمن أوضاع عينية، اجتماعية وسياسية وثقافية وتاريخية لهذا المجتمع أو ذاك. في البلاد العربية، وعلى تفاوت، لا تسير عملية العلمنة الموضوعية على نسق متسق، إن لم نقل اليوم إنها تسير في اتجاه معاكس، أعني في اتجاه صبغ الحياة العامة بصبغة دينية. مقابل تتضخم العلمانية كدعوة إيديولوجية في أوساط يزداد شعورها بالضغط والعزلة. يثير هذا الوضع التباسات وتوترات وأسواء تفاهم جمة.. ).

فالتلويح بالمفهوم جاء هكذا بدون مقدمات، وفي إطار المزايدات الجوفاء، وتحت مسوغ تبسيطي شخصاني هو كالتالي:

(*مطلب الدولة الديمقراطية العلمانية: أعتقد أننا تأخرنا وبدون مبرر في حسم هذا الموضوع. لذا سيكون من المفيد، كما سبق اقتراح ذلك، تنظيم ندوة لمناقشة الموضوع وحسمه. إن مطلب الدولة الديمقراطية العلمانية مطلب حقوقي بامتياز ينسجم مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي حول الحقوق السياسية والمدنية ومع مواقف الجمعية بشأن العلاقة بين السياسة والدين. وإن تبني الجمعية الصريح لهذا المطلب سيساعد مجمل الحركة الديمقراطية المغربية على وضوح الرؤيا في مجال العلاقة بين السياسة والدين. – عبد الحميد أمين/ من أجل نقاشات مثمرة: 23/12/2007)

إن هذا القول بقدر ما فيه من البلاهة، بقدر ما فيه من أعراض مرضية تتمركز حول الذات وتحجب الرؤية للعالم، فالحركة الديمقراطية المغربية، بكل زخمها النضالي التليد عاجزة عن تقديم تصور واضح مفصلي بين مجال السياسة ومجال الدين، لذلك فهي ارتقبت طويلا، وملت الترقب والانتظار، حتى أتت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، عفوا عبد الحميد أمين المنقذ كي يساعدها على وضوح الرؤية (الرؤيا: كما كتبها أمين تعني الحلم وربما أضغاث أحلام..) في مجال العلاقة بين السياسة والدين، وكيف ذلك؟؟ بندوة واحدة حاسمة جامعة مانعة ؟؟!!!

قول في قمة الغباء، ربما العديد منا يعرف السياق السجالي لتلك “الورقة” الطافحة بالشخصنة وردود الأفعال (ورد الفعل كما قال محمد مسكين فقيد مسرح النقد والشهادة: ليس فعلا بل هو صدى للفعل).

وهذه الورقة / المنجزات هي في الحقيقة بمثابة مرسوم وفرمان استباقي متحكم وتوجيهي يقفز ويهرب إلى الأمام سريعا نحو خلاصات اختزالية مبتورة شعاراتية لا تغني ولا تسمن من جوع ومن سغب، وليس دعوة للنقاش الجاد أو المثمر.. لذلك فهي تستحق السخرية والفضح..

يتضمن العدد الثالث من نشرة جدل، مقالين حول العلمانية، الأول “الموقف من مطلب الدولة الديمقراطية العلمانية” للأخ عبد الله أسبري والثاني للأخ إسلامي عبد الحفيظ تحت عنوان “العلمانية وحقوق الإنسان وقضية المرأة”

وإذا كان المقال الأول يساند مبدئيا مطلب العلمانية، فإنه يضع الموقف في إطاره المطالبي العام، وينبه إلى ضرورة المقدمات المنهجية والسياقية “سياسيا وفكريا ومجتمعيا ” تحسيسا لثقل المسؤولية وجسامة المهمة والمطلب، وهذا ما تتهيبه مجمل الحركات الديمقراطية التقدمية بتنظيماتها، فتحجم عن الإفصاح والنبس بالمفهوم والمطلب، ولو أنه مضمر (روحا وفكرا) في ثنايا برامجها المرحلية والبعيدة..

ويجمع الكثيرون على أن أدبيات العلمانية ” بالغة التعدد والاختلاف والتعقيد”، بدءا من الالتباسات الدلالية لمصطلح “العلمانية” ومشتقاته ونزوحه ثم ولادته القيصرية داخل الفكر والوعي والمخيال العربي، وعميقا أدرك “نيتشه” هذا “الهدام الكبير” غموض الدلائل والمعاني عندما أشار في “إرادة القوة بأن (.. الفكر عندما يدرك شيئا سيستعرض سلسلة من العلامات والدلائل التي تقدمها له الذاكرة فيبحث عما يتجانس ويتماثل، وأن الإنسان عندما يطلق دليلا مماثلا على شيء ما، يعتقد أنه تملك ذلك الشيء وأخضعه وأنه تمكن من معناه.. إن الكلمات التي تستعملها البشرية قد ظهرت دوما، لا كعلامات ودلائل، وإنما كحقائق تتعلق بالأشياء التي تشير إليها) – أنظر هايدغر ضد هيجل / التراث والاختلاف – عبد السلام بنعبد العالي

وما بالك ب”العلمانية” التي زرعت ووزعت حالات التباس جماعية، فتعددت إلى علمانيات..

والسؤال المهم والمربك والمتعدد، والجدير بالتمعن، الذي طرحه المقال بصيغة الجمع وبكياسة هو: ( ماذا نريد من هذه القضية في طرحنا لها داخل إطارنا الحقوقي).. والأصدق وبالواضح: ماذا يريد التيار الاسئصالي السياسوي الذي يتقنع تحت يافطة جمعية حقوقية من طرحه لهذا المطلب التاريخي مجازفا (=مطلب سياسي أولا واجتماعي وثقافي وفكري.. بل صيرورة تاريخية أكثر منها رؤية للعالم.)

في الوقت الذي تعجز حركات سياسية فرادى وتكثلات مقاربته في مجتمع محتقن، ذو منسوب مرتفع من التدين والغيبية، بالأحرى جمعية حقوقية في طور الانتكاس والمغامرة، وهذا الطرح بحد ذاته وبهذه الخفة والرعونة، هو إحدى علامات الانتكاس والتراجع..

وتابع عبد الله أسبري متسائلا بنباهة عن مادة التنصيص لمطلب الدولة الديمقراطية العلمانية ؟ التي اكتشفها عبد الحميد أمين ولم تكتشفها الأمم المتحدة ؟ إن موقفه المضحك المبكي هذا، يشبه ذلك الذي يعلن لنا الآن أنه اكتشف “العجلة”!!!

وهو ليس تأويلا كما قال المقال بلباقة بل هو لوي أعناق النصوص وتمحلها بالقسر والعنف كوقود وبارود فاسد في احتراب دونكشوتي أهوج.

وليس الغالبية العظمة من المجتمع المغربي يا صديقي العزيز عبد الله، من يربط مفهوم العلمانية ميكانيكيا بالإلحاد فقط، بل وأيضا هؤلاء الذين يطرحونها بتبجح داخل الجمعية، هؤلاء الذين يستعرضون إلحادهم في كل مجمع وعند كل منعطف كعناوين خاطئة للتحرر والتقدم… (المشاعية الجنسية)، وهذا ما لاحظه الجميع وواجهه البعض في الممارسات التي تشجعها وتباركها هذه الجماعة، للاستقطاب وخاصة في المخيمات “الحقوقية” الصيفية بين شباب لا حول له ولا قوة طحنته وأرقته أسئلة موجعة…

وقد حرص المقال في الأخير على دعوة للالتزام والارتباط بالمنظومة الحقوقية والوفاء لها، والتكلم بلغتها ولسانها بدل الاستعارات السياسوية المجانية التي لا تبقي ولا تذر، وإلى التوجه إلى كل المواطنين وتوعيتهم وتثقيفهم بالتوعية والثقافة الحقوقية مصداقا واستلهاما للفقرة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

أما مقال الأخ إسلامي عبد الحفيظ، بدءا من العنوان الذي اختاره ” العلمانية وحقوق الإنسان وقضية المرأة”، وحرصه على عقد قران هذا الثلاثي الإشكالي، ثم ما يشبه المقدمة التي أورد فيها سياق ومقام المقال، معلنا عن ابتهاجه و”فرحه”، لأن الدعوة التي تلقاها من اللجنة المركزية لحقوق المرأة والمكتب المركزي واللجنة الإدارية لتقديم عرض في موضوع (حقوق المرأة من زاوية مطلب العلمانية) هي استجابة لإحدى قناعاته، لأن الأخ إسلامي يعتقد بأن تحرر المرأة مقرون بل مرهون ومشروط ب ” طرح العلمانية على جدول أعمال الحركة النسائية المتحررة “!!؟

لا بد أننا قد لاحظنا بأن القضايا الثلاث العناوينية هي قضايا كبرى متداخلة في تقاطع إشكالي دقيق ووعر، فكل قضية منها تحتاج منا وتستوجب مناهج ووسائل ومقاربات وآليات تتمايز وتختلف عن الأخرى، فقضية المرأة ولو أنها تضمينية بشكل لائق ومبذول داخل المنظومة الحقوقية، لكنها تحتاج إلى المزيد من النضال المضاعف على جميع المستويات، المادية منها والرمزية، الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.. وهي أكبر من ارتهانها ب” طرح العلمانية على جدول أعمال الحركة النسائية المتحررة” وأعقد بكثير حتى من تحقيق مطلب”الدولة الديمقراطية العلمانية”، فنحن نرى الآن مجتمعات علمانية قطعت أشواطا كبيرة في الديمقراطية وحقوق الإنسان، لا زالت صورة وجسد المرأة ترتكس في إيقونات تسويقية شنيعة، وتتعرض لأبشع أشكال الاستغلال والاضطهاد، أحيانا كثيرة بقفازات مخملية، وأحيانا بالحديد والنار..

إذن لنتابع بتؤدة وأناة مقال الأخ إسلامي لنقف على منطق المقاربة التي اعتمدها والنتائج التي توصل إليها أو التي يريد أن يصل إليها، وعلى منهجه في التحليل، لنخرج بخلاصات قرائية لمقاله.

ينبهنا المقال – وهو محق في ذلك – بأن طرح موضوع العلمانية وحقوق المرأة سيطرح عدة تساؤلات من بينها، ونوردها كما استعرضها المقال هي:
– لماذا يجب أن تكون الحركة النسائية التقدمية والديمقراطية في مقدمة المطالبين بالعلمانية؟
– كيف يمكن أن تساهم الحركة النسائية التقدمية والحركة الحقوقية في تجذير مطلب العلمانية في الواقع المغربي؟
– كيف يمكن أن تضع الحركة النسائية على جدول أعمالها مطلب العلمانية دون أن تفقد جزءا من جماهيرها؟
– ما هي المداخل الأساسية التي يمكن أن تجعل النساء يلتفن حول المطالب النسائية العلمانية؟

لكن قبل الإجابة عن هذه التساؤلات يقترح علينا المقال الإجابة على سؤال أولوي عريض هو:

(لا بد من الإجابة عن الأسئلة التي تفرض أن تكون العلمانية في قلب جدول أعمال الحركة الحقوقية ومجمل الحركة التقدمية والحركات الاجتماعية وكل برنامج يزعم الرغبة في بناء الدولة والمجتمع الديمقراطيين.)

من الواضح أن المطلب المركزي هو “العلمانية” وأن المطالبين بالترتيب هم:
1- الحركة الحقوقية
2- الحركة التقدمية
3- والحركات الاجتماعية
4- وكل برنامج يزعم الرغبة في بناء الدولة والمجتمع الديمقراطيين
5- فالإطار المطالبي الجلي والواضح هنا هو: الحركة الحقوقية، أما الباقي فيكتنفه الإبهام والغموض، لأن
الحركة التقدمية والحركات الاجتماعية وكل برنامج يزعم الرغبة في بناء الدولة والمجتمع الديمقراطيين.يمكن أن يعني كل شيء أو لا شيء.

ويمكن القول أيضا استنادا إلى المقال والمقام والإشارات والإيحاءات، بأن الإطار المطالبي المعني أولا بقضية ومطلب العلمانية في المجتمع المغربي الآن – هنا هو الجمعية المغربية لحقوق الإنسان..

وتماشيا مع الإيقاع والتناغم الداخليين للمقال ونبرته يقوم الأخ بعملية استنطاق مفهوم “العلمانية” بلغة تكاد تغلب عليها مفردات من المعجم الحقوقي، تقتحمها تارة مفاهيم سماها ب” موضوعات صراع مجتمعي صريح” يتموضع الدين في طرفها الآخر:

بين الدين والدولة
علاقة الدين بالعلم
وعلاقة الدين بالقانون
وعلاقة الدين بالجنسانية المتحررة ،
وعلاقة الدين بالتحكم وإعادة إنتاج علاقات السلطة والبنيات الاقتصادية

مستنتجا بأن: (..المجتمع الديمقراطي الذي ننشده كحقوقيين <مجتمع كافة حقوق الإنسان> عليه أن يجيب / يساهم في الإجابة عن هذه الإشكاليات لا أن يضع رأسه في الرمل فقط لأن الإشكالات المطروحة حرجة وساخنة.)

إنه استنتاج ينصهر تماما في بوتقة واحدة أو أنه يستجيب وينصاع للتوجيه المتضمن في ورقة “من أجل نقاشات مثمرة”، بل هو في اجتهاده يذهب أبعد من ذلك بمنظاره ومظلته الحقوقية، فالإشكاليات المطروحة “الحرجة والساخنة” التي تجبن منها ومن مقاربتها التنظيمات والأحزاب السياسية، فالحقوقيون والجمعية المغربية على الأخص هي التي ستنهي سياسة النعامة هذه مرة واحدة وإلى الأبد..وهي التي أناط لها المقال هذه المهمة بل هذه المهام التاريخية الجبارة !!

تم يسترسل المقال مستعرضا المبادئ البناءة للمجتمع الديمقراطي العلماني، ودائما في إطار ثنائيات يكون الدين طرفها وزاويتها الحادة:

الدين والدولة، الدين والسياسة، الدين والعلم، الدين والقانون، الدين والاقتصاد، الدين والتعليم، وفصل الفضاء الخاص والعام، كي لا ينتهك الدين الحريات الشخصية (الحملات “الأخلاقية ” المفاجئة في العديد من المدن على الشباب والشابات والتي تذكرنا بشرطة الأخلاق ببعض الدول الخليجية. وإعمال منطق ” الحسبة ” من طرف الحركة الأصولية (مثال وقائع القصر الكبير) )

ــ المساواة التامة بين المرأة والرجل وبين المسلم والمسلم المختلف وبين المسلم وغير المسلم.

إن التحليل المعتمد مجحف للغاية تتنازعه وتتجاذبه منطق الثنائيات السرمدية ولا تتركه للمرور إلى مستوى أعمق من التحليل، فينتكس في الوصفية والحصرية والمجرد، التي تعجز عن إبراز كل الجوانب وعن النفاذ إلى “الوقائع والمواقف الاجتماعية والطبقية”.. والنصيب الأكبر من هذا الإجحاف، يتلقاه الدين.. وهذا ما يتعارض مع أبسط الدروس التي علمتنا إياها المادية التاريخية والمادية الجدلية.. فعن أي دين نتحدث ؟؟ وكيف ؟؟ ولماذا ؟؟ ومتى؟؟؟ هل هو دين الدول الخليجية والمطاوعة، أم دين الخميني والملاة، أم دين إخوان الصفاء وخلان الوفاء، أم دين معاوية بن أبي سفيان، أم هو دين غيلان الدمشقي والجعد بن درهم، أم هو دين الإخوان المسلمين وجماعة عبد السلام ياسين، أم مجاهدي خلق وحزب الله، أم هو دين الحلاج والسهروردي؟؟ أو دين حزب العدالة والتنمية أو السلفية الجهادية ؟؟ إلى آخره…

فكما أن الإسلام هو إسلامات فكذلك العلمانية هي علمانيات.. إن العلمانية كما تناولها وكيف طرحها هذا “العقل” (أحيانا لا يهم ماذا تقول بل كيف تقول) هي علمانوية مشحونة، كليانية، إطلاقية تسلطية مفزعة، تقف ويا للمفارقة مع الدين في آخر الشوط على أرضية واحدة، ولو أنه يبدو على أنها في تضاد معه، أي أنها علمانية متدينة.أي علمانوية، فحتى اضطهاد المرأة وتنميطها حسب منطق المقال وتعزيزه راجع بالأساس إلى عامل الدين كبعد وحيد، طامسا بذلك الجوانب الأخرى الاجتماعية والطبقية..

لكن المقال يتدارك في بعض اللحظات وفي فقرات قوية ونيرة خيطه المنهجي، الذي ينفلت منه، عندما تخفت النبرة الحقوقية ويتناول السياقات والمشروطيات التاريخية الكبرى، ولو أنها سريعة وتكاد تكون مبتسرة.. هي فقرات وازنة عرضت بزوغ العلمانية في فجر أوروبا الإظلامي بالعصور الوسطى والسيطرة الكنسية على جميع مناحي الحياة، مدركة أشكال تعقد الصراع واختراقه لعدة مستويات واختلافاته محليا ودوليا، وتناولها في سياقات مختلفة ومتعددة.. وقدم أخيرا ملفا مطلبيا طموحا لن يختلف معه أحد خاصة المطالب السياسية والحقوقية والفكرية في سياقنا المغربي…

ولكن ملاحظتي هي عند تناوله السريع والمبهم للعلمانية في سياق دول مثل تركيا والهند واليابان والمكسيك..ويعتبر السياق التركي أقرب التجارب إلينا – إذا أردنا بالفعل وجادين وبعيدا عن أية دعوة “إيديولوجية” أو ديماغوجية – للتأمل والدراسة وللاستفادة لبناء وتأسيس تجربتنا في سياقنا المغربي الراهن.. كان من الواجب على الأخ العزيز مشكورا أن يقف بعض الوقت على هذه التجربة، لكنه مر سريعا، لأنه يعرف أنها ستربك خيطه الناظم.. فلماذا هذه العودة “الظافرة” للإسلاموية في المشهد السياسي التركي، وذلك “المخزون التنفيسي للجماهير” بلغة حسن حنفي، الذي تم إهماله بأحكام وتنظيرات مسبقة، كيف تحول وجمح إلى موجات عاتية من الأسلمة والتزمت في المجتمع التركي ؟؟؟

إن هذه الإخفاقات تحتم علينا كمطالبين ومدافعين عن الدولة الديمقراطية العلمانية، أن نجيب ونقاربها كمقدمات ضرورية وأساسية للبرنامج الطموح الذي اقترحه الأخ حفيظ إسلامي والذي أشكره بالمناسبة على مقاله الجاد والهادف..

عبد الكريم وشاشا / الرباط في 19 ماي 2008

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق