زملاء

فلاديمير إيليتش لينين : ما العمل؟ المسائل الملحة لحركتنا

 
“… إن النضال الحزبي يعطي الحزب القوة والحيوية؛ والدليل القاطع على ضعف الحزب هو الميوعة وطمس الحدود المرسومة بخطوط واضحة؛ إن الحزب يقوى بتطهير نفسه…”. (من رسالة وجهها لاسال إلى ماركس في 24 حزيران (يونيو) سنة 1852)

مقدمة

هذا الكراس الموضوع بين أيدي القارئ كان يراد له، بموجب مخطط المؤلف الأول، أن يتناول بالتفصيل تطور الأفكار الواردة في مقال “بم نبدأ؟”(2) (“الإيسكرا”(3)، العدد4، أيار (مايو) سنة 1901). ونرى لزاما علينا أن نبدأ بالاعتذار للقارئ لتأخرنا في إنجاز الوعد الذي قطعناه على أنفسنا في المقال المذكور (والذي أكدناه في أجوبتنا على الكثير من الأسئلة والرسائل الخاصة). لقد كانت المحاولة التي جرت في حزيران (يونيو) السنة الماضية (سنة 1901)(4) لتوحيد جميع المنظمات الاشتراكية-الديموقراطية في الخارج سببا من أسباب هذا التأخر. فقد كان من الطبيعي أن ننتظر نتائج هذه المحاولة، لأنه كان من المحتمل، في حالة نجاحها، أن نضطر إلى عرض نظرات “الإيسكرا” التنظيمية من وجهة نظر تختلف بعض الشيء، ولأن هذا النجاح كان من شأنه على كل حال أن يبعث الأمل في وضع حد بسرعة قصوى لوجود اتجاهين في الاشتراكية-الديموقراطية الروسية. وقد انتهت هذه المحاولة، كما يعلم القارئ، إلى الإخفاق، وكان لابد لها أن تنتهي إليه – وسنسعى للبرهان على ذلك فيما يلي من البحث- بعد الإنعطاف الجديد نحو “الإقتصادية”(5) من جانب “رابوتشييه ديلو”(6) في العدد العاشر. وقد ظهر أن خوض النضال الحازم ضد هذا الإتجاه المائع وغير الواضح المعالم، ولكنه بالمقابل وبالتالي اتجاه ثابت وقادر على الإنبعاث بشتى الأشكال، إنما هو أمر لا مفر منه. وتبعا لذلك تغير المخطط الأول الموضوع للكراس واتسع جدا. لقد كان من المقرر أن يكون الموضوع الرئيسي للكراس المسائل الثلاث الواردة في مقال “بم نبدأ؟”. وهي: طابع تحريضنا السياسي ومضمونه الرئيسي، ومهامنا التنظيمية، ومشروع إنشاء منظمة كفاحية لعامة روسيا، إنشاء يجري في وقت واحد ومن شتى الجوانب. وهذه المسائل كانت منذ أمد بعيد تستدعي اهتمام المؤلف الذي حاول إثارتها في “رابوتشايا غازيتا”(7) أثناء محاولة من المحاولات غير الناجحة لبعثها (راجع الفصل الخامس). ولكن تبين لي أن تنفيذ الفكرة الأولى والإقتصار على بحث هذه المسائل الثلاث في الكراس وعرض وجهة نظري بشكل إيجابي على قدر الإمكان، دون اللجوء البتة إلى الجدال، أو دون اللجوء إليه إلا لماما، هو أمر غير ممكن التحقيق على الإطلاق لسببين اثنين. فقد اتضح، من جهة، أن “الإقتصادية” هي أشد حيوية بكثير مما كنا نقدر (ونحن نستعمل كلمة “الإقتصادية” بالمعنى الواسع، كما شرحناها في العدد 12 من “الإيسكرا” (كانون الأول – ديسمبر سنة 1901) في مقال “حديث مع أنصار الإقتصادية”، المقال الذي كان بمثابة رؤوس أقلام، إذا صح التعبير، لهذا الكراس الموضوع بين يدي القارئ. ولم يبق مجال للشك في أن اختلاف وجهات النظر حول حل هذه المسائل الثلاث يفسره التضاد الجذري بين اتجاهي الاشتراكية-الديموقراطية الروسية، أكثر بكثير مما يفسره اختلاف وجهات النظر حول الجزئيات. ومن جهة أخرى، إن استغراب “الإقتصاديين” لقيامنا عمليا في “الإيسكرا” بعرض وجهات نظرنا قد أظهر بكل وضوح أننا كثيرا ما نتكلم بلغات مختلفة بالمعنى الحرفي للكلمة، وأننا لا نستطيع بالتالي الإتفاق حول أي أمر إذا لم نبدأ ab ovo، وأن من الضروري القيام بمحاولة “توضيح” منتظم مع جميع “الإقتصاديين” حول جميع النقاط الجذرية في خلافاتنا، “توضيح” مبسط، مشروح بأكثر ما يمكن من الأمثلة الحسية. ولقد عزمت على القيام بمحاولة كهذه “للتوضيح” مدركا كل الإدراك أن هذا يضخم حجم الكراس لدرجة كبيرة ويؤخر صدوره، ولكني لم أر في الوقت نفسه سبيلا آخر لتنفيذ ما وعدت به في مقال “بم نبدأ؟”. وهكذا ينبغي لي أن أضيف إلى الإعتذار على التأخر اعتذارا آخر على النقص الكبير في ديباجة الكراس الأدبية، فقد اضطررت للكتابة بأقصى السرعة، وفضلا عن ذلك كانت تحملني على الإنقطاع عن الكتابة مختلف المشاغل الأخرى. وإذن، كان بحث المسائل الثلاث المذكورة أعلاه، كما في السابق، الموضوع الرئيسي للكراس؛ ولكن كان علي أن أبدأ من مسألتين أعم: لماذا نرى في شعار “بريء” و”طبيعي” كشعار “حرية الانتقاد” إعلانا حقيقيا للنفير؟ لماذا لا نستطيع الإتفاق حتى حول المسألة الأساسية –دور الاشتراكية-الديموقراطية في الحركة الجماهيرية العفوية؟ وبعد. إن عرض نظراتنا في طابع التحريض السياسي ومضمونه قد تحول إلى شرح للفرق بين السياسة التريديونيونية والسياسة الاشتراكية-الديموقراطية؛ أما عرض نظراتنا في المهام التنظيمية، فقد تحول إلى شرح للفرق بين الطريقة الحرفية التي ترضي “الإقتصاديين”، وتنظيم الثوريين الضروري في رأينا. وبعد، إني أتمسك “بمشروع” الجريدة السياسية لعامة روسيا بإصرار متزايد كلما ازداد بطلان الاعتراضات المقدمة ضده والتهرب من الجواب على جوهر سؤالي المطروح في مقال “بم نبدأ؟” – وهو: كيف يمكننا أن نبدأ في وقت واحد ومن جميع الجوانب ببناء المنظمة التي نحن بحاجة إليها. وآمل، أخيرا، أن أبين في القسم الختامي من الكراس أننا بذلنا كل ما في طاقتنا لدرء الإنفصال التام مع “الإقتصاديين”. هذا الإنفصال الذي ظهر، مع ذلك، أمرا لا مفر منه، وأن جريدة “رابوتشييه ديلو” قد اكتسبت أهمية خاصة، “تاريخية” إن شئتم، بكونها قد أعربت بأتم شكل وأوضحه، لا عن “الإقتصادية” المتماسكة، بل عن التشويش والتردد اللذين كانا الصفة المميزة لمرحلة كاملة من تاريخ الاشتراكية-الديموقراطية الروسية، وأن هذا الجدال مع “رابوتشييه ديلو”، الذي يبدو لأول وهلة مفصلا جدا، يكتسب لذلك أهمية أيضا، ما دمنا لا نستطيع متابعة السير إلى الأمام، دون أن نصفي هذه المرحلة تصفية تامة. ن . لينين شباط (فبراير) سنة 1902.

I-الجمود العقائدي و”حرية النقد”

أ?) ما معنى “حرية النقد”؟

إن شعار”حرية النقد” هو، دون شك، الشعار الأوسع انتشارا في الوقت الحاضر، الشعار الأكثر استعمالا في الجدل بين الاشتراكيين والديموقراطيين في جميع البلدان. وإنه ليصعب على المرء، لأول وهلة، أن يتصور شيئا أدعى إلى الدهشة من تذرع أحد المتجادلين، على مسمع من الملأ، بحرية النقد. هل ارتفعت، يا ترى، من بيئة الأحزاب المتقدمة أصوات ضد القانون الدستوري الذي يضمن في معظم البلدان الأوروبية حرية العلم وحرية البحث العلمي؟ “إن وراء الأكمة ما وراءها” – هذا ما سيقوله لنفسه بالتأكيد كل إنسان غير متحيز يسمع هذا الشعار الدارج يكرر في كل ناد وواد، ولكنه لم يدرك بعد جوهر الخلاف بين المتجادلين. “يبدو أن هذا الشعار من كلمات السر التي يكرسها الإستعمال كما هي الحال في الألقاب وتصبح أشبه بأسماء الأجناس”. وفي الحقيقة لا يخفى على أحد أن اتجاهين قد نبعا في الاشتراكية-الديموقراطية العالمية الراهنة، اتجاهين يحتدم بينهما الصراع ويضطرم أواره حينا، ويهدأ حينا آخر ويخمد تحت رماد “قرارات عن الهدنة” مهيبة. وقد أعلن برنشتين وأظهر ميليران بما يكفي من الوضوح فحوى الإتجاه “الجديد” الذي يأخذ من الماركسية “القديمة، الجامدة”، موقفا “نقديا”. ينبغي للإشتراكية-الديموقراطية أن تتحول من حزب للثورة الإجتماعية إلى حزب ديموقراطي للإصلاحات الإجتماعية. هذا المطلب السياسي أحاطه برنشتين بمجموعة كبيرة من البراهين والاعتبارات “الجديدة” نسقها تنسيقا لا بأس به. فقد أنكر إمكانية دعم الاشتراكية علميا وإمكانية البرهان على ضرورتها وحتميتها من وجهة نظر المفهوم المادي للتاريخ؛ أنكر واقع تزايد البؤس والتحول إلى البروليتاريا وتفاقم التناقضات الرأسمالية؛ أعلن أن مفهوم “الهدف النهائي” ذاته باطل ورفض فكرة ديكتاتورية البروليتاريا رفضا قاطعا؛ أنكر التضاد المبدئي بين الليبرالية والاشتراكية؛ أنكر نظرية الصراع الطبقي وزعم أنها لا تنطبق على مجتمع ديموقراطي صرف يدار وفق مشيئة الأكثرية، الخ.. وهكذا فإن مطلب الإنعطاف الحاسم من الاشتراكية-الديموقراطية الثورية إلى الإصلاحية الإجتماعية البرجوازية قد رافقه انعطاف لا يقل حسما نحو النقد البرجوازي لجميع أفكار الماركسية الأساسية. ولما كان هذا النقد يساق ضد الماركسية منذ أمد بعيد من المنابر السياسية ومنابر الجامعات، وفي مجموعة كبيرة من الكراريس وجملة من الأبحاث العلمية، ولما كان الجيل الناشئ كله من الطبقات المتعلمة يتربى بانتظام وطيلة عشرات السنين على هذا النقد – فلا غرو أن ينبثق الإتجاه “النقدي الجديد” في الاشتراكية-الديموقراطية بشكله المتكامل دفعة واحدة، كما انبثقت مينيرفا من رأس جوبيتر(15). لم يكن من الضروري أن يتطور هذا الإتجاه ويتكون من حيث مضمونه: فقد نقل نقلاَ من المطبوعات البرجوازية إلى المطبوعات الاشتراكية. وبعد. إذا كان نقد برنشتين النظري ومطامعه السياسية قد ظلت غامضة بالنسبة لبعضهم، فقد عنى الفرنسيون بتبيان “الطريقة الجديدة” في التطبيق. وفي هذه المرة أيضا أثبتت فرنسا أنها تستحق ما اشتهرت به منذ القدم من أنها “البلاد التي كان يصل فيها صراع الطبقات، في تاريخها، أكثر مما في أية بلاد أخرى، إلى نهايته الفاصلة” (إنجلس، من مقدمة لمؤلف ماركس 18 برومير لويس بونابرت). فالإشتراكيون الفرنسيون لم ينصرفوا إلى النظريات، بل إلى العمل المباشر، ذلك لأن الظروف السياسية المتطورة في فرنسا تطورا أكبر من وجهة النظر الديموقراطية، قد مكنتهم من الإنتقال رأسا إلى “البرنشتينية العملية” مع كل ما ينجم عنها من نتائج. ولقد أعطى ميليران مثلا رائعا عن هذه البرنشتينية العملية، فليس عبثا إذن أن اندفع برنشتين وفولمار للدفاع عن ميليران وامتداحه بمثل هذه الحماسة! وبالفعل، إذا كانت الاشتراكية-الديموقراطية ليست في جوهرها إلا حزب الإصلاحات وإذا كان ينبغي لها أن تجد في نفسها الجرأة على إعلان ذلك أمام الملأ – فعندئذ لا يحق للإشتراكي أن يشترك في الوزارة البرجوازية وحسب، بل ينبغي له أن ينزع دائما إلى ذلك. وإذا كانت الديموقراطية تعني، في جوهرها، إلغاء السيادة الطبقية – فلماذا لا يعمد الوزير الإشتراكي إلى إغراء العالم البرجوازي كله بخطابات عن تعاون الطبقات؟ ولماذا لا يبقى في الوزارة ولو بعد أن جاءت مصارع العمال على يد الدرك دليلا للمرة المئة بل الألف على حقيقة طابع التعاون الديموقراطي بين الطبقات؟ ولماذا لا يشترك شخصيا في تحية القيصر الذي لا ينعته الإشتراكيون الفرنسيون في الوقت الحاضر إلا ببطل المشانق والسياط والمنافي (knouteur, pendeur et déportateur)؟ وتعويضا عن هذا الحضيض من الهوان الذي سقطت الاشتراكية فيه والاحتقار الذي جلبته لنفسها، أمام العالم كله، وتعويضا عن إفساد الوعي الإشتراكي بين جماهير العمال – وهو الأساس الوحيد الذي في وسعه أن يضمن لنا الإنتصار – تعويضا عن كل ذلك نرى مشاريع طنانة لإصلاحات تافهة، تافهة بحيث أمكن الحصول على أكثر منها من الحكومات البرجوازية! إن الذين لا يتعامون عن عمد يرون لا محالة أن الإتجاه “النقدي” الجديد في الاشتراكية ليس غير مظهر جديد من مظاهر الإنتهازية. وإذا حكمنا على الناس لا على أساس الرداء البراق الذي يخلعونه على أنفسهم بأنفسهم، لا على أساس اللقب الطنان الذي ينتحلونه لأنفسهم، بل على أساس تصرفاتهم وعلى أساس ما يدعون إليه في الواقع، اتضح أن “حرية النقد” تعني حرية الإتجاه الإنتهازي في الاشتراكية-الديموقراطية، حرية تحويل الاشتراكية-الديموقراطية إلى حزب إصلاحي ديموقراطي، حرية إدخال الأفكار البرجوازية والعناصر البرجوازية إلى الاشتراكية. الحرية كلمة عظيمة، لكن، تحت لواء حرية الصناعة شنت أفظع حروب السلب والنهب، وتحت لواء حرية العمل جرى نهب الشغيلة. وكلمة “حرية النقد” في استخدامها الحالي تتضمن مثل هذا الزيف. إن الذين يؤمنون حقا بأنهم دفعوا العلم إلى أمام لا يطلبون حرية وجود المفاهيم الجديدة إلى جانب المفاهيم القديمة، بل إبدال الجديدة بالقديمة. أما الصرخة الحالية: “عاشت حرية النقد!” فتشبه شديد الشبه حكاية الطبل الأجوف. نحن نسير جماعة متراصة في طريق وعر صعب، متكاتفين بقوة. ومن جميع الجهات يطوقنا الأعداء، وينبغي لنا أن نسير على الدوام تقريبا ونحن عرضة لنيرانهم. لقد اتحدنا بملء إرادتنا، اتحدنا بغية مقارعة الأعداء بالذات، لا للوقوع في المستنقع المجاور الذي لامنا سكانه منذ البدء لأننا اتحدنا في جماعة على حدة وفضلنا طريق النضال على طريق المهادنة. وإذا بعض منا يأخذ بالصياح: هلموا إلى هذا المستنقع! وعندما يقال لهم: ألا تخجلون، يعترضون قائلين: ما أجهلكم يا هؤلاء! ألا تستحون أن تنكروا علينا حرية دعوتكم إلى الطريق الأحسن! – صحيح، صحيح أيها السادة! إنكم أحرار لا في أن تدعوا وحسب، بل أيضا في الذهاب إلى المكان الذي يطيب لكم، إلى المستنقع إن شئتم؛ ونحن نرى أن مكانكم أنتم هو المستنقع بالذات، ونحن على استعداد للمساعدة بقدر الطاقة على انتقالكم أنتم إليه. ولكن رجاءنا أن تتركوا أيدينا، أن لا تتعلقوا بأذيالنا، أن لا تلطخوا كلمة الحرية العظمى، ذلك لأننا نحن أيضا “أحرار” في السير إلى حيث نريد، أحرار في النضال لا ضد المستنقع وحسب بل أيضا ضد الذين يعرجون عليه!

ب) المدافعون الجدد عن “حرية النقد” وها هو ذا هذا الشعار (“حرية النقد”) الذي طرحه بصورة مهيبة في الآونة الأخيرة لسان حال “إتحاد الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس” في الخارج(16) “رابوتشييه ديلو” (العدد 10)، لا كأمر مسلم به نظريا، بل كمطلب سياسي، كجواب على سؤال: “هل يمكن توحيد المنظمات الاشتراكية-الديموقراطية العاملة في الخارج؟” – “الإتحاد الوطيد يقتضي حرية النقد” (ص36). من هذا القول يخلص المرء إلى استنتاجين واضحين كل الوضوح: 1) “رابوتشييه ديلو” تأخذ على عاتقها الدفاع عن الاتجاه الانتهازي في الاشتراكية-الديموقراطية العالمية بوجه عام؛ 2) “رابوتشييه ديلو” تطلب حرية الإنتهازية في الاشتراكية-الديموقراطية الروسية. فلنبحث هذين الاستنتاجين. “رابوتشييه ديلو” غير راضية “بوجه خاص” من “ميل “الإيسكرا” و”زاريا” إلى التنبؤ بالإنفصال بين الجبل والجيروند(18) في الاشتراكية-الديموقراطية العالمية”. كتب محرر “رابوتشييه ديلو” ب. كريتشيفسكي يقول: “الكلام عن الجبل والجيروند في صفوف الاشتراكية-الديموقراطية يبدو لنا بوجه عام عبارة عن مقارنة تاريخية سطحية نستغرب صدورها عن قلم ماركسي؛ فالجبل والجيروند لم يمثلا مزاجين أو تيارين فكريين مختلفين كما قد يخيل للمؤرخين الإيديولوجيين، بل كانا يمثلان طبقات أو فئات مختلفة -البرجوازية المتوسطة من جهة، والبرجوازية الصغيرة مع البروليتاريا من الجهة الأخرى. هذا بينما لا يوجد في الحركة الاشتراكية المعاصرة تصادم بين المصالح الطبقية، فهي بمجموعها وبجميع (حرف التأكيد لكريتشيفسكي) مظاهرها، بما في ذلك البرنشتينيون المتطرفون، تقف على صعيد مصالح البروليتاريا الطبقية، على صعيد نضالها الطبقي في سبيل تحررها السياسي والاقتصادي” (ص32-33) تأكيد جريء! أولم يسمع ب. كريتشيفسكي بواقع لوحظ منذ أمد بعيد، ونعني به أن اشتراك فئة “الأكاديميين” في الحركة الاشتراكية خلال السنوات الأخيرة على نطاق واسع هو الذي ضمن انتشار البرنشتينية بمثل هذه السرعة؟ والأمر الرئيسي: بم يدعم كاتبنا رأيه إذ يزعم أن “البرنشتينيين المتطرفين” يقفون هم أيضا على صعيد النضال الطبقي في سبيل تحرير البروليتاريا السياسي والإقتصادي؟ لا ندري. إنه يدافع بحزم عن البرنشتينيين المتطرفين دون أن يأتي بأية حجة أو أي دليل لدعم ذلك. إن واضع المقال يظن، على ما يظهر، أن أقواله لا تحتاج إلى برهان إذا كرر ما يقوله البرنشتينيون المتطرفون عن أنفسهم. ولكن هل يمكن للمرء أن يتصور”سطحية” تضارع سطحية هذا الحكم على اتجاه بأكمله استنادا إلى ما يقوله ممثلو هذا الاتجاه عن أنفسهم؟ هل يمكن تصور سطحية تضارع سطحية “المواعظ” التي أتت بعد ذلك بصدد نموذجين أو طريقين للتطور الحزبي مختلفين أو حتى متناقضين كل التناقض (ص 34-35 من “رابوتشييه ديلو”)؟ الإشتراكيون-الديموقراطيون الألمان يعترفون – كذا!- بحرية النقد كاملة، أما الفرنسيون فلا يعترفون بها، ومثلهم بالذات هو الذي يبين كل “ضرر عدم التسامح”. ونجيب نحن على ذلك: ان مثل ب. كريتشيفسكي بالذات هو الذي يبين أن هناك من يسمون أنفسهم أحيانا بالماركسيين، وينظرون مع ذلك إلى التاريخ “على نمص ايلوفايسكي”(22) بالضبط. لتفسير وحدة الحزب الإشتراكي الألماني وانقسام الحزب الإشتراكي الفرنسي على نفسه ليس من داع إلى البحث في خصائص تاريخ البلدين ولا إلى المقارنة بين ظروف الحكم العسكري شبه المطلق وظروف البرلمانية الجمهورية، ولا إلى تقصي نتائج الكومونة(23) والقانون الإستثنائي بخصوص الاشتراكيين(24) ولا إلى مقارنة الحياة الإقتصادية والتطور الاقتصادي، ولا إلى تذكر أن “نمو الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية المنقطع النظير” قد رافقته همة في النضال منقطعة النظير في تاريخ الاشتراكية، ليس فقط النضال ضد الأخطاء النظرية (ميولبيرغر ودوهرينغ واشتراكيو المنابر الجامعية(27))، بل كذلك ضد الأخطاء التكتيكية (لاسال) الخ.، الخ.. كل هذا أمر لا داعي له! الفرنسيون يتشاجرون لأنهم غير متسامحين، والألمان متحدون لأنهم أولاد عاقلون. لاحظوا جيدا أنهم بهذا العمق المنقطع النظير في التفكير “يردون” واقعا يدحض بصورة تامة دفاع البرنشتينيين. هل يقف هؤلاء على صعيد نضال البروليتاريا الطبقي؟ إنه سؤال لا يمكن لغير التجربة التاريخية أن تجيب عليه الجواب النهائي الفاصل. وعلى ذلك فالأمر الأهم هنا هو بالضبط مثل فرنسا باعتبارها البلاد الوحيد التي جرب فيها البرنشتينيون العمل بصورة مستقلة، بتحبيذ حار من زملائهم الألمان (وجزئيا من الإنتهازيين الروس: أنظر “رابوتشييه ديلو”، العدد 2-3، ص ص 83-84). إن الإستشهاد “بعدم تسامح” الفرنسيين – بالإضافة إلى قيمته “التاريخية” (بمعنى نوزدريف(28))- هو مجرد محاولة لطمس وقائع مزعجة جدا بكلمات غاضبة. وعلى كل حال، ليس في نيتنا البتة أن نقدم الألمان هدية لكريتشيفسكي ولأمثاله الكثيرين من المدافعين عن “حرية النقد”. فإذا كان “البرنشتينيون المتطرفون” ما يزالون يصبرون عليهم في صفوف الحزب الألماني، فما ذلك إلا بمقدار ما يخضعون لقرار هانوفر(29) الذي يرد بحزم “تعديلات” برنشتين ولقرار لوبيك(30) الذي يتضمن (رغم كل ما فيه من ديبلوماسية) إنذارا صريحا لبرنشتين. يمكن النقاش من وجهة نظر مصلحة الحزب الألماني، حول مبلغ فائدة هذه الديبلوماسية؛ يمكن التساؤل عما إذا كان السلام الظاهري في هذه الحالة خيرا من شجار مكشوف، وبكلمة، يمكن أن تختلف وجهات النظر حول فائدة هذه أو تلك من طرق رفض البرنشتينية ولكن لا يمكن للمرء أن لا يرى أن الحزب الألماني قد رفض البرنشتينية مرتين. ولذا فالتفكير بأن مثل الألمان يثبت دعوى أن “البرنشتينيين المتطرفين يقفون على صعيد نضال البروليتاريا الطبقي في سبيل تحررها الإقتصادي والسياسي” – يعني عدم فهم أي شيء على الإطلاق مما يجري أمام عيون الجميع. وفوق ذلك، تنبري “رابوتشييه ديلو” أمام الاشتراكية-الديموقراطية الروسية، كما سبق لنا أن ذكرنا، وتطالب بـ”حرية النقد” وتدافع عن البرنشتينية. ويظهر أنه تبين لها أن “النقاد” والبرنشتينيين عندنا قد أهينوا ظلما. ولكن أيهم بالذات؟ ومن الذي أهانهم؟ أين؟ ومتى؟ وبم تجلى ذلك؟ إن “رابوتشييه ديلو” تلتزم الصمت في كل ذلك ولا تذكر ولو مرة واحدة أي منتقد أو أي برنشتيني روسي! ليس أمامنا من سبيل غير اختيار افتراض من افتراضين محتملين: إما أن يكون الطرف المهان ظلما هو “رابوتشييه ديلو” بعينها (يؤكد ذلك أن المقالين المنشورين في العدد 10 لا يتناولان غير الإهانات التي وجهتها “زاريا” و”الإيسكرا” إلى “رابوتشييه ديلو”). وفي هذه الحالة كيف نفسر هذا الواقع الغريب وهو أن “رابوتشييه ديلو” التي كانت تتبرأ على الدوام بعناد من كل تضامن مع البرنشتينية لم تكن تستطيع الدفاع عن نفسها دون أن تنبس ولا بكلمة دفاعا عن “البرنشتينيين المتطرفين” وعن حرية النقد؟ وإما أن تكون الإهانات قد وجهت إلى طرف ثالث. وفي هذه الحالة ما هي الأسباب التي تدعو إلى عدم ذكره؟ وهكذا نرى أن “رابوتشييه ديلو” تستمر في لعبة الغميضة التي بدأتها (كما سنبين فيما يأتي) منذ ظهورها. ومن ثم نلفت أنظاركم إلى هذا التطبيق العملي الأول لـ”حرية النقد” التي يكثرون حولها التطبيل والتزمير. فلم يقتصر الأمر في الواقع على كون هذه الحرية قد آلت رأسا إلى انعدام كل نقد، بل تعداه إلى انعدام أي رأي مستقل بوجه عام. فهذه “رابوتشييه ديلو” نفسها التي تكتم وجود البرنشتينية الروسية كما تكتم الأمراض السرية (حسب تعبير موفق لستاروفر) تقترح لمداواة هذا المرض مجرد نقل الوصفة الألمانية الأخيرة الموصوفة لمداواة هذا المرض في مظهره الألماني! فبدلا من حرية النقد – تقليد على نمط العبيد… أو، وهو الأسوأ، تقليد على نمط القرود! إن المضمون الإجتماعي السياسي الواحد للإنتهازية العالمية المعاصرة يتجلى في هذا المظهر أو ذاك تبعا للخصائص الوطنية. في هذه البلاد تجمع الإنتهازيون منذ أمد طويل تحت لواء خاص، وفي تلك استخف الإنتهازيون بالنظرية وانتهجوا عمليا سياسة الاشتراكيين-الراديكاليين، وفي بلاد ثالثة فر عدد من أعضاء الحزب الثوري إلى معسكر الإنتهازية وأخذوا يسعون إلى بلوغ أهدافهم لا عن طريق نضال صريح في سبيل المبادئ وفي سبيل تكتيك جديد، بل عن طريق إفساد حزبهم بصورة تدريجية غير ملحوظة، لا يعاقبون عليها، إن جاز القول، وفي بلاد رابعة يعمد فارّون كهؤلاء إلى نفس الأحابيل في دياجير العبودية السياسية وفي ظروف تشابك فريد بين النشاط “العلني” و”غير العلني”، الخ.. أما أن ينبري المرء ويعلن أن حرية النقد وحرية البرنشتينية هما شرط لاتحاد الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس دون أن يبين مظاهر البرنشتينية الروسية والثمار الخاصة التي حملتها، فذلك أشبه بمن يتكلم لكي لا يقول شيئا. فلنجرب نحن أنفسنا، إذن، ولنقل ولو في بضع كلمات ما لم ترغب في قوله (أو ربما لم تستطع حتى فهمه) “رابوتشييه ديلو”.

ج) النقد في روسيا إن خاصة روسيا الأساسية من الناحية التي نعنيها تتلخص في كون حركة العمال العفوية، من جهة، وانعطاف الرأي العام التقدمي نحو الماركسية، من جهة أخرى، قد تميزا منذ بدئهما بالذات باتحاد عناصر غير متجانسة بتاتا تحت لواء مشترك ومن أجل النضال ضد عدو مشترك (ضد عقيدة اجتماعية سياسية انقضى زمنها). ونحن نعني هنا “الماركسية العلنية”(32) في شهر العسل. وقد كانت هذه، بوجه عام، ظاهرة على درجة من الأصالة بحيث لم يكن هنالك في العقد التاسع أو أوائل العقد العاشر من يمكنه حتى أن يصدق ولو بإمكانها. ففي بلاد يسودها الحكم المطلق، في بلاد ترزح صحافتها تحت أشد القيود، وفي عهد رجعية سياسية حالكة تنقض على أقل نبتة من نباتات السخط والاحتجاج السياسيين – تشق نظرية الماركسية الثورية فجأة لنفسها الطريق في المطبوعات الخاضعة للرقابة، معروضة بلغة رمزية، ولكنها مفهومة لجميع الذين “يهمهم الأمر”. فقد اعتادت الحكومة ألا ترى الخطر إلا في نظرية “نارودنايا فوليا” (الثورية)، غير أن تلمح، كما يحدث في المعتاد، مجرى تطورها الداخلي، ومبتهجة لكل انتقاد يوجه إليها. وقد مر وقت طويل (طويل بالنسبة إلينا، نحن الروس) قبل أن تنتبه الحكومة للأمر وقبل أن يتمكن جيش الرقباء والدرك الثقيل من اكتشاف العدو الجديد ومن الإنقضاض عليه. وفي هذه الأثناء كانت الكتب الماركسية تصدر واحدا بعد آخر، والمجلات والجرائد الماركسية تؤسس، وغدا الجميع، بالمعنى الحرفي للكلمة، ماركسيين، وغدا الماركسيون موضع الإطراء والرعاية، وكان الناشرون في ذروة الحماسة من شدة الإقبال على اقتناء الكتب الماركسية. ومفهوم تماما أن يكون قد وجه أكثر من “كاتب مغرور”(33) بين الماركسيين المبتدئين المأخوذين بنشوة النجاح… ويمكن اليوم التحدث عن ذلك العهد بهدوء، كما يتحدث الإنسان عن أمور مضت. ولا يخفى على أحد أن ازدهار الماركسية المؤقت على هامش مطبوعاتنا، قد نشأ عن تحالف المتطرفين مع المعتدلين جدا، وقد كان هؤلاء الأخيرون في جوهر الأمر ديموقراطيين برجوازيين. وهذا الاستنتاج (الذي أثبته بجلاء فيما بعد تطورهم “النقدي”) يفرض نفسه فرضا على بعضهم حين كان “التحالف” لا يزال سليما. ولكن إذا كان الأمر كذلك، أفلا يحمل الإشتراكيون-الديموقراطيون الثوريون الذين عقدوا هذا التحالف مع “نقاد” الغد، القسط الأكبر من مسؤولية “الفتنة” التي وقعت بعد ذلك؟ هذا السؤال، مع الجواب عليه بالإيجاب، نسمعه في بعض الأحيان من أناس ينظرون إلى الأشياء نظرة مغالية في الإستقامة. ولكن هؤلاء الناس مخطئون تماما. إذ لا يمكن أن يخشى من الأحلاف المؤقتة، ولو مع أناس لا يركن إليهم، إلا الذين لا يثقون بأنفسهم. ليس يمكن لأي حزب سياسي أن يعيش بدون أحلاف كهذه. وقد كان التحالف مع الماركسيين العلنيين بمثابة أول تحالف سياسي حقا تحققه الاشتراكية-الديموقراطية الروسية. فبفضل هذا التحالف تم الإنتصار على الشعبية بسرعة خارقة وانتشرت الأفكار الماركسية انتشارا واسعا (ولو بشكل مبسط). هذا، والتحالف لم يعقد بدون أي “شرط”. والبرهان: المجموعة الماركسية “وثائق في مسألة التطور الإقتصادي في روسيا”(34) التي أحرقتها الرقابة في سنة 1895. وإذا أمكن مقارنة الإتفاق مع الماركسيين العلنيين في حقل المطبوعات بالتحالف السياسي، فإنه تمكن مقارنة هذا الكتاب بالمعاهدة السياسية. وواضح أن الإنفصال لم يحدث بسبب أن “الحلفاء” قد ظهروا ديموقراطيين برجوازيين. بل بالعكس، فممثلو هذا الاتجاه الأخير هم حلفاء طبيعيون للإشتراكية-الديموقراطية مرغوب فيهم ما دامت القضية تتعلق بمهامها الديموقراطية التي يدفعها إلى المقام الأول الوضع الراهن في روسيا. ولكن الشرط الذي لا بد منه لهذا التحالف هو أن يجد الإشتراكيون الإمكانية التامة ليبينوا للطبقة العاملة التضاد العدائي بين مصالحها ومصالح البرجوازية. هذا في حين أن البرنشتينية والإتجاه “النقدي” اللذين اتجه إليهما أفواجا معظم الماركسيين العلنيين كان من شأنهما أن يسقطا هذه الإمكانية ويفسدا الوعي الإشتراكي بتحقيرهما الماركسية وتبشيرهما بنظرية طمس التناقضات الإجتماعية وإعلانهما بطلان نظرية الثورة الإجتماعية وديكتاتورية البروليتاريا وجعلهما حركة العمال والنضال الطبقي تريديونيونية ضيقة ونضالا “واقعيا” في سبيل إصلاحات طفيفة وتدريجية. وقد كان يعني هذا تماما إنكار الديموقراطية البرجوازية على الاشتراكية الحق في الاستقلال، وبالتالي الحق في الوجود؛ وكان يعني هذا في الواقع النزوع إلى تحويل حركة العمال وهي في بدئها إلى ذيل لليبراليين. وطبيعي أن الإنفصال كان في مثل هذه الظروف أمرا لابد منه. ولكن الخاصة التي “تفردت” بها روسيا تجلت في كون هذا الإنفصال قد آل إلى مجرد إبعاد الاشتراكيين-الديموقراطيين عن المطبوعات “العلنية” الأوسع انتشارا والأقرب إلى متناول الجمهور. فقد اعتصم فيها “الماركسيون السابقون” الذين تجمعوا “تحت شعار النقد” وحصلوا على ما يشبه الإحتكار في “سحق” الماركسية. وسرعان ما أصبحت هتافات: “ضد الأرثوذكسية” و”فلتحيى حرية النقد” (الهتافات التي تكررها الآن “رابوتشييه ديلو”) عبارات تطابق الموضة. ولم يصمد أمام هذه الموضة لا الرقباء ولا الدرك، يدلنا على ذلك صدور ثلاث طبعات روسية لكتاب برنشتين(35) الذائع الصيت (الذائع الصيت على طراز هيروسترات) أو امتداح زوباتوف لكتب برنشتين والسيد بروكوبوفيتش وأضرابهما (“الإيسكرا”، العدد 10). وتواجه الاشتراكيين-الديموقراطيين الآن مهمة صعبة بحد ذاتها، زادتها صعوبة إلى حد لا يتصور عقبات خارجية صرف، هي مهمة النضال ضد التيار الجديد. وهذا التيار لم يقتصر على ميدان المطبوعات. فقد رافق الانعطاف نحو “النقد” ميل مقابل من جانب الاشتراكيين-الديموقراطيين العاملين في ميدان التطبيق نحو “الإقتصادية”. إن كيفية نشوء وتطور الصلة والتبعية المتبادلة بين النقد العلني و”الإقتصادية” غير العلنية هي مسألة هامة يمكن أن تكون موضوع مقال مستقل. حسبنا أن نشير هنا إلى أن هذه الصلة موجودة دون شك. فالـ”Credo”• المشهور ما كان ليكتسب هذه الشهرة المستحقة لولا أنه قد صاغ بصراحة هذه الصلة وكشف عن غير عمد الإتجاه السياسي الأساسي في “الإقتصادية”: ليقم العمال بالنضال الإقتصادي (وكان من الأدق أن يقال: النضال التريديونيوني، لأن التريديونيونية تشمل كذلك سياسة عمالية صرفا)، وليندمج المثقفون الماركسيون مع الليبراليين من أجل “النضال” السياسي. إن النشاط التريديونيوني “في الشعب” قد ظهر تنفيذا للنصف الأول من المهمة، والنقد العلني تنفيذا للنصف الثاني. وقد كان هذا التصريح سلاحا ضد “الإقتصادية” ممتازا لدرجة تحتم معها اختراع “Credo” لو لم يكن “Credo” موجودا. لم يخترع “Credo” اختراعا، ولكنه نشر بدون موافقة واضعيه، وربما رغم إرادة واضعيه. وعلى كل حال فإن كاتب هذه الأسطر الذي ساهم في إخراج “البرنامج” الجديد إلى وضح النهار، قد تأتى له أن يسمع الشكاوي واللوم بسبب أن نظرات الخطباء التي لخصوها على الورق قد وزعت في نسخ ولقبت بالـ “Credo” ونشرت، فوق ذلك في الصحف في وقت واحد مع الإحتجاج! نذكر هذا الحادث لأنه يكشف عن سمة من سمات “الإقتصادية” عندنا تسترعي انتباها كبيرا هي الخوف من العلنية. إنها على وجه الدقة سمة “الإقتصادية” بوجه عام، لا سمة واضعي الـ “Credo” وحدهم: فقد أظهرتها “رابوتشايا ميسل”(37)، أشرف أنصار “الإقتصادية” وأكثرهم صراحة، كما أظهرتها “رابوتشييه ديلو” (التي أغضبها نشر الوثائق “الإقتصادية” في “Vademecum”(38) وأظهرتها لجنة كييف التي لم ترغب منذ نحو سنتين بالسماح بنشر عقيدتها “Profession de foi”(39) في وقت واحد مع الرد المكتوب ضدها، وأظهرها كثيرون وكثيرون من ممثلي “الإقتصادية”. إن هذا الخوف من النقد، الذي يظهره أنصار حرية النقد، لا يمكن تفسيره بمجرد المكر (وإن كان المكر يلعب دوره أحيانا: فمن غير المعقول أن تعرض لهجمات الخصوم نبتات اتجاه جديد لم يشتد عودها بعد!). لا. إن أكثرية “الإقتصاديين” ينظرون مخلصين كل الإخلاص (وجوهر “الإقتصادية” نفسه يحملهم على النظر) بعدم رضى إلى كل مظهر من مظاهر المناقشات النظرية والخلافات بين الفرق والمسائل السياسية الواسعة ومشاريع تنظيم الثوريين وما شابه ذلك. “يحسنون صنعا لو أحالوا كل هذا إلى الخارج!” – هذا ما قاله لي ذات يوم أحد “الإقتصاديين” المنسجمين إلى حد كاف، معربا بذلك عن نظرة واسعة الإنتشار (ولنقل مرة أخرى أنها تريديونيونية صرف) مآلها: تهمنا حركة العمال، تهمنا منظمات العمال هنا في منطقتنا، وما عدا ذلك هو من اختلاقات “المذهبيين”، هو “مغالات في تقدير أهمية الإيديولوجيا” حسب تعبير واضعي الرسالة المنشورة في العدد 12 من “الإيسكرا” ترديدا لما جاء في العدد 10 من “رابوتشييه ديلو”. نتساءل الآن: نظرا لهذه الخصائص التي يتصف بها “النقد” الروسي والبرنشتينية الروسية، بم كان ينبغي أن تتلخص مهمة الذين أرادوا أن يكونوا خصوما للإنتهازية فعلا، لا قولا فقط؟ كان ينبغي، أولا، الإهتمام باستئناف ذلك العمل النظري الذي لم يكد يبتدئ في عهد الماركسية العلنية والذي ألقي الآن مرة أخرى على عاتق المناضلين السريين؛ فبدون هذا العمل لم يكن بالإمكان نمو الحركة بنجاح. وكان من الضروري، ثانيا، القيام بنضال نشيط ضد “النقد” العلني الذي كان يفسد العقول إفسادا شديدا. وكان من الضروري، ثالثا، النضال النشيط ضد التبعثر والتردد في الحركة العملية بكشف ودحض كل محاولة تبذل، بوعي أو بغير وعي، للحط من مكانة برنامجنا وتكتيكنا. أما أن “رابوتشييه ديلو” لم تقم بالواجب الأول ولا الثاني ولا الثالث، فهو أمر معروف، وسنبين فيما يأتي من البحث بالتفصيل ومن جميع الوجوه هذه الحقيقة المعروفة. وكل ما نريد أن نبينه الآن هو مبلغ التناقض الصارخ بين مطلب “حرية النقد” وخصائص نقدنا الوطني و”الإقتصادية” الروسية. فلنلق إذن نظرة على نص القرار الذي اتخذه “اتحاد الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس في الخارج” وأكد به وجهة نظر “رابوتشييه ديلو”: “بغية استمرار تطور الاشتراكية-الديموقراطية الفكري نعترف بأن حرية نقد النظرية الاشتراكية-الديموقراطية في المطبوعات الحزبية أمر ضروري تماما، ما دام هذا النقد لا ينافي طابع هذه النظرية الطبقي والثوري” (“مؤتمران”، ص10). والحيثيات: أن القرار “في قسمه الأول يطابق قرار مؤتمر الحزب في لوبك بصدد برنشتين”… إن “جماعة الإتحاد” لطيبة قلوبهم لا يلاحظون أي testimonium paupertatis (شهادة فقر الحال) يسجلون على أنفسهم بهذا النسخ!.. “ولكنه… في قسمه الثاني يقيد حرية النقد إلى حد أكبر مما فعل مؤتمر الحزب في لوبك”. وهكذا فإن قرار “الإتحاد” موجه ضد البرنشتينيين الروس؟ وإلا فإن الإستشهاد بلوبك ليس له معنى على الإطلاق! ولكن ليس صحيحا أنه “يقيد إلى حد كبير حرية النقد”. فالألمان قد رفضوا بندا بندا بقرارهم في مؤتمر هانوفر تلك التعديلات التي قدمها برنشتين بالذات، بينما بقرارهم في مؤتمر لوبك، وجهوا إنذارا شخصيا لبرنشتين ذاكرين اسمه في القرار. هذا في حين أن المقلدين “الأحرار” عندنا لم يشيروا ولو تلميحا إلى أي مظهر من مظاهر “النقد” الروسي الخاص و”الإقتصادية” الروسية الخاصة. ونظرا لهذا التكتم، يفسح التلميح المجرد إلى طابع النظرية الطبقي والثوري مجالا أكبر بكثير للتأويلات الكاذبة، لا سيما إذا كان “الإتحاد” يرفض إدراج “ما يدعى بالإقتصادية” ضمن الإنتهازية (“مؤتمران”. ص8، البند1). ولكننا نقول هذا في سياق الحديث. أما الأمر الرئيسي فهو أن موقف الإنتهازيين حيال الاشتراكيين-الديموقراطيين الثوريين يختلف في ألمانيا عنه في روسيا كل الإختلاف. فمن المعروف أن الاشتراكيين-الديموقراطيين الثوريين في ألمانيا يريدون المحافظة على ما هو كائن، يريدون المحافظة على البرنامج القديم والتكتيك القديم المعروفين للجميع واللذين شرحهما بجميع تفاصيلهما اختبار عشرات السنين. أما “النقاد” فيريدون إحداث تغيرات؛ ولما كان هؤلاء النقاد أقلية ضئيلة وكانت مساعيهم التحريفية حيية جدا، عرفنا السبب الذي يجعل الأكثرية تكتفي برد “البدعة” ببرود. ولكن النقاد و”الإقتصاديين” عندنا، في روسيا، يريدون المحافظة على ما هو كائن: يريد “النقاد” أن يستمر الناس في اعتبارهم ماركسيين وأن تضمن لهم “حرية النقد” التي استغلوها من جميع الوجوه (لأنهم لم يعترفوا في الجوهر بأي ارتباط حزبي، فضلا عن أنه لم تكن عندنا أية هيئة حزبية يعترف بها الجميع وتستطيع أن “تحد” من حرية النقد ولو بالنصح)، ويريد “الإقتصاديون” من الثوريين أن يعترفوا “بالحقوق الكاملة للحركة في وضعها الراهن” (“رابوتشييه ديلو”، العدد 10، ص 25) أي “بشرعية” وجود ما هو موجود، يريدون أن لا يحاول “الإيديولوجيون” “صرف” الحركة عن الطريق الذي “يحدده تفاعل العناصر المادية والبيئة المادية” (“الرسالة” في العدد 12 من “الإيسكرا”)، أن يُعترف بأن من المرغوب فيه القيام بالنضال “الذي يمكن للعمال القيام به في الظروف الراهنة” وأن يُعترف بأن النضال الممكن هو ذلك النضال “الذي يقومون به في الواقع في الظرف الراهن” (“الملحق الخاص لـ”رابوتشايا ميسل””(40)، ص 14). أما نحن، الاشتراكيين-الديموقراطيين الثوريين، فنحن، على العكس، غير راضين عن هذا السجود أمام العفوية، أي أمام ما هو كائن “في الظرف الراهن”؛ نحن نطلب تغيير التكتيك الذي ساد في السنوات الأخيرة، ونحن نعلن: “قبل أن نتحد ولكيما نتحد ينبغي في البدء أن نعين بيننا التخوم بحزم ووضوح” (من إعلان عن إصدار “الإيسكرا”). وبكلمة، يتمسك الألمان بوضع الأمور الراهن ويرفضون التغييرات، ونحن نطلب تغيير وضع الأمور الراهن، رافضين السجود أمام الوضع الراهن والتسليم به. إن هذا الفرق “الصغير” هو الأمر الذي لم يلاحظه نساخو القرارات الألمانية “الأحرار”عندنا!

د) إنجلس وأهمية النضال النظري “الجمود العقائدي، الجمود المذهبي”، “تحجر الحزب – العقاب المحتوم لتقييد الفكر بالعنف”- هؤلاء هم الأعداء الذين ينقض عليهم كالفرسان أنصار “حرية النقد” في “رابوتشييه ديلو”. ويسرنا نحن أن تطرح هذه المسألة على بساط البحث، وكل ما نقترحه هو أن نتممها بسؤال آخر: من هم الحكام؟ أمامنا إعلانان عن صدور مطبوعات. أحدهما “برنامج صحيفة “رابوتشييه ديلو”، لسان حال اتحاد الاشتراكيين الديموقراطيين الروس” (نسخة من العدد الأول من “رابوتشييه ديلو”). والثاني هو “إعلان عن إستئناف إصدار مطبوعات فرقة “تحرير العمل””(41). وكلاهما يحمل تاريخ سنة 1899، أي حين كانت “أزمة الماركسية” قد طرحت على بساط البحث منذ زمان بعيد. وماذا نرى؟ في النشرة الأولى، نجهد أنفسنا عبثا في البحث عن إشارة إلى هذه الظاهرة وعن عرض واضح للموقف الذي تنوي أن تتخذه الصحيفة الجديدة من هذه المسألة. ولا نجد كلمة عن العمل النظري ومهامه الملحة في الظرف الراهن لا في هذا البرنامج ولا في ملاحقه التي أقرها المؤتمر الثالث لـ”ـلإتحاد” في سنة 1901(42) (“مؤتمران: ص ص 15-18). لقد تجنبت هيأة تحرير “رابوتشييه ديلو” المسائل النظرية طيلة هذا الوقت، مع أن هذه المسائل قد استرعت اهتمام جميع الاشتراكيين-الديموقراطيين في العالم بأسره. أما الإعلان الثاني فعلى العكس من ذلك: إنه يشير في البدء إلى ضعف الإهتمام بالناحية النظرية خلال السنوات الأخيرة ويطلب بإلحاح “انتباها يقظا حيال الناحية النظرية في الحركة البروليتارية الثورية” ويدعو إلى “توجيه نقد لا هوادة فيه إلى الميول البرنشتينية وغيرها من الميول المعادية للثورة” في حركتنا. والأعداد التي صدرت من “زاريا” توضح كيف نُفذ هذا البرنامج. وهكذا نرى أن العبارات الطنانة عن تحجر الفكر، وما إلى ذلك، تخفي وراءها عدم الإهتمام بتطوير الفكر النظري والعجز عن تطويره. وما مثال الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس إلا دليل جلي على ظاهرة أوروبية عامة (أشار إليها الماركسيون الألمان أيضا منذ أمد بعيد) وهي أن حرية النقد الذائعة الصيت لا تعني استبدال نظرية بأخرى، بل تعني التحرر من كل نظرية متكاملة ووليدة التفكير، تعني المذهب الإختياري وانعدام المبادئ. ولا بد لكل مطلع على وضع حركتنا الواقعي، وإن جزئيا، من أن يلاحظ أن انتشار الماركسية الواسع قد رافقه بعض الإنحطاط في المستوى النظري. فبسبب النجاحات العملية التي أحرزتها الحركة وبسبب أهميتها العملية، انضم إليها كثيرون ضعيفون جدا أو صفر من حيث الإعداد النظري. ولذلك يمكننا أن نتبين مبلغ ما تظهر “رابوتشييه ديلو” من قلة ذوق عندما تستشهد، على غرار المنتصرين، بعبارة ماركس: “إن كل خطوة تخطوها الحركة العملية أهم من دستة من البرامج”(43). إن تكرار هذه الكلمات في مرحلة الإضطراب النظري يشبه صراخ من يصرخ: “إن شاء الله دايمه!” عند رؤية جنازة. أضف إلى ذلك أن كلمات ماركس هذه مأخوذة من رسالته بصدد برنامج غوتا(44) حيث يندد بشدة بالمذهب الإختياري في صياغة المبادئ. فقد كتب ماركس إلى زعماء الحزب: إذا كانت هنالك من حاجة إلى الإتحاد، فاعقدوا معاهدات بغية بلوغ أهداف عملية تقتضيها الحركة، ولكن إياكم والمساومة بالمبادئ، إياكم و”التنازل” النظري. هذه هي فكرة ماركس. وها نحن نجد بيننا أناسا يستغلون اسمه للتقليل من أهمية النظرية! لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية. إننا لا نبالغ مهما شددنا على هذه الفكرة في مرحلة يسير فيها التبشير الشائع بالإنتهازية جنبا إلى جنب مع الميل إلى أشكال النشاط العملي الضيقة جدا. وتزداد أهمية النظرية بالنسبة للإشتراكية-الديموقراطية الروسية لثلاثة أسباب كثيرا ما ينسونها، هي: أولا، أن حزبنا ما يزال في دور التكوين، ما يزال في دور تشكيل سيماء وجهه وهو ما يزال بعيدا عن أن يصفي الحساب مع اتجاهات الفكر الثوري الأخرى التي تهدد بإخراج الحركة عن الطريق القويم. ففي الآونة الأخيرة، على وجه الضبط، نشاهد، بالعكس، انتعاش الإتجاهات الثورية غير الاشتراكية-الديموقراطية (كما تنبأ اكسلرود بذلك “للإقتصاديين” منذ أمد بعيد). وفي هذه الظروف يمكن لخطأ يبدو لأول وهلة “غير ذي شأن” أن يسفر عن أوخم العواقب، وينبغي للمرء أن يكون قصير النظر حتى يعتبر الجدال بين الفِرَق والتحديد الدقيق للفروق الصغيرة أمرا في غير أوانه أو لا داعي له. فعلى توطد هذا “الفرق الصغير” أو ذلك قد يتوقف مستقبل الاشتراكية-الديموقراطية الروسية لسنوات طويلة، طويلة جدا. ثانيا، إن الحركة الاشتراكية-الديموقراطية هي حركة أممية في جوهرها. وذلك لا يعني فقط أنه يتعين علينا أن نناضل ضد الشوفينية في بلادنا. بل ذلك يعني أيضا أن الحركة المبتدئة في بلاد فتية لا يمكن أن تكون ناجحة إلا إذا استوعبت تجربة البلدان الأخرى. ولبلوغ ذلك لا يكفي مجرد الإطلاع على هذه التجربة أو مجرد نسخ القرارات الأخيرة. إنما يتطلب هذا من المرء أن يمحص هذه التجربة وأن يتحقق منها بنفسه. وكل من يستطيع أن يتصور مبلغ اتساع وتشعب حركة العمال المعاصرة، يفهم مبلغ ما يتطلبه القيام بهذه المهمة من احتياطي من القوى النظرية والتجربة السياسية (والثورية أيضا). ثالثا، لم يسبق أن طرحت أمام أي حزب اشتراكي في العالم مهام كالمهام الوطنية المطروحة أمام الاشتراكية-الديموقراطية الروسية. وسنتناول فيما يأتي من البحث الواجبات السياسية والتنظيمية التي تلقيها على عاتقنا مهمة تحرير الشعب كله من نير الحكم المطلق. وبودنا فقط أن نشير هنا إلى أنه لا يستطيع القيام بدور مناضل الطليعة إلا حزب يسترشد بنظرية الطليعة. وإذا شاء القارئ أن يكون لنفسه فكرة واضحة لحد ما عن معنى ذلك، فليتذكر أسلاف الاشتراكية-الديموقراطية الروسية من أمثال هرتسين وبيلينسكي وتشيرنيشيفسكي والكوكبة الرائعة من ثوريي العقد الثامن، فليفكر بالأهمية العالمية التي يكتسبها الأدب الروسي في الوقت الراهن، فليفكر… ولكن ذلك يكفي! ولنورد هنا ملاحظات كتبها إنجلس سنة 1874 عن أهمية النظرية في الحركة الاشتراكية-الديموقراطية. إن إنجلس لا يعترف بشكلين اثنين في نضال الاشتراكية-الديموقراطية العظيم (سياسي واقتصادي) – كما جرت العادة عندنا- بل يعترف بثلاثة أشكال واضعا في مصاف الشكلين المذكورين النضال النظري. وما توصيته لحركة العمال الألمانية التي كانت قد توطدت عمليا وسياسيا، إلا بليغة العبرة من وجهة نظر المشاكل والمناقشات الراهنة بحيث نحسب أن القارئ لن يلومنا إذا ذكرنا مقطعا طويلا من مقدمة لكراس “Der deutsche Bauernkrieg” الذي غدا منذ وقت طويل من الكتب النادرة جدا: “يمتاز العمال الألمان عن عمال بقية أوروبا، بميزتين هامتين. الأولى انتماؤهم إلى أعرق شعب أوروبي في النظرية واحتفاظهم بالملكة النظرية التي فقدتها تماما، أو كادت، الطبقات المدعوة “بالمثقفة” في ألمانيا. فالاشتراكية العلمية الألمانية وهي الاشتراكية العلمية الوحيدة التي وجدت حتى الآن، ما كانت لتوجد قط لولا الفلسفة الألمانية التي سبقتها، وبوجه خاص فلسفة هيغل. ولولا الملكة النظرية لدى العمال لما تغلغلت الاشتراكية العلمية في دمائهم إلى هذا الحد الذي نراه الآن. ويبين لنا مبلغ عظمة هذه المزية، من جهة، عدم الإكتراث بأي نظرية، الذي هو سبب من الأسباب الرئيسية التي تجعل حركة العمال الإنكليزية تتقدم بهذا البطء بالرغم من التنظيم الرائع في بعض الحرف؛ ويبين لنا ذلك، من جهة أخرى، ما نراه من اضطراب وتردد بذرتهما البرودونية(45) في شكلها البدائي بين الفرنسيين والبلجيكيين، وبشكلها الكاريكاتوري الذي أعطاها إياه باكونين بين الإسبانيين والإيطاليين. والمزية الثانية هي كون الألمان قد اشتركوا في حركة العمال بعد الجميع تقريبا. وكما أن الاشتراكية الألمانية النظرية لن تنسى أبدا أنها تستند إلى سان سيمون وفوريه وأوين – المفكرين الثلاثة الذين يقفون، بالرغم من كل الطابع الخيالي الطوبوي في تعاليمهم في مصاف أعظم الأدمغة التي عرفتها جميع الأزمنة، والذين كانوا السابقين بصورة عبقرية إلى كثرة كبيرة من الحقائق التي نبرهن نحن اليوم على صحتها عمليا، كذلك ينبغي لحركة العمال الألمانية العملية أن لا تنسى أبدا أنها تطورت استنادا إلى الحركتين الإنكليزية والفرنسية وأنه أتيح لها بكل بساطة أن تستفيد مما اكتسبتاه من تجربة كلفتهما غاليا، وأن تتلافى الآن الأخطاء التي كانت آنئذ أمرا لا مفر منه في معظم الحالات. فأي وضع كنا فيه الآن لولا نموذج التريديونيونات الإنكليزية ونضال العمال الفرنسيين السياسي، ولولا الاندفاع العظيم الذي سببته كومونة باريس بوجه خاص؟ لا بد لنا من أن نعترف للعمال الألمان بأنهم استفادوا بمهارة فائقة من مزايا وضعهم. فلأول مرة منذ وجدت حركة العمال يجري النضال بصورة منتظمة في جميع اتجاهاته الثلاثة المنسجمة والمترابطة: الاتجاه النظري والاتجاه السياسي والاتجاه الاقتصادي العملي (مقاومة الرأسماليين). وفي هذا الهجوم المركز، إن أمكن القول، تكمن قوة الحركة الألمانية ومنعتها. بفضل هذا الوضع المفيد، من جهة، وبفضل خصائص الحركة الإنكليزية، التي تنجم من كونها تتطور في ظروف الجزيرة، وقمع الحركة الفرنسية بالقوة، من جهة أخرى، يقف العمال الألمان الآن في طليعة النضال البروليتاري. حَتَّامَ تسمح لهم الأحداث بملء هذا المركز المشرف؟ هذا ما لا يمكن التنبؤ به. ولكن ينبغي لنا أن نأمل بأنهم ما داموا يشغلون هذا المركز، سيقومون كما يجب بالمهام التي يفرضها عليهم. وهذا يقتضي مضاعفة الجهود المبذولة في جميع ميادين النضال والتحريض. وسيكون واجب القادة على وجه الخصوص أن يثقفوا أنفسهم أكثر فأكثر في جميع المسائل النظرية وأن يتخلصوا أكثر فأكثر من تأثير العبارات التقليدية المستعارة من العقيدة القديمة وأن يأخذوا دائما بعين الاعتبار أن الاشتراكية، مذ غدت علما، تتطلب أن تُعامل كما يُعامل العلم، أي تتطلب أن تدرس. والوعي الذي يكتسب بهذا الشكل ويزداد وضوحا، ينبغي أن ينشر بين جماهير العمال بهمة مضاعفة أبدا، كما ينبغي أن يزداد على الدوام تماسك صفوف منظمة الحزب ومنظمة النقابات… … وإذا استمر العمال الألمان في التقدم بهذا الشكل، فإنهم – لا أريد أن أقول أنهم سيسيرون في طليعة الحركة، فليس من مصلحة الحركة على الإطلاق أن يسير عمال أمة ما، دون سائر الأمم، في طليعتها- بل أريد أن أقول أنهم سيشغلون مركزا مشرفا في صفوف المناضلين وسيجدون أنفسهم على أتم الأهبة إذا ما ظهرت على حين غرة محن قاسية أو حوادث عظمى تتطلب منهم مزيدا من الشجاعة والحزم والهمة”. لقد ظهرت كلمات إنجلس وكأنها نبوءة. فبعد مضي بضع سنوات واجهت العمال الألمان على حين غرة محن قاسية هي القانون الإستثنائي ضد الاشتراكيين. وقد استقبلها العمال الألمان فعلا وهم على أتم الأهبة وخرجوا منها ظافرين. وستواجه البروليتاريا الروسية محنا أفظع بما لا يقاس؛ ففي انتظارها صراع مع وحش ليس القانون الإستثنائي في بلاد دستورية بالنسبة إليه أكثر من قزم. إن التاريخ يلقي على عاتقنا الآن مهمة مباشرة هي أكثر ثورية من جميع المهمات المباشرة الموضوعة أمام البروليتاريا في أي قطر آخر. وإن إنجاز هذه المهمة، أي تحطيم أقوى حصن للرجعية الأوروبية بل (وهو شيء نستطيع قوله الآن) للرجعية الآسيوية أيضا، سيجعل من البروليتاريا الروسية طليعة البروليتاريا الثورية العالمية. ويحق لنا أن نأمل بالحصول على هذا اللقب المشرف الذي اكتسبه عن جدارة أسلافنا ثوريو العقد الثامن، وذلك إذا استطعنا أن نبث في حركتنا، وهي أوسع وأعمق بألف مرة، مثلما بثوا من تصميم ومن همة لا يعرفان حدودا.

II-عفوية الجماهير ووعي الاشتراكية-الديموقراطية

لقد قلنا أن حركتنا أوسع وأعمق بكثير من حركة العقد الثامن، وأن من الضروري أن نبث فيها ما اتصفت به الحركة في ذلك الحين من تصميم ومن همة لا يعرفان حدودا. والواقع أنه لم يشك أحد حتى الآن، كما يبدو، في أن قوة الحركة المعاصرة تكمن في استيقاظ الجماهير (وبصورة رئيسية البروليتاريا الصناعية) وفي أن ضعفها يكمن في عدم كفاية وعي ومبادرة القادة الثوريين. بيد أنه قد ظهر في الآونة الأخيرة اكتشاف خارق يهدد بأن يقلب رأسا على عقب جميع النظرات السائدة حتى الآن بصدد هذه المسألة. وهذا الاكتشاف يعود فضله إلى “رابوتشييه ديلو”، التي لم تقتصر في جدالها مع “الإيسكرا” و”زاريا” على اعتراضات حول الجزئيات، بل حاولت أن تحصر “الخلاف العام” في جذر أعمق، في “الإختلاف في تقدير الأهمية النسبية للعنصر العفوي وللعنصر “المنهاجي الواعي”. وتصوغ “رابوتشييه ديلو” الإتهام كما يلي:”التقليل من أهمية العنصر الموضوعي أو العفوي في التطور”•. ونحن نجيب على ذلك: إذا كان جدال “الإيسكرا” و”زاريا” لم يعط البتة أية نتيجة غير حفز “رابوتشييه ديلو” إلى أن تذهب بتفكيرها إلى هذا “الخلاف العام”، فإن هذه النتيجة وحدها ترضينا كل الرضى ما دامت هذه الموضوعة عميقة في دلالتها، ما دامت تظهر بهذا الوضوح كل جوهر الخلافات النظرية والسياسية الحالية بين الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس. ولذا تسترعي مسألة العلاقة بين الوعي والعفوية هذا الاهتمام الكبير العام، وينبغي تناول هذه المسألة بكل تفصيل.

أ) بدء النهوض العفوي

أشرنا في الفصل السابق إلى ولوع الشبيبة الروسية المتعلمة العام في منتصف العقد العاشر بالنظرية الماركسية. وفي ذلك الحين نفسه تقريبا، اتخذت إضرابات العمال مثل هذا الطابع العام بعد الحرب الصناعية المشهورة سنة 1896 ببطرسبورغ(46). وكان انتشار هذه الإضرابات في روسيا من أقصاها إلى أقصاها دليلا جليا على مبلغ عمق الحركة الشعبية الناهضة من جديد. وإذا ما أردنا الحديث عن “العنصر العفوي” فلا بد طبعا من الإعتراف بأن هذه الحركة الإضرابية كانت عفوية بالدرجة الأولى. ولكن هناك عفوية وعفوية. فقد حدثت إضرابات في روسيا كذلك في العقد الثامن وفي العقد السابع (وحتى في النصف الأول من القرن التاسع عشر) ورافقها تحطيم “عفوي” للماكينات وغير ذلك. وإذا قورنت إضرابات العقد العاشر بهذه “المشاغبات”، أمكن وصفها بـ”الوعي” لعظم الخطوة التي خطتها حركة العمال إلى الأمام في هذه الفترة. وهذا ما يوضح لنا أن “العنصر العفوي” ليس في الجوهر غير الشكل الجنيني للوعي. فالمشاغبات البدائية كانت تفصح منذ ذلك الحين عن نوع من استيقاظ الوعي: كان العمال يفقدون إيمانهم القديم بثبات الأوضاع التي ترهقهم وأخذوا… يحسون – ولا أقول يفهمون- ضرورة المقاومة الجماعية ويكفون بحزم عن الخنوع الذليل لأصحاب الأمر والنهي. ولكن ذلك كان على كل حال مظهرا أشبه باليأس والإنتقام منه بالنضال. أما إضرابات العقد العاشر فترينا من ومضات الوعي أكثر بكثير: فقد وضعت مطالب معينة وحسبت مسبقا اللحظة المناسبة وبحثت حوادث وأمثلة معروفة من المناطق الأخرى الخ.. ولئن كانت المشاغبات مجرد إنتفاضات أناس مظلومين، فإن الإضرابات المتوالية كانت مظهرا من مظاهر النضال الطبقي بشكله الجنيني، ولكن بشكله الجنيني لا أكثر ولا أقل. وإذا أخذنا هذه الإضرابات بحد ذاتها، وجدنا أنها كانت نضالا تريديونيونيا، ولم تصبح بعد نضالا إشتراكيا-ديموقراطيا. لقد أفصحت عن بروز التناحر بين العمال وأصحاب الأعمال، ولكن العمال لم يعوا ولم يكن من الممكن أن يعوا التضاد المستعصي بين مصالحهم وبين كل النظام السياسي والإجتماعي القائم، أي أنهم لم يحصلوا على الوعي الإشتراكي-الديموقراطي. وبهذا المعنى ظلت إضرابات العقد العاشر حركة عفوية محضا بالرغم من التقدم الكبير الذي تم بالقياس إلى “المشاغبات”. قلنا أن الوعي الإشتراكي-الديموقراطي لم يكن في الإمكان أن يوجد آنئذ لدى العمال، إذ أنه لا يمكن للعمال أن يحصلوا على هذا الوعي إلا من خارج نطاقهم. ولنا في تاريخ جميع البلدان شاهد على أن الطبقة العاملة لا تستطيع أن تكتسب بقواها الخاصة فقط غير الوعي التريديونيوني، أي الاقتناع بضرورة الانتظام في نقابات والنضال ضد أصحاب الأعمال ومطالبة الحكومة بإصدار هذه أو تلك من القوانين الضرورية للعمال، الخ.. أما التعاليم الاشتراكية، فقد انبثقت عن النظريات الفلسفية والتاريخية والاقتصادية التي وضعها المتعلمون من ممثلي الطبقات المالكة، وضعها المثقفون. إن مؤسسي الاشتراكية العلمية المعاصرة، ماركس وإنجلس، ينتسبان أيضا من حيث وضعهما الاجتماعي إلى المثقفين البرجوازيين. وكذلك الأمر في روسيا، فقد انبثق مذهب الاشتراكية-الديموقراطية النظري بصورة مستقلة تماما عن النهوض العفوي لحركة العمال، انبثق بوصفه نتيجة طبيعية محتومة لتطور الفكر لدى المثقفين الاشتراكيين الثوريين. وفي الحقبة التي نتحدث عنها، أي بحلول منتصف العقد العاشر، كان هذا المذهب قد جذب إليه أكثرية الشبيبة الثورية في روسيا فضلا عن أنه قد غدا برنامجا كامل التكوين لفرقة “تحرير العمل”. وهكذا كانت توجد في وقت واحد يقظة عفوية لجماهير العمال، يقظة إلى الحياة الواعية وإلى النضال الواعي، وشبيبة ثورية مسلحة بالنظرية الاشتراكية-الديموقراطية كانت تتحرق رغبة في التقرب من العمال. هذا ومن الهام جدا أن نثبت هنا واقعا، كثيرا ما ينسى (ولا يعرفه إلا القليل نسبيا)، وهو أن الرعيل الأول من الاشتراكيين-الديموقراطيين الذين انصرفوا بحمية في تلك المرحلة إلى التحريض الإقتصادي (آخذين بعين الإعتبار الملاحظات المفيدة حقا والواردة في كراس “في التحريض” الذي كان لا يزال مخطوطة آنئذ)، لم يعتبروه مهمتهم الوحيدة، بل لقد وضعوا أمام الاشتراكية-الديموقراطية الروسية منذ البدء أوسع المهام التاريخية بوجه عام ومهمة إسقاط الحكم المطلق بوجه خاص. ونقول على سبيل المثال أن جماعة الاشتراكيين-الديموقراطيين التي أسست في بطرسبورغ “إتحاد النضال من أجل تحرير الطبقة العاملة”(47) قد أعدت منذ أواخر عام 1895 العدد الأول من جريدة اسمها “رابوتشييه ديلو”. وكان هذا العدد جاهزا تماما للطبع عندما صادره الدرك أثناء غارة شنها في ليلة 8 إلى 9 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1895 من عند أحد أعضاء الجماعة، وهو أناتولي الكسييفيتش فانييف. ولم تستطع “رابوتشييه ديلو” في شكلها الأول أن ترى النور. وقد رسمت افتتاحية هذه الجريدة (التي يحتمل أن تنتشلها من محفوظات مديرية الشرطة بعد حوالي ثلاثين سنة مجلة كمجلة “روسكايا ستارينا”(48)) المهام التاريخية التي تواجه الطبقة العاملة في روسيا ووضعت على رأس هذه المهام اكتساب الحرية السياسية. ويأتي بعد هذه الافتتاحية مقال: “بِمَ يفكر وزراؤنا؟”، وقد تناول تحطيم الشرطة للجان مكافحة الأمية، ومجموعة من الرسائل لا من بطرسبورغ وحدها، بل أيضا من مناطق أخرى في روسيا (مثلا عن مذبحة العمال في محافظة ياروسلافل(49)). وهكذا فإن هذه “التجربة الأولى” – إذا لم أخطئ – للإشتراكيين-الديموقراطيين الروس في العقد العاشر كانت عبارة عن جريدة ليس طابعها محليا ضيقا، وبالأحرى ليس “باقتصادي”، وقد سعت وراء ربط النضال الإضرابي بالحركة الثورية ضد الحكم المطلق وإلى استنهاض كل من يعاني نير سياسة الظلامية الرجعية إلى تأييد الاشتراكية-الديموقراطية. وليس من مجال للشك لدى كل مطلع على حالة الحركة في ذلك العهد ولو بعض الإطلاع، في أنه كان ينتظر هذه الجريدة انتشار واسع جدا وتأييد تام لدى عمال العاصمة والمثقفين الثوريين. أما إخفاق القضية، فإن برهن على شيء، فقد برهن على أن الاشتراكيين-الديموقراطيين في ذلك العهد كانوا عاجزين عن الإستجابة لمطلب الساعة، بسبب قلة تجربتهم الثورية ونقص استعدادهم العملي. والشيء نفسه ينبغي أن يقال عن “سانت بطرسبورغسكي رابوتشي ليستوك”(50) وبوجه خاص عن “رابوتشايا غازيتا” وعن “بيان” حزب العمال الإشتراكي-الديموقراطي في روسيا(51) الذي تأسس في ربيع 1898. وغني عن القول أنه حتى لا يخطر ببالنا أن نلوم مناضلي ذلك العهد على عدم الإستعداد هذا. ولكن، لكيما نستفيد من تجربة الحركة ولكيما نستخلص من هذه التجربة الدروس العملية، ينبغي لنا أن نفهم كل الفهم أسباب هذه النقيصة أو تلك ومغزاها. ولذا من الأهمية بمكان أن نثبت أن قسما (وربما الأكثرية) من الاشتراكيين-الديموقراطيين المناضلين في سنوات 1895-1898 كانوا يعتبرون، وهم في ذلك على حق، أن من الممكن آنئذ، في مستهل الحركة “العفوية” بالذات، التقدم بأوسع برنامج وأحدّ تكتيك للنضال. ولما كان عدم استعداد أكثرية الثوريين ظاهرة طبيعية تماما، لم يمكن لهذا الأمر أن يستدعي أي خشية جدية. وبما أن تعيين المهام كان صحيحا، وبما أنه قد وجدت الهمة لتكرار المحاولات بهدف تحقيق هذه المهام، فإن الإخفاقات المؤقتة لم تكن أكثر من نصف مصيبة. فالتجربة الثورية والمهارة التنظيمية أمران يكتسبان اكتسابا، والمهم أن يرغب المرء في تربية نفسه على الصفات المطلوبة! والمهم أن يعي المرء النواقص، وهو ما يعادل في العمل الثوري أكثر من نصف إصلاح الخطأ! ولكن نصف المصيبة غدا مصيبة كاملة عندما أخذ هذا الوعي يخبو (وقد كان هذا الوعي قويا جدا لدى العاملين في صفوف الجماعات المذكورة أعلاه)، وعندما ظهر أناس – وحتى صحف إشتراكية-ديموقراطية – مستعدون لأن يجعلوا من النقيصة فضيلة وحاولوا حتى أن يبرروا نظريا خضوعهم الذليل أمام العفوية وتقديسهم لها. وقد آن لنا أن نلخص نتائج هذا الإتجاه الذي يُحَدد، بابتعاد كبير عن الدقة، بتعبير “الإقتصادية” الذي هو أضيق من أن يعبر عن محتوى هذا الإتجاه.

ب) تقديس العفوية. “رابوتشايا ميسل”

قبل أن ننتقل إلى مظاهر هذا التقديس في المطبوعات نذكر الواقع التالي البليغ في دلالته (وقد بلغنا من المصدر المذكور أعلاه) والذي يلقي بعض الضوء مبينا كيف ولد ونما بين الرفاق العاملين في بطرسبورغ الخلاف بين الإتجاهين اللذين ظهرا فيما بعد في الاشتراكية-الديموقراطية الروسية. في أوائل سنة 1897 أتيح لفانييف ولبعض رفاقه أن يشتركوا، قبل إرسالهم إلى المنفى، في اجتماع خاص(52) التقى فيه “الشيوخ” و”الشباب” من أعضاء “إتحاد النضال من أجل تحرير الطبقة العاملة”. وقد دار الحديث بصورة رئيسية حول التنظيم وبوجه خاص حول “النظام الداخلي لصندوق العمال”، النظام الذي نشر بصيغته النهائية في العدد 9-10 من ليستوك “رابوتنيكا”(53) (ص46). وقد ظهر على الفور خلاف كبير واحتدم الجدل بين “الشيوخ” (“الديسمبريين” كما كان يلقبهم آنذاك الإشتراكيون-الديموقراطيون في بطرسبورغ مازحين) وبين بعض “الشباب” (الذين تعاونوا فيما بعد بنشاط مع “رابوتشايا ميسل”). وقد دافع “الشباب” عن الأسس الرئيسية للنظام الداخلي بصيغته المنشورة. وقال “الشيوخ”: ليس هذا ما نحتاج إليه قبل كل شيء، إنما نحتاج إلى توطيد “إتحاد النضال” لكيما يصبح منظمة ثوريين تخضع لها مختلف صناديق العمال وحلقات الدعاية بين الشباب-الطلبة، الخ.. وغني عن القول أنه لم يخطر ببال المتجادلين أن يروا في هذا الخلاف فاتحة الإفتراق، بل اعتبروه على العكس شيئا منعزلا وطارئا. ولكن هذا الواقع يبين أن نشوء “الإقتصادية” وانتشارها لم يحدثا في روسيا كذلك بدون نضال ضد الاشتراكيين-الديموقراطيين “الشيوخ” (الأمر الذي كثيرا ما ينساه “الإقتصاديون” الحاليون). وإذا كان هذا النضال لم يترك في أكثر الحالات آثارا “وثائقية”، فالسبب الوحيد في ذلك أن تركيب الحلقات العاملة كان يتغير بسرعة كبيرة جدا وأنه لم تتكون أية استمرارية، فلم تسجل بالتالي اختلافات وجهات النظر في أية وثيقة. إن ظهور “رابوتشايا ميسل” قد أخرج “الإقتصادية” إلى وضح النهار، ولكن ليس دفعة واحدة أيضا. ينبغي للمرء أن يكوّن فكرة واضحة عن ظروف عمل العديد من الحلقات الروسية وقصر آجالها (ولا يستطيع ذلك إلا الذي جرب الأمر بنفسه) لكيما يفهم مدى الصدفة في نجاح أو إخفاق الإتجاه الجديد في مختلف المدن، وكيف أن أنصار هذا “الجديد” وخصومه على السواء، كانوا عاجزين مدة طويلة، عاجزين تماما عن تحديد ما إذا كان هذا إتجاهاً أصيلا حقا، أو أنه مجرد تعبير عن النقص في استعداد بعض الأشخاص. ونقول على سبيل المثال أن الاشتراكيين-الديموقراطيين بأكثريتهم الكبرى حتى لم يعرفوا شيئا على الإطلاق عن الأعداد الأولى من “رابوتشايا ميسل” المطبوعة على الرونيو؛ وإذا كنا نستطيع الآن أن نستشهد بافتتاحية عددها الأول، فما ذلك إلا بفضل إعادة نشرها في مقالة ف. إ. (54) (“ليستوك “رابوتنيكا” العدد 9-10، ص 47 وما يليها) الذي لم يلبث طبعا أن كال المديح بإفراط – بإفراط تجاوز المعقول – للجريدة الجديدة التي تختلف اختلافا بينا عن الجرائد ومشاريع الجرائد التي ذكرناها أعلاه•. وخليق بنا أن نقف وقفة عند هذه الإفتتاحية ما دامت قد أفصحت بمثل هذا الوضوح عن كامل روح “رابوتشايا ميسل” و”الإقتصادية” بوجه عام. بعد أن قالت الإفتتاحية أن ساعد صاحب الكم الأزرق(55) أعجز من أن يوقف تطور حركة العمال تستطرد قائلة: “… إن حركة العمال مدينة بمثل هذه الحيوية لكون العامل نفسه قد أخذ في النهاية مصيره على عاتقه بعد أن انتزعه من أيدي القادة”؛ ومن ثم تعالج هذه الفكرة الأساسية من جميع الوجوه. والواقع أن القادة (أي الاشتراكيين-الديموقراطيين منظمي “إتحاد النضال”) قد انتزعتهم الشرطة، كما يمكن القول، من أيدي العمال؛ هذا بينما توضع القضية بشكل يبدو منه أن العمال قد ناضلوا ضد هؤلاء القادة وتحرروا من نيرهم! وبدلا من النداء للسير إلى أمام، إلى توطيد التنظيم الثوري، وتوسيع النشاط السياسي، ارتفعت الدعوة للإرتداد إلى الوراء، إلى النضال التريديونيوني وحده. وأُعلن أن ” الأساس الإقتصادي للحركة يحجبه النزوع إلى عدم نسيان المثل الأعلى السياسي على الإطلاق”، وأن شعار حركة العمال هو “النضال من أجل الحالة الاقتصادية” (!) أو، وهو الأحسن، “العمال للعمال”؛ وأُعلن أن صناديق الإضرابات هي “أهم بالنسبة للحركة من مئة منظمة أخرى” (قارنوا هذا القول العائد لتشرين الأول (أكتوبر) سنة 1897 بجدال “الديسمبريين” و”الشباب” في أوائل سنة 1897) الخ.. ثم إن صيغاَ من نوع: ينبغي أن نضع في المقام الأول لا “نخبة” العمال، بل العامل “المتوسط”، العامل العادي أو من نوع: “السياسة تسير دائما بطواعية خلف الإقتصاد” الخ..، الخ.، قد غدت على الموضة وأصبح لها تأثير لا يقهر في الشبيبة التي انجرت إلى الحركة والتي لا تعرف من الماركسية في أكثر الحالات غير فقرات في صياغتها العلنية. وقد كان هذا تحطيما تاما للوعي من قبل العفوية، من قبل عفوية أولئك “الاشتراكيين-الديموقراطيين” الذين كرروا “أفكار” السيد ف.ف.، من قبل عفوية أولئك العمال الذين أغرتهم الحجة القائلة بأن زيادة كوبيك على روبل أغلى وأعز من كل اشتراكية وكل سياسة وأنه ينبغي لهم أن يقوموا “بالنضال مدركين أنهم إنما يناضلون لا من أجل أجيال مقبلة ما، بل من أجل أنفسهم ومن أجل أولادهم” (افتتاحية العدد 1 من “رابوتشايا ميسل”). إن أمثال هذه العبارات قد كانت على الدوام السلاح المحبب للبرجوازيين في أوروبا الغربية الذين – من كرههم للإشتراكية – انصرفوا بأنفسهم (على غرار “الاشتراكي-السياسي” الألماني غيرش) إلى غرس التريديونيونية الإنكليزية في تربتهم الوطنية قائلين للعمال أن النضال النقابي فقط هو نضال لأنفسهم ولأولادهم، لا لأجيال مقبلة ما مع اشتراكية مقبلة ما. وها نحن نرى السادة أضراب “ف.ف. رجل الاشتراكية-الديموقراطية الروسية” يكررون الآن هذه العبارات البرجوازية. ومن الهام أن نشير هنا إلى ثلاثة أمور ستفيدنا جدا في تحليلنا اللاحق للخلافات الراهنة. أولا، إن ما تحدثنا عنه بصدد تحطيم الوعي من قبل العفوية قد حدث كذلك بشكل عفوي. ويبدو ذلك من قبيل التلاعب بالألفاظ، ولكنه – ويا للأسف! – الحقيقة المرة. إنه لم يجر عن طريق نضال سافر بين مفهومين متعارضين كل التعارض وانتصار أحدهما على الآخر. بل عن طريق “انتزاع” الدرك للثوريين “الشيوخ” بعدد يتزايد باستمرار وعن طريق بروز عدد يتزايد باستمرار من “الشباب” أضراب “ف.ف. رجل الاشتراكية-الديموقراطية الروسية”. إن كل من اشتم هواء الحركة الروسية المعاصرة، ولا أقول اشترك فيها، يعلم خير العلم أن الأمر كان كذلك على وجه الضبط. وإذا كنا نلح مع ذلك إلحاحا خاصا على أن يدرك القارئ إدراكا تاما هذا الواقع المعروف من الجميع، وإذا كنا، قصد الإيضاح، إن جاز القول، نورد معطيات عن “رابوتشييه ديلو” في طورها الأول وعن الجدال الذي قام بين “الشيوخ” و”الشباب” في أوائل سنة 1897 – فما ذلك إلا لوجود أناس يتبجحون بـ”ديموقراطيتـ”هم مستغلين جهل الجمهور الواسع (أو الشباب الحديثي السن) لهذه الحقيقة. ولنا عودة إلى ذلك. ثانيا، يمكننا، مذ ظهرت “الإقتصادية” لأول مرة في المطبوعات، أن نلاحظ ظاهرة فريدة وبليغة في دلالتها من حيث فهم جميع الخلافات القائمة بين الاشتراكيين-الديموقراطيين في الوقت الحاضر، وهي أن أنصار “الحركة العمالية الصرف”، أنصار أوثق الارتباط “العضوي” (تعبير “رابوتشييه ديلو”) بالنضال البروليتاري، خصوم جميع المثقفين غير العمال (حتى ولو كانوا مثقفين اشتراكيين) يضطرون في الدفاع عن مواقفهم إلى الإلتجاء إلى حجج “التريديونيونيين – فقط” البرجوازيين. وهذا ما يبين لنا أن “رابوتشايا ميسل” قد أخذت منذ ظهورها تطبق – عن غير وعي- برنامج “Credo” (“الكريدو”). كما يبين هذا (وهو ما لا تستطيع “رابوتشييه ديلو” أن تفهمه) أن كل تقديس لعفوية حركة العمال، كل انتقاص من دور “عنصر الوعي”، دور الاشتراكية-الديموقراطية، يعني – سواء أراد المنتقص أم لم يرد، فليس لذلك أقل أهمية- تقوية نفوذ الإيديولوجية البرجوازية في العمال. إن كل من يتحدث عن “تقدير أهمية الإيديولوجية بأكثر مما تستحق”، عن المغالاة في دور عنصر الوعي• الخ.، يتصور أن الحركة العمالية الصرف تستطيع بحد ذاتها أن تصنع لنفسها وأنها ستصنع لنفسها بالتأكيد إيديولوجية مستقلة، وأن ذلك لا يتطلب غير قيام العمال “بانتزاع مصيرهم من أيدي القادة”. ولكن هذا خطأ فاحش. وبالإضافة إلى ما قلناه آنفا، نثبت هنا كلمات ك. كاوتسكي التالية الهامة والعميقة في صدقها، هذه الكلمات التي قالها بصدد مشروع البرنامج الجديد للحزب الاشتراكي-الديموقراطي النمساوي: “يحسب كثيرون من نقادنا المحرفين أن ماركس قد أكد أن التطور الإقتصادي والنضال الطبقي لا يخلقان ظروف الإنتاج الإشتراكي وحسب، بل يخلقان مباشرة أيضا وعي (إشارة التأكيد لكاوتسكي) ضرورته. وها هم هؤلاء النقاد يعترضون بأن إنكلترا، البلاد الأكثر تطورا من الناحية الرأسمالية، هي أبعد الجميع عن هذا الوعي. إن مشروع البرنامج يفسح مجالا للظن بأن اللجنة التي وضعت البرنامج النمساوي تشارك وجهة النظر هذه، التي يزعم أنها ماركسية أرثوذكسية، والتي يدحضها المثال المشار إليه. فقد جاء في المشروع: “بمقدار ما تتزايد البروليتاريا نتيجة للتطور الرأسمالي، تزداد اضطرارا إلى النضال ضد الرأسمالية وتحصل على إمكانية هذا النضال. وتصل البروليتاريا إلى إدراك” إمكانية الاشتراكية وضرورتها. وعلى هذا الأساس يبدو الوعي الاشتراكي نتيجة مباشرة محتومة للنضال الطبقي البروليتاري. وهذا غير صحيح على الإطلاق. صحيح أن الاشتراكية، بوصفها مذهبا، تستمد جذورها من العلاقات الإقتصادية الراهنة كشأن النضال الطبقي البروليتاري سواء بسواء، وأنها كالنضال الطبقي البروليتاري تنبثق من النضال ضد ما تسببه الرأسمالية للجماهير من فقر وبؤس. غير أن الاشتراكية والنضال الطبقي ينبثقان أحدهما إلى جانب الآخر، لا أحدهما من الآخر. إنهما ينبثقان من مقدمات مختلفة. فالوعي الإشتراكي الراهن لا يمكنه أن ينبثق إلا على أساس معارف علمية عميقة. وبالفعل أن العلم الإقتصادي الحديث هو شرط من شروط الإنتاج الإشتراكي، شأنه، مثلا، شأن التكنيك الحديث سواء بسواء. والحال أن البروليتاريا، بالرغم من كل رغبتها، لا تستطيع أن تخلق لا هذا ولا ذاك، فكلاهما ينشأ عن التطور الإجتماعي الحديث. هذا وان العلم ليس بيد البروليتاريا، بل بيد المثقفين البرجوازيين (حرف التأكيد لكاوتسكي): فالاشتراكية الحديثة نفسها قد انبثقت هي أيضا في رؤوس بعض أعضاء هذه الفئة، وقد نقلها هؤلاء إلى أكثر البروليتاريين تطورا من الناحية الفكرية، الذين أخذوا بعد ذلك يدخلونها في نضال البروليتاريا الطبقي حيث تسمح الظروف. وعلى ذلك كان الوعي الاشتراكي عنصرا يؤخذ من الخارج (von auben Hineigetragenes) وينقل إلى نضال البروليتاريا الطبقي، لا شيئا ينبثق منه بصورة عفوية (urwûchsig). ولهذا قيل في برنامج هينفيلد القديم، بحق تماما، أن مهمة الاشتراكية-الديموقراطية هي أن تحمل إلى البروليتاريا (حرفيا: تملأ البروليتاريا) وعي وضعها ووعي رسالتها. ولم تكن هناك من حاجة إلى ذلك، لو كان هذا الوعي ينبثق من النضال الطبقي من تلقاء نفسه. أما المشروع الجديد فقد أخذ هذه الفكرة من البرنامج القديم وربطها بالصيغة المثبتة أعلاه، الأمر الذي قطع بصورة تامة مجرى التفكير…”. ولما كان من غير الممكن حتى أن تكون ثمة إيديولوجية مستقلة تصنعها جماهير العمال نفسها في مجرى حركتها موضع بحث• فلا يمكن أن تطرح المسألة إلا بالشكل التالي: إما إيديولوجية برجوازية وإما إيديولوجية اشتراكية. وليس ثمة وسط بينهما (لأن البشرية لم تصنع إيديولوجية “ثالثة”، أضف إلى ذلك أنه في مجتمع تمزقه التناقضات الطبقية، لا يمكن أن توجد على الإطلاق أية إيديولوجية خارج الطبقات أو فوق الطبقات). ولذلك فإن كل انتقاص من الإيديولوجية الاشتراكية وكل ابتعاد عنها هو في حد ذاته بمثابة تمكين للإيديولوجية البرجوازية وتوطيد لها. ويتحدثون عن العفوية. ولكن التطور العفوي لحركة العمال يسير على وجه الدقة في اتجاه إخضاعها للإيديولوجية البرجوازية، يسير على وجه الدقة وفق برنامج “Credo” (“الكريدو”)، لأن الحركة العمالية العفوية هي التريديونيونية. هي Nur-Gewerkschaftlerei. وما التريديونيونية غير إخضاع العمال فكريا للبرجوازية. ولذا فإن واجبنا، واجب الاشتراكية-الديموقراطية، هو النضال ضد العفوية، هو النضال من أجل صرف حركة العمال عن نزوع التريديونيونية العفوي إلى كنف البرجوازية وجذبها إلى كنف الاشتراكية-الديموقراطية الثورية. ولذلك فإن عبارة واضعي الرسالة “الإقتصادية” في العدد 12 من “الإيسكرا”، هذه العبارة القائلة بأن جميع جهود الإيديولوجيين الأكثر إلهاما لا يمكنها أن تخرج حركة العمال عن الطريق الذي حدده لها تفاعل العناصر المادية والبيئة المادية، تعادل تماما التخلي عن الاشتراكية. ولو كان هؤلاء الكتاب قادرين على إمعان الفكر فيما قالوه، حتى النهاية، بصورة منطقية وبدون خوف، كما ينبغي أن يفعل كل من يبرز إلى مسرح النشاط الأدبي والاجتماعي، لما بقي عليهم أن يفعلوا غير “وضع أيديهم التي لا ضرورة لها على صدورهم الفارغة” و… ترك المسرح للسادة أمثال ستروفه وبروكوبوفيتش الذين يجرون حركة العمال في اتجاه “أهون السبل”، أي في اتجاه التريديونيونية البرجوازية، أو للسادة أمثال زوباتوف الذين يجرونها في اتجاه “إيديولوجية” الإكليروس والدرك.(59) تذكروا مثل ألمانيا. ما هي الخدمة التاريخية التي أداها لاسال لحركة العمال الألمانية؟ هي أنه صرف هذه الحركة عن طريق التريديونيونية التقدمية وطريق التعاونية الذي كانت تتجه إليه بصورة عفوية (بمساعدة لطيفة – قدمها أمثال شولتزه – ديليتش وأضرابهم. وقد تطلب القيام بهذه المهمة شيئا لا يشبه إطلاقا الانتقاص من أهمية العنصر العفوي والتكتيك-الحركة وتفاعل العناصر والبيئة وهلم جرا. لقد تطلب الأمر نضالا لا يعرف الهوادة ضد العفوية. ولم يمكن مثلا تحويل سكان برلين من العمال من دعامة للحزب التقدمي إلى حصن من خير حصون الاشتراكية-الديموقراطية إلا نتيجة نضال كهذا استمر سنين طويلة، وطويلة جدا. وهذا النضال لم ينته أبدا حتى الآن (كما قد يحسب الناس الذين يأخذون تاريخ الحركة الألمانية عن بروكوبوفيتش وفلسفتها عن ستروفه). فالطبقة العاملة الألمانية ما تزال حتى الآن منقسمة، إن صح التعبير، بين بضع إيديولوجيات: فثمة قسم من العمال متحد في نقابات العمال الكاثوليكية والملكية، وثمة قسم آخر متحد في نقابات هيرش-دونكر(60) التي أسسها البرجوازيون من أنصار التريديونيونية الإنكليزية، وقسم ثالث متحد في النقابات الاشتراكية-الديموقراطية. وهذا القسم الثالث هو أكبر بما لا يقاس من سائر الأقسام. ولكن الإيديولوجية الاشتراكية-الديموقراطية لم تستطع أن تحصل على هذا التفوق ولا تستطيع أن تحتفظ به إلا بالنضال المستمر ضد جميع الإيديولوجيات الأخرى. وقد يتساءل القارئ: لماذا إذن كانت الحركة العفوية، حركة الإتجاه نحو أهون السبل، تؤدي على وجه الدقة إلى سيطرة الإيديولوجية البرجوازية؟ ذلك لمجرد كون الإيديولوجية البرجوازية، من حيث منشؤها، أقدم من الإيديولوجية الاشتراكية بكثير، ولأنها وضعت بصورة أكمل من جميع الوجوه، ولأنها تتصرف بوسائل للنشر أكثر بما لا يقاس. وكلما كانت الحركة الاشتراكية حديثة في بلد من البلدان، كلما كان ينبغي أن يشتد تبعا لذلك، النضال ضد جميع المحاولات لتوطيد الإيديولوجية غير الاشتراكية، كلما كان ينبغي أن يشتد الحزم في تحذير العمال من نصحاء السوء الذين يصرخون ضد “المغالاة في تقدير أهمية عنصر الوعي” الخ… إن واضعي الرسالة “الإقتصادية” يرعدون ويبرقون في جوقة واحدة مع “رابوتشييه ديلو” ضد عدم التسامح الذي يميز الحركة في عهد طفولتها. ونحن نجيب على ذلك: أجل، إن حركتنا تجتاز حقا عهد طفولتها، ولكيما يشتد ساعدها بسرعة، ينبغي لها أن تُعدى حتما بعدوى عدم التسامح حيال الناس الذين يعيقون نموها بتقديسهم العفوية. ليس من شيء أسخف وأكثر ضررا من أن نجعل من أنفسنا شيوخا اجتازوا منذ عهد بعيد جميع مراحل النضال الفاصلة! ثالثا، يبين لنا العدد الأول من “رابوتشايا ميسل” أن اسم “الإقتصادية” (الذي لا نفكر طبعا بالعدول عنه، لأن هذا اللقب قد رسخ بشكل من الأشكال) لا يفصح بالدقة الكافية عن جوهر الإتجاه الجديد. ذلك أن “رابوتشايا ميسل” لا تنكر النضال السياسي إنكارا تاما: فالنظام الداخلي للصندوق، النظام المنشور في العدد 1 من “رابوتشايا ميسل”، يتحدث عن النضال ضد الحكومة. كل ما في الأمر أن “رابوتشايا ميسل” تحسب أن “السياسة تسير على الدوام بخنوع في أثر الإقتصاد” (أما “رابوتشييه ديلو” فتغير هذه الصيغة مؤكدة في برنامجها أن “النضال الإقتصادي وثيق الصلة في روسيا، أكثر مما في أية بلاد أخرى، بالنضال السياسي”). وصيغتا “رابوتشايا ميسل” و”رابوتشييه ديلو” هاتان غير صحيحتين بتاتا إذا فهمنا من كلمة السياسة – السياسة الاشتراكية-الديموقراطية. فكثيرا ما يحدث لنضال العمال الإقتصادي أن يكون على صلة (وإن لم تكن وثيقة) بالسياسة البرجوازية، بالسياسة الدينية، الخ.، كما سبق أن رأينا. وتكون صيغة “رابوتشييه ديلو” صحيحة إذا فهمنا من كلمة السياسة –السياسة التريديونيونية، أي الطموح المشترك بين جميع العمال إلى الحصول من الدولة على تدابير ما للتخفيف من المصائب التي تلازم وضعهم، ولكنها لا تزيل هذا الوضع، أي أنها لا تقضي على خضوع العمل لرأس المال. وهذا الطموح هو في الحقيقة مشترك بين التريديونيونيين الإنكليز الذين يقفون من الاشتراكية موقف العداء وبين العمال الكاثوليك والعمال “الزوباتوفيين” الخ.. ثمة سياسة وسياسة. وهكذا نرى أن موقف “رابوتشايا ميسل” من النضال السياسي أيضا ليس موقف إنكار له بمقدار ما هو موقف تقديس لعفويته، تقديس لعدم وعيه. فهي إذ تعترف تماما بالنضال السياسي الذي ينبثق بصورة عفوية من حركة العمال نفسها (أو الأصح: بتمنيات العمال ومطالبهم السياسية) ترفض كل الرفض أن تضع بصورة مستقلة سياسة اشتراكية-ديموقراطية خاصة تتفق والمهام العامة للاشتراكية والظروف الروسية الراهنة. وسنبين فيما يلي أن “رابوتشييه ديلو” تقترف كذلك هذا الخطأ.

ج) “جماعة التحرير الذاتي”(61) و”رابوتشييه ديلو”

إذا كنا حللنا بهذا التفصيل افتتاحية العدد الأول من “رابوتشايا ميسل” التي لا يعرفها غير القلائل والتي كادت تنسى في الوقت الحاضر، فذلك لأنها أفصحت قبل الجميع وبشكل أوضح من الجميع عن ذلك السيل العام الذي خرج فيما بعد إلى وضح النهار جداول صغيرة لا تحصى. لقد كان ف. أ. على تمام الحق عندما قال ممتدحا العدد الأول من “رابوتشايا ميسل” وافتتاحيتها أنها كتبت “بحمية وشدة” (“ليستوك “رابوتنيكا””، العدد 9-10، ص49). إن كل إنسان واثق من رأيه ويعتقد أنه آت بجديد يكتب “بحمية”، يكتب بشكل يعرب عن نظراته بجلاء. ولا يخلو من “الحمية” غير الناس الذين اعتادوا الجلوس بين كرسيين. وليس غير هؤلاء من يستطيع أن يمتدح في الأمس حمية “رابوتشايا ميسل” وأن يهاجم اليوم خصومها “لحميتهم في الجدال”. ودون أن نتوقف عند “الملحق الخاص لـ”رابوتشايا ميسل”” (وسيتأتى علينا أن نستشهد فيما يأتي في شتى المناسبات بهذا المؤلف الذي يفصح عن أفكار “الإقتصاديين” بأكثر ما يمكن من الانسجام) نتناول فقط باختصار “نداء جماعة تحرير العمال الذاتي” (آذار- مارس – سنة 1899، وقد أعيد نشره في “ناكانونيه”(62) بلندن، العدد 7 تموز- يوليو- سنة 1899). يقول واضعو هذا النداء وهم على تمام الحق أن “روسيا العمال لا تفعل الآن غير أن تستيقظ وتتلفت حولها وتتناول بصورة غريزية أول وسيلة من وسائل النضال تقع عليها يدها”؛ ولكنهم يخلصون من ذلك إلى نفس الاستنتاج غير الصحيح الذي خلصت إليه “رابوتشايا ميسل”، ناسين أن الغريزة هي عدم الوعي (العفوية) بالذات الذي ينبغي للإشتراكيين أن يخفوا لمساعدته، وأن “أول وسيلة تقع عليها يدها” من وسائل النضال هي على الدوام، في المجتمع الراهن، وسيلة النضال التريديونيونية، وأن أول إيديولوجية “تقع عليها يدها” هي الإيديولوجية البرجوازية (التريديونيونية). ثم إن واضعي هذا النداء لا “ينكرون” كذلك السياسة، إنما هم يقولون فقط (فقط!) في أثر السيد ف.ف. أن السياسة هي بناء فوقي ولذلك “ينبغي للتحريض السياسي أن يكون بناء فوقيا للتحريض على النضال الاقتصادي، ينبغي أن ينمو على صعيد هذا النضال وأن يسير في أثره”. أما “رابوتشييه ديلو” فقد بدأت نشاطها مباشرة بـ”الدفاع” عن “الإقتصاديين”. فبعد أن نطقت “رابوتشييه ديلو” بكذب جلي في عددها الأول بالذات (العدد1، ص ص 141-142) زاعمة أنها “لا تعلم عن أي الرفاق الشباب تكلم آكسيلرود” الذي حذر “الإقتصاديين” في كراسه المعروف•، اضطرت في مجرى احتدام الجدال مع آكسيلرود وبليخانوف بصدد هذا الكذب إلى الإعتراف بأنها “أرادت عن طريق التظاهر بالدهشة أن تدفع هذه التهمة الباطلة عن جميع الاشتراكيين-الديموقراطيين الأحدث سنا في الخارج” (اتهام آكسيلرود “للاقتصاديين” بضيق الأفق). والواقع أن هذا الاتهام كان صحيحا كل الصحة، وأن “رابوتشييه ديلو” كانت تعلم حق العلم أن الاتهام ينال فيمن ينال عضو هيئة تحريرها ف. ا. وأقول في هذا الصدد أن آكسيلرود كان على تمام الحق في هذا الجدال وأن “رابوتشييه ديلو” كانت على تمام الخطأ في تفسير كراسي: “مهام الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس”. فقد كتبت هذا الكراس سنة 1897، أي قبل ظهور “رابوتشايا ميسل” وعندما كنت أعتقد وكان يحق لي آنذاك أن أعتقد أن التفوق للاتجاه الأولي الذي اتجهه “إتحاد النضال” في سانت بطرسبورغ، والذي حددت خصائصه آنفا. وقد كان هذا الإتجاه متفوقا في الحقيقة حتى منتصف سنة 1898 على الأقل. ولذلك كان لا يحق لـ”رابوتشييه ديلو” على الإطلاق أن تستشهد في دحضها لوجود “الإقتصادية” وخطرها، بكراس يعرض نظرات حلت محلها في سانت بطرسبورغ خلال سنتي 1897-1898 النظرات “الإقتصادية”.

بيد أن “رابوتشييه ديلو” لم تقتصر على “الدفاع” عن “الإقتصاديين”، ولكنها كانت هي نفسها تنزلق على الدوام إلى أخطائهم الأساسية. ومصدر هذا الانزلاق هو الفهم الملتبس للموضوعة التالية من برنامج “رابوتشييه ديلو”: “إن أهم ظاهرة في الحياة الروسية، الظاهرة التي من شأنها أن تكون العامل الرئيسي في تحديد مهام (حرف التأكيد لنا) الإتحاد وطابع نشاطه في مضمار المطبوعات هي في رأينا حركة العمال الجماهيرية (حرف التأكيد لـ”رابوتشييه ديلو”) التي ظهرت في السنوات الأخيرة”. لا مراء في أن الحركة الجماهيرية ظاهرة في منتهى الأهمية. ولكن كل القضية هي في كيفية فهم “تحديد المهام” من قبل هذه الحركة الجماهيرية. إذ يمكن أن يفهم ذلك على وجهين: يمكن أن يفهم إما بمعنى تقديس عفوية هذه الحركة، أي جعل دور الاشتراكية-الديموقراطية مجرد دور خادم لحركة العمال كما هي (هكذا تفهم ذلك “رابوتشايا ميسل” و”جماعة التحرير الذاتي” و”الإقتصاديون” الآخرون) وإما بمعنى أن الحركة الجماهيرية تفرض علينا مهام جديدة، نظرية وسياسية وتنظيمية، أعقد بكثير من المهام التي كان يمكننا أن نكتفي بها في المرحلة التي سبقت ظهور الحركة الجماهيرية. وقد كانت “رابوتشييه ديلو” ولا تزال تميل إلى المفهوم الأول بالضبط، لأنها لم تقل قط شيئا معينا عن أية مهام جديدة، بل كانت تحاكم على الدوام كما لو كانت هذه “الحركة الجماهيرية ” تخلصنا من ضرورة الإدراك الواضح لما تطرحه من مهام ومن ضرورة القيام بهذه المهام. وحسبنا أن نذكر بأن “رابوتشييه ديلو” كانت تعتبر من غير الممكن أن توضع مهمة إسقاط الحكم المطلق كمهمة أولى لحركة العمال الجماهيرية، وأنها هبطت بهذه المهمة (باسم الحركة الجماهيرية) إلى مستوى النضال من أجل أقرب المطالب السياسية (“الجواب”، ص25). لنترك جانبا مقال محرر “رابوتشييه ديلو” ب. كريتشيفسكي في العدد 7 – “النضال الإقتصادي والسياسي في الحركة الروسية”، هذا المقال الذي كرر نفس الأخطاء، ولننتقل مباشرة إلى العدد 10 من “رابوتشييه ديلو”. لن نحلل طبعا اعتراضات ب. كريتشيفسكي ومارتينوف على “زاريا” و”الإيسكرا” واحدا واحدا، إذ لا يهمنا هنا إلا الموقف المبدئي الذي وقفته “رابوتشييه ديلو” في العدد 10. لن نحلل مثلا الأمر الغريب التالي وهو أن “رابوتشييه ديلو” ترى “تناقضا أساسيا” بين هذه الموضوعة: “إن الاشتراكية-الديموقراطية لا تقيد يديها، لا تقيد نشاطها بأي مشروع أو أسلوب يوضع سلفا من مشاريع أو أساليب النضال السياسي، فهي تعترف بجميع وسائل النضال على أن تتلاءم وقوى الحزب الواقعية” الخ. (“الإيسكرا”، العدد 1). وبين الموضوعة التالية: “إذا لم توجد منظمة قوية متمرسة بالنضال السياسي وتحسن القيام به في جميع الظروف والمراحل فلا يمكن أن يكون موضع بحث أي مشروع للعمل، متماسك الأجزاء، موضح بمبادئ ثابتة، وينفذ باستقامة، مشروع يستحق وحده من دون سائر المشاريع تسميته بالتكتيك” (“الإيسكرا”، العدد 4). إن الخلط بين الاعتراف المبدئي بجميع وسائل النضال، بجميع المشاريع والأساليب، على أن تكون ملائمة، وبين المطالبة في ظرف سياسي معين بالاسترشاد بمشروع ينفذ باستقامة، – إن هذا الخلط، إذا كنا نريد الحديث عن التكتيك، هو أشبه بالخلط بين اعتراف الطب بجميع طرق العلاج مع مطالبته باتباع طريقة معينة لمعالجة مرض معين. ولكن القضية كلها في كون “رابوتشييه ديلو” المصابة هي نفسها بالمرض الذي سميناه نحن بتقديس العفوية، لا تريد أن تعترف بأية “طرق علاج” لهذا المرض. ولذلك توصلت إلى اكتشاف فذ، وهو أن “التكتيك-المشروع ينافي روح الماركسية من أساسها” (العدد 10، ص 18)، وأن التكتيك هو “سير نمو مهام الحزب التي تنمو مع نمو الحزب” (ص 11، حرف التأكيد لـ”رابوتشييه ديلو”). هنالك كل الإمكانيات لأن تصبح هذه الحكمة الأخيرة من الحكم المشهورة، لأن تصبح ذكرى “لاتجاه” “رابوتشييه ديلو” يعجز الدهر عن محوها. فعلى سؤال: “إلى أين نسير؟” تجيب الجريدة القائدة: الحركة هي مجرى تغير المسافة بين نقطة الانطلاق والنقطة التالية للحركة. إن هذا التفكير العميق منتهى العمق ليس من الطرائف وحسب (ولو كان الأمر كذلك لما كان خليقا بالوقوف عنده)، إنما هو أيضا برنامج اتجاه بأكمله: هو البرنامج الذي أعرب ر.م. (في “الملحق الخاص لـ”رابوتشايا ميسل””) بكلمات: المرغوب فيه هو النضال الممكن، والممكن هو الذي يجري في هذه البرهة. إنه بالضبط اتجاه الإنتهازية التي لا تعرف الحدود والتي تتكيف بصورة سلبية تبعا للعفوية. “التكتيك-المشروع ينافي روح الماركسية من أساسها!” ولكن هذا افتراء على الماركسية، إنه تحويل لها إلى صورة شوهاء تشبه تلك التي عارضنا بها الشعبيون(63) في حربهم علينا. إن هذا بالضبط تثبيط لمبادرة المناضلين الواعين وهمتهم، في حين أن الماركسية، على العكس من ذلك، حافز هائل لمبادرة الاشتراكي-الديموقراطي وهمته، فهي تكشف أمامه أوسع الآفاق، واضعة تحت تصرفه (إن أمكن التعبير) القوى الهائلة، قوى الملايين العديدة من أبناء الطبقة العاملة الناهضين “بصورة عفوية” إلى النضال! إن تاريخ الاشتراكية-الديموقراطية العالمية بأكمله زاخر بالمشاريع التي وضعها هذا أو ذلك من القادة السياسيين، مشاريع تبرز بصيرة البعض وصحة نظراته السياسية والتنظيمية وتكشف عن قصر نظر البعض الآخر وأخطائه السياسية. فعندما اجتازت ألمانيا انعطافا من أكبر الإنعطافات في تاريخها – تشكيل الإمبراطورية وفتح الريخستاغ ومنح الحق الانتخابي العام- كان لدى ليبكنخت مشروع للسياسة الاشتراكية-الديموقراطية والعمل الاشتراكي-الديموقراطي بوجه عام، وكان لدى شفيتزر مشروع آخر. وعندما انقض على الاشتراكيين الألمان القانون الاستثنائي، كان ثمة مشروع لدى موست وهاسيلمان المستعدين للدعوة صراحة إلى العنف والإرهاب، وكان ثمة مشروع آخر لدى هوخبيرغ وشرام ولدى برنشتين (جزئيا) الذين حاولوا وعظ الاشتراكيين-الديموقراطيين بأن القانون جاء نتيجة لشدتهم غير المعقولة وثوريتهم، وبأنه ينبغي عليهم أن ينالوا المغفرة بحسن السلوك؛ وكان ثمة مشروع ثالث لدى الذين أعدوا العدة لنشر جريدة سرية وحققوا ذلك(64). وعندما يلقي المرء نظرة إلى الوراء بعد انقضاء سنوات عديدة على انتهاء النضال حول مسألة اختيار الطريق الواجب اتباعه، وبعد أن قال التاريخ كلمته الأخيرة بصدد صحة الطريق الذي وقع عليه الاختيار، لا يصعب عليه طبعا أن يبرهن على عمق تفكير بقوله أن مهام الحزب تنمو مع نمو الحزب نفسه. ولكن الاكتفاء بعمق التفكير هذا في وقت البلبلة، في الوقت الذي يهبط فيه “النقاد” و”الإقتصاديون” الروس بالاشتراكية-الديموقراطية إلى مستوى التريديونيونية ويدعو فيه الإرهابيون بقوة إلى قبول “تكتيك-مشروع يكرر الأخطاء السابقة، – أقول أن الاكتفاء بمثل هذا العمق في التفكير في مثل هذا الوقت، يعني تسجيل المرء على نفسه “شهادة فقر حال”. وفي الوقت الذي أصيب فيه كثيرون من الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس بنقص المبادرة والهمة على وجه الدقة، بنقص “المدى في الدعاية السياسية والتحريض السياسي والتنظيم السياسي”، بالنقص في “مشاريع” تنظيم العمل الثوري على نطاق أوسع – إن القول في مثل هذا الوقت أن “التكتيك-المشروع ينافي روح الماركسية من أساسها” لا يعني ابتذال الماركسية نظريا وحسب، بل يعني أيضا جر الحزب عمليا إلى الوراء. تعلمنا “رابوتشييه ديلو” بعد ذلك أن “واجب الإشتراكي-الديموقراطي الثوري ليس إلا تعجيل التطور الموضوعي بعمله الواعي، لا إلغاءه أو الاستعاضة عنه بالمشاريع الذاتية. و”الإيسكرا” تعرف كل ذلك من الناحية النظرية. ولكن الأهمية الكبرى التي تعيرها الماركسية، بحق، للعمل الثوري الواعي تحملها عمليا، نتيجة لنظرتها الجامدة إلى التكتيك، على التقليل من أهمية العنصر الموضوعي أو العفوي في التطور” (ص18). وها نحن مرة أخرى أمام تشويش نظري خارق خليق بالسيد ف. ف. وشركائه. بودنا أن نسأل فيلسوفنا: بم يمكن أن يتجلى “التقليل من أهمية” التطور الموضوعي لدى واضع المشاريع الذاتية؟ واضح أن ذلك يتجلى في كونه يغفل أن هذا التطور الموضوعي ينشئ أو يقوي، يهلك أو يضعف هذه أو تلك من الطبقات أو الفئات أو الجماعات، من الأمم أو مجموعات الأمم الخ.، مشترطا بذلك هذه أو تلك من تكتلات القوى السياسية العالمية ومواقف الأحزاب الثورية الخ.. ولكن خطأ مثل هذا الواضع لا يكون، والحالة هذه، التقليل من أهمية العنصر العفوي، بل، بالعكس، التقليل من أهمية العنصر الواعي، إذ ينقصه “الوعي” لفهم التطور الموضوعي فهما صحيحا. ولذلك فإن مجرد الكلام عن “تقدير الأهمية النسبية” (حرف التأكيد لـ”رابوتشييه ديلو”) للعفوية والوعي يكشف عن انعدام “الوعي” انعداما تاما. فلئن كان الوعي الإنساني يستطيع بوجه عام فهم بعض “عناصر التطور العفوية” فإن عدم تقديرها على الوجه الصحيح يعادل “التقليل من أهمية عنصر الوعي”. أما إذا كان الوعي عاجزا عن فهمها، فنحن إذن لا نعرفها وليس بوسعنا أن نتكلم عنها. فعم يتكلم، إذن، ب. كريتشيفسكي؟ إذا كان يعتبر “المشاريع الذاتية” التي وضعتها “الإيسكرا” مغلوطة (وهو يعلنها، على وجه الدقة، مغلوطة)، فقد كان عليه أن يبرز ما تغفله هذه المشاريع بالضبط من الوقائع الموضوعية وأن يتهم “الإيسكرا” لهذا الإغفال بعدم كفاية الوعي، بـ”التقليل من أهمية عنصر الوعي”، إذا استعملنا تعابيره. أما إذا كان غير راض عن المشاريع الذاتية ولا توجد لديه براهين غير الكلام عن “التقليل من أهمية العنصر العفوي” (!!) فهو لا يفعل أكثر من أن يبرهن بذلك أنه (1) من الناحية النظرية يفهم الماركسية à la كارييف وميخايلوفسكي وأضرابهما الذين سخر منهم بلتوف(65) بما فيه الكفاية، وأنه (2) من الناحية العملية راض كل الرضى عن “عناصر التطور العفوية” التي ساقت ماركسيينا العلنيين إلى البرنشتينية واشتراكيينا-الديموقراطيين إلى “الإقتصادية” وأنه “مغيظ حانق” على الناس المصممين على صرف الاشتراكية-الديموقراطية الروسية عن طريق التطور “العفوي” مهما كلفهم الأمر. وتأتي بعد ذلك أشياء مسلية جدا. “كما أن الناس سيستمرون في التكاثر على طريقة الأجداد بالرغم من كل النجاحات التي توصلت إليها العلوم الطبيعية، كذلك فإن ولادة نظام اجتماعي جديد – بالرغم من كل نجاحات العلوم الإجتماعية ونمو المناضلين الواعين- ستظل في المستقبل أيضا وبالدرجة الأولى نتيجة للانفجارات العفوية” (ص 19). وكما جاء في حكمة الأجداد: من ذا الذي نقصه العقل من أجل أن ينجب أطفالا، كذلك يقول “الإشتراكيون المحدثون” (à la نرسيس توبوريلوف(66)) في حكمتهم: لن ينقص أحد العقل من أجل الاشتراك في ولادة عفوية لنظام اجتماعي جديد. ونحن نعتقد أيضا أن أحدا لن ينقصه العقل. فلمثل هذا الإشتراك حسب المرء أن يستسلم “للإقتصادية” عندما تسود “الإقتصادية” وأن يستسلم للإرهابية عندما تنشأ الإرهابية. وهكذا، في ربيع هذه السنة، عندما كان من الهام جدا التحذير من الولع بالإرهاب، وقفت “رابوتشييه ديلو” وقفة الحائر أمام مسألة “جديدة” بالنسبة إليها. والآن، بعد مضي نصف سنة، عندما فقدت المسألة حدتها، تقدم لنا في وقت معا تصريحا: “نحن نعتقد أن مهمة الاشتراكية-الديموقراطية لا يمكن ولا ينبغي أن تكون الوقوف في وجه تعاظم الميول الإرهابية” (“رابوتشييه ديلو”، العدد 10، ص 23)، وقرار المؤتمر: “يعتقد المؤتمر أن الإرهاب الهجومي المنتظم ليس في حينه” (“مؤتمران”، ص 18). يا له من وضوح ومن ترابط! لا نقف في وجهه، ولكننا نعلن أنه ليس في حينه – ونعلن بشكل يجعل “القرار” لا يشمل الإرهاب الدفاعي وغير المنتظم. ولا بد من الإعتراف بأن هذا “القرار” لا ينطوي على أي خطر وهو معصوم من كل خطأ، كما يعصم من الخطأ من يتكلم لكي لا يقول شيئا! ولوضع مثل هذا القرار لا يحتاج المرء إلا لأمر واحد: أن يحسن التمسك بذيل الحركة. وعندما سخرت “الإيسكرا” من إعلان “رابوتشييه ديلو” مسألة الإرهاب مسألة جديدة •، غضبت آنئذ “رابوتشييه ديلو” وهاجمت “الإيسكرا” متهمة إياها قائلة: “إن “الإيسكرا” تطمع بصورة لا يتصورها العقل في أن تفرض على المنظمة الحزبية حلا لمسائل تكتيكية وضعه فريق من الكتاب المهاجرين منذ خمس عشرة سنة ونيف” (ص 24). ويا له، في الحقيقة، من ادعاء، يا له من غلو في عنصر الوعي: حل المسائل سلفا من الناحية النظرية لكيما يصار فيما بعد إقناع المنظمة والحزب والجماهير بصحة هذا الحل!• وكم يختلف الحال إذا اقتصر المرء على اجترار أشياء سبق قولها، وعلى الخضوع لكل “إنعطاف” سواء في اتجاه “الإقتصادية” أو في اتجاه الإرهابية، دون فرض أي شيء على أحد. ولا تحجم “رابوتشييه ديلو” حتى عن تعميم هذه الوصية العظمى لحكمة الحياة وتتهم “الإيسكرا” و”زاريا” بأنهما “تعارضان الحركة ببرنامجهما بوصفه روحا تحوم فوق هيولى لا صورة لها” (ص 29). فبم يتلخص، إذن، دور الاشتراكية-الديموقراطية إن لم يتلخص في أن تكون “روحا” لا تحوم فوق الحركة العفوية وحسب، بل ترفع هذه الحركة إلى مستوى “برنامجها”؟ لا يمكنه على كل حال أن يتلخص في الإنجرار في ذيل الحركة: فهو أمر في أحسن الحالات لا يفيد الحركة بشيء، وفي أردأ الحالات يسبب لها أكبر الضرر. أما “رابوتشييه ديلو”، فإنها لا تكتفي بالسير على هذا “التكتيك-الحركة” بل تجعل منه مبدأ بحيث يصبح الوصف الأصح لاتجاهاتها لا الإنتهازية، بل الذيلية (من كلمة ذيل). ولا بد من الإعتراف بأن الناس المصممين كل التصميم على السير دائما وأبدا خلف الحركة بصفة ذيل لها يأمنون على أنفسهم بصورة أكيدة وإلى الأبد من “التقليل من أهمية عنصر التطور العفوي”. * * * * *

وهكذا يتضح لنا أن الخطأ الأساسي الذي يقترفه “الإتجاه الجديد” في الاشتراكية-الديموقراطية الروسية هو تقديس العفوية، هو عدم فهمه أن عفوية الجماهير تتطلب منا نحن الاشتراكيين-الديموقراطيين قدرا كبيرا من الوعي. وكلما ارتفع نهوض الجماهير العفوي واتسعت الحركة، كلما ازدادت بأسرع بما لا يقاس الحاجة إلى قدر كبير من الوعي في عمل الاشتراكية-الديموقراطية النظري والسياسي والتنظيمي. وقد جرى نهوض الجماهير العفوي في روسيا (وما يزال يجري) بسرعة ظهرت معها الشبيبة الاشتراكية-الديموقراطية غير مستعدة للقيام بهذه المهام العظمى. وعدم الاستعداد هذا هو مصيبتنا العامة، مصيبة جميع الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس. لقد تعاظم نهوض الجماهير واتسع باستمرار واطراد، وهو فضلا عن أنه لم يتوقف في الأماكن التي بدأ فيها، أخذ يشمل مناطق جديدة وفئات جديدة من السكان (فتحت تأثير حركة العمال، اشتد الغليان بين الطلاب والمثقفين بوجه عام وحتى بين الفلاحين). أما الثوريون فقد تأخروا عن هذا النهوض: ب”نظرياتـ”ـهم وبنشاطهم، ولم يفلحوا في تشكيل منظمة دائمة تعمل دون انقطاع، وقادرة على قيادة الحركة بكاملها. لقد أشرنا في الفصل الأول إلى أن “رابوتشييه ديلو” قد حطت من مهامنا النظرية ورددت “عفويا” الشعار الشائع -“حرية النقد”: إن الذين رددوا هذا الشعار لم يتحلوا بما يكفي من “الوعي” لأن يفهموا التضاد التام بين موقف “النقاد” الإنتهازيين وموقف الثوريين في ألمانيا وفي روسيا. وفي الفصول التالية سنبين كيف تجلى تقديس العفوية هذا في نشاط الاشتراكية-الديموقراطية التنظيمي وفي مهامها السياسية.

III-السياسة التريديونيونية والسياسة الاشتراكية-الديموقراطية

لنبدأ مرة أخرى بامتداح “رابوتشييه ديلو”. لقد نشر مارتينوف في العدد 10 من “رابوتشييه ديلو” مقالا عن الخلافات مع “الإيسكرا” بعنوان “أدب التشهير والنضال البروليتاري”. وقد صاغ جوهر هذه الخلافات بقوله: “لا يمكننا أن نقتصر على مجرد التشهير بالأوضاع التي تعترض طريق تطوره (تطور حزب العمال). بل ينبغي علينا أن نستجيب كذلك لمصالح البروليتاريا العاجلة والراهنة” (ص 63). “… “الإيسكرا”… هي في الواقع جريدة للمعارضة الثورية تشهر بأوضاعنا، والسياسية منها بصورة رئيسية… أما نحن فنعمل وسنعمل لقضية العمال على صلة عضوية وثيقة بالنضال البروليتاري” (نفس المصدر). لا يسعنا إلا أن نعرب لمارتينوف عن الإمتنان لصيغته هذه. فهي تكتسب أهمية عامة كبرى، لأنها، في الجوهر، لا تشمل خلافاتنا مع “رابوتشييه ديلو” وحسب، بل تشمل بوجه عام جميع الخلافات القائمة بيننا وبين “الإقتصاديين” بصدد مسألة النضال السياسي. لقد بينا فيما سبق أن “الإقتصاديين” لا ينكرون “السياسة” إنكارا مطلقا، ولكنهم ينزلقون على الدوام من المفهوم الاشتراكي-الديموقراطي عن السياسة إلى المفهوم التريديونيوني. وبالصورة نفسها ينزلق مارتينوف. ولذلك نريد نحن أن نأخذه هو بالذات نموذجا لأخطاء “الإقتصادية” في هذه المسألة. وسنسعى لكي نبين أنه لن يحق لا لواضعي “الملحق الخاص لـ”رابوتشايا ميسل”” ولا لواضعي بيان “جماعة التحرير الذاتي” ولا لواضعي الرسالة “الإقتصادية” المنشورة في العدد 12 من “الإيسكرا” أن يلومنا لهذا الإختيار.

أ) التحريض السياسي وتضييق الإقتصاديين له يعلم الجميع أن اتساع نضال العمال الروس الإقتصادي واشتداده قد سارا جنبا إلى جنب مع نشوء “أدب” التشهير الإقتصادي (الذي يتناول حياة المعامل والحياة المهنية). فالموضوع الرئيسي في “المناشير” كان التشهير بالأوضاع السائدة في المعامل. وسرعان ما ظهر بين العمال شغف حقيقي بالتشهير. وما أن رأى العمال حلقات الاشتراكيين-الديموقراطيين تريد وتستطيع أن تقدم لهم نوعا جديدا من مناشير تقول الحقيقة كاملة عن حياتهم البائسة وعن عملهم المرهق إلى حد لا يطاق وعن حرمانهم من كل حق، حتى أخذوا يمطرون الرسائل، إن جاز التعبير، من المعامل والمصانع. وقد كان هذا “الأدب التشهيري” يحدث صدى عظيما لا يقتصر على المصنع الذي يشهر هذا المنشور أو ذاك بأوضاعه، بل يتعداه إلى جميع المعامل التي تبلغها أصداء الوقائع المشهر بها. ونظرا لوجود سمات كثيرة مشتركة بين احتياجات العمال ونكباتهم في مختلف المعامل والمهن، كانت “الحقيقة عن الحياة العمالية” تفتن لب الجميع. وقد نما بين أكثر العمال تأخرا شغف حقيقي بـ”طبع بنات أفكارهم”، وهو شغف نبيل بشكل جنيني من أشكال الحرب ضد النظام الإجتماعي الراهن كله القائم على النهب والظلم. وفي معظم الحالات كانت هذه “المناشير” في الواقع إعلانا للحرب، لأن التشهير كان يثير العمال بشدة ويدفعهم إلى المطالبة المشتركة بإزالة المظالم الفظيعة ويجعلهم على استعداد لدعم مطالبهم هذه بالإضرابات. وقد اضطر أصحاب المصانع أنفسهم في نهاية الأمر إلى أن يروا في هذه المناشير إعلانا للحرب بحيث أفقدتهم في الكثير من الحالات الرغبة في انتظار الحرب نفسها. وكان التشهير، كما هو الحال دائما، يكتسب قوته لمجرد ظهوره، ويحرز أهمية ضغط معنوي كبير. فقد حدث غير مرة أن كان مجرد ظهور المنشور كافيا لتلبية جميع المطالب أو بعضها. وبكلمة، لقد كان التشهير الإقتصادي (المعملي) وما يزال وسيلة هامة للنضال الإقتصادي. وسيحتفظ بأهميته هذه ما بقيت الرأسمالية التي تدفع العمال بالضرورة إلى الدفاع عن أنفسهم. ففي أرقى البلدان الأوروبية يحدث حتى الآن أن يكون التشهير بظروف عمل فظيعة في “مهنة” متلاشية أو في أي فرع من فروع العمل المنزلي لا يسترعي انتباه أحد، حافزا ليقظة الوعي الطبقي ولبدء النضال المهني وانتشار الاشتراكية•. إن الأكثرية الكبرى من الاشتراكيين الديموقراطيين الروس كانت في الآونة الأخيرة منصرفة بكليتها تقريبا إلى تنظيم عمل التشهير هذا في المعامل. وحسبنا أن نتذكر “رابوتشايا ميسل” لكيما نرى إلى أي حد بلغ انصرافهم هذا، فقد نسوا أن هذا النشاط بحد ذاته ليس بعد، من حيث الأساس، نشاطا اشتراكيا-ديموقراطيا، بل نشاط تريديونيوني فقط. فالتشهير لم يشمل في الجوهر غير العلاقات بين العمال وأصحاب العمل في مهنة معينة، ولم يسفر إلا عن نتيجة واحدة، وهي أن الذين يبيعون قوة عملهم قد تعلموا كيف يبيعون هذه “البضاعة” بفائدة أكبر وكيف يناضلون ضد المشتري على صعيد المساومة التجارية الصرف. وكان بالإمكان أن يصبح هذا التشهير (شريطة أن تستفيد منه منظمة الثوريين بصورة ملائمة) نقطة انطلاق للنشاط الاشتراكي-الديموقراطي وجزءا منه لا يتجزأ. ولكنه كان بالإمكان أيضا أن يؤدي (وفي ظروف تقديس العفوية يؤدي لا محالة) إلى النضال “المهني فقط” وإلى حركة عمالية غير اشتراكية-ديموقراطية. فالاشتراكية-الديموقراطية لا تقود نضال الطبقة العاملة في سبيل شروط أفضل لبيع قوة العمل وحسب، بل كذلك في سبيل القضاء على النظام الاجتماعي الذي يرغم المعدمين على بيع أنفسهم إلى الأغنياء. إن الاشتراكية-الديموقراطية تمثل الطبقة العاملة لا في علاقاتها مع فئة معينة من أصحاب الأعمال وحسب، بل أيضا في علاقاتها مع جميع الطبقات في المجتمع الراهن، ومع الدولة بوصفها قوة سياسية منظمة. يتضح من ذلك أن الاشتراكيين-الديموقراطيين، فضلا عن أنهم لا يستطيعون الاقتصار على النضال الاقتصادي، لا يمكنهم أيضا أن يسمحوا بأن يستغرق تنظيم التشهير الاقتصادي القسم الأكبر من نشاطهم. يجب علينا أن نعمل بنشاط على تربية الطبقة العاملة سياسيا، على تنمية وعيها السياسي. والآن، بعد أول هجوم تشنه “زاريا” و”الإيسكرا” على “الاقتصادية” “يوافق الجميع” على ذلك (وإن كانت موافقة البعض لا تتعدى القول كما سنرى الآن). قد يسأل سائل: بم ينبغي أن تتلخص التربية السياسية؟ هل يمكن الاقتصار على الدعاية إلى فكرة عداء الطبقة العاملة للحكم المطلق؟ كلا، طبعا. فليس يكفي أن نبين للعمال ما يحيق بهم من ظلم سياسي (كما لم يكن كافيا أن نبين لهم التضاد بين مصالحهم ومصالح أصحاب العمل). إن من الضروري أن نقوم بالتحريض بصدد كل مظهر ملموس من مظاهر هذا الظلم (كما كنا نتناول بتحريضنا مظاهر الظلم الاقتصادي الملموسة). ولما كان هذا الظلم يمس شتى طبقات المجتمع على اختلافها، ولما كان يتجلى في مختلف ميادين الحياة والنشاط – المهنية والعامة والخاصة والعائلية والدينية والعلمية الخ.، الخ.، أفليس من الواضح أننا لن نقوم بمهمتنا، مهمة إنماء وعي العمال السياسي، إن لم نأخذ على عاتقنا أمر تنظيم التشهير بالحكم المطلق تشهيرا سياسيا شاملا؟ ذلك لأننا إذا كنا نريد أن يتناول تحريضنا هذا الظلم في مظاهره الملموسة، فينبغي فضح هذه المظاهر (كما أن التحريض الاقتصادي كان يقتضي فضح الفظائع في المعامل)؟ الأمر واضح كما يبدو. ولكن يبدو هنا بالذات أن ضرورة تطوير الوعي السياسي من كل النواحي لا يقرها “الجميع” إلا بالقول. وهنا بالذات يظهر أن “رابوتشييه ديلو”، مثلا، عدا أنها لم تأخذ على عاتقها مهمة تنظيم (أو المبادرة إلى تنظيم) التشهير السياسي الشامل، أخذت تجر إلى الوراء “الإيسكرا” التي بادرت إلى القيام بهذه المهمة. اسمعوا هذا: “إن نضال الطبقة العاملة السياسي لا يعدو أن يكون” (وفي الحقيقة يعدو أن يكون) “الشكل الأكثر تطورا وسعة وفاعلية للنضال الاقتصادي” (برنامج “رابوتشييه ديلو”، “رابوتشييه ديلو”، العدد 1، ص3). “تواجه الاشتراكيين-الديموقراطيين الآن المهمة التالية: كيف نضفي على النضال الإقتصادي نفسه، بقدر الإمكان، طابعا سياسيا” (مارتينوف في العدد 10، ص42). “النضال الإقتصادي هو الوسيلة التي يمكن استعمالها بأوسع شكل لجذب الجماهير إلى النضال السياسي النشيط” (قرار مؤتمر “الإتحاد”(67) و”التعديلات”: “مؤتمران”، ص11 و17). إن “رابوتشييه ديلو”، كما يرى القارئ، زاخرة بكل هذه الأفكار منذ نشوئها حتى “التعليمات” الأخيرة “إلى هيئة التحرير”. وجميعها تعرب، كما هو ظاهر، عن نظرة واحدة إلى التحريض والنضال السياسيين. انظروا إلى وجهة النظر هذه من زاوية الرأي السائد لدى جميع “الإقتصاديين” والقائل أنه ينبغي للتحريض السياسي أن يتبع التحريض الإقتصادي. فهل صحيح أن النضال الإقتصادي هو بوجه عام  “الوسيلة التي يمكن استعمالها بأوسع شكل” لجذب الجماهير إلى النضال السياسي؟ كلا، ليس هذا بصحيح على الإطلاق. إن جميع مظاهر الإضطهاد البوليسي والطغيان الاستبدادي بشتى أشكالها، لا المظاهر المرتبطة بالنضال الإقتصادي وحده، هي وسيلة لمثل هذا “الجذب يمكن استعمالها” بشكل ليس أقل سعة على الإطلاق. إن “الزيمسكييه ناتشالنيكي”(68)، والقصاص الجسدي بالفلاحين، وارتشاء الموظفين، ومعاملة الشرطة “للعامة” في المدن، ومكافحة الجياع، وقمع مساعي الشعب إلى النور والمعرفة، والتفنن في جباية الضرائب، وملاحقة الشيع الدينية، وترويض الجنود ومعاملة الطلاب والمثقفين الليبراليين معاملة الجنود- إن جميع هذه المظاهر والألوف الأخرى من مظاهر الإضطهاد المشابهة غير المرتبطة ارتباطا مباشرا بالنضال “الإقتصادي”، لماذا ينبغي أن تعتبر بوجه عام وسائل ومناسبات للتحريض السياسي ولجذب الجماهير إلى النضال السياسي “ذات إمكانيات للإستعمال” أقل سعة؟ الصحيح هو العكس تماما: فحالات الإضطهاد البوليسي الناشئة عن النضال المهني بالضبط ليست دون شك غير قلة قليلة من مجموع حالات الحياة التي يتألم فيها العامل (لنفسه أو لقريبه) من الاستبداد والطغيان والعنف. فلماذا إذن نضيق سلفا إطار التحريض السياسي ونصف بـ”إمكان الإستعمال على أوسع شكل”، وسيلة واحدة من وسائله ينبغي أن توجد إلى جانبها – بالنسبة للاشتراكي-الديموقراطي- وسائل أخرى “ذات إمكانيات للاستعمال” ليست عموما بأقل سعة؟ لقد كتبت “رابوتشييه ديلو” منذ عهد بعيد (منذ سنة خلت!…): “أن المطالب السياسية المباشرة تصبح في متناول فهم الجماهير بعد إضراب واحد أو بعد بضعة إضرابات على الأكثر”، “أن تستخدم الحكومة الشرطة والدرك” (العدد 7، ص15، آب-أغسطس – سنة 1900). إن نظرية المراحل الإنتهازية هذه قد رفضت الآن من قبل “الإتحاد” الذي يتنازل أمامنا معلنا أنه “لا ضرورة إطلاقا للقيام منذ البدء بالتحريض السياسي على الصعيد الإقتصادي وحده” (“مؤتمران”، ص11). إن هذا الإنكار وحده من قبل “الإتحاد” لقسم من أخطائه السابقة سيبين لمؤرخ الاشتراكية-الديموقراطية الروسية المقبل بصورة أوضح من كل الشروح المطولة، إلى أي درك من الإنحطاط دفع “إقتصاديونا” الاشتراكية! ولكن أية سذاجة يبديها “الإتحاد” إذ يتصور أنه بتنازله عن شكل من أشكال تضييق السياسة يحملنا على القبول بشكل آخر من أشكال تضييقها! ألا نكون أقرب إلى المنطق إذا قلنا هنا أيضا أنه ينبغي القيام بالنضال الإقتصادي على أوسع وجه ممكن، وأنه ينبغي الإستفادة منه على الدوام للتحريض السياسي، ولكن “لا ضرورة إطلاقا” لاعتبار النضال الإقتصادي الوسيلة التي يمكن استعمالها بأوسع شكل لجذب الجماهير إلى النضال السياسي النشيط؟ إن “الإتحاد” يرى أهمية في ما أقدم عليه من الإستعاضة عن تعبير “أفضل وسيلة” الوارد في القرار المعني من قرارات المؤتمر الرابع لاتحاد العمال اليهود (البوند)(69) بتعبير “الوسيلة التي يمكن استعمالها بأوسع شكل”. ونحن في الحقيقة نجد أنفسنا في موقف حرج لو طلب إلينا أن نقول أي القرارين أفضل: فإن القرارين في رأينا هما كلاهما من أردأ ما يكون. فـ”الإتحاد” والبوند ينزلقان هنا (وربما كان ذلك جزئيا عن غير وعي، تحت تأثير العادة) إلى التأويل الإقتصادي، التريديونيوني للسياسة. ولا يتغير شيء في فحوى الأمر إذا تم ذلك بواسطة كلمة “أفضل” أو تعبير “يمكن استعمالها بأوسع شكل”. ولو قال “الإتحاد” أن “التحريض السياسي على الصعيد الإقتصادي” هو الوسيلة التي تستخدم (لا التي يمكن استعمالها) بأوسع شكل لكان على حق بالنسبة لمرحلة معينة في تطور حركتنا الاشتراكية-الديموقراطية. ولكان على حق بالضبط حيال “الإقتصاديين” حيال الكثيرين (إن لم نقل الأكثرية) من المشتغلين في الميدان العملي في سنوات 1898-1901، لأن هؤلاء “الإقتصاديين” المشتغلين في الميدان العملي قد استخدموا في الواقع التحريض السياسي (هذا إذا كانوا يستخدمونه بوجه عام!) على الصعيد الإقتصادي وحده تقريبا. وقد رأينا أن “رابوتشايا ميسل” و”جماعة التحرير الذاتي” قد اعترفتا بل أوصتا بتحريض سياسي من هذا النوع! وقد كان على “رابوتشييه ديلو” أن تشجب بحزم كون التحريض الإقتصادي المفيد يرافقه تضييق مضر للنضال السياسي. ولكنها أعلنت بدلا من ذلك أن الوسيلة المستخدمة بأوسع شكل (من قبل “الإقتصاديين”) هي الوسيلة التي يمكن استخدامها بأوسع شكل! ولا مجال للاستغراب إذا لم يجد هؤلاء الناس من سبيل، عندما ندعوهم “بالإقتصاديين”، إلا أن يصمونا بأقبح النعوت، من نوع “المشعوذين” و”المخربين” و”سفراء البابا” و”المفترين”، وان يشكو أمام الجميع وأمام كل بمفرده مدعين أننا وجهنا لهم إهانة دامية، وأن يصرخوا على نمط من يقسم بالإيمان الغليظة: “لا توجد اليوم أية منظمة اشتراكية-ديموقراطية مذنبة “بالإقتصادية”. يا لهؤلاء المفترين الأشرار-الساسة! ألا يحتمل أن يكونوا قد اخترعوا “الإقتصادية” كلها اختراعا لكي يوجهوا إلى الناس الإهانات الدامية لا لشيء إلا لحقدهم على البشر؟ ما هو بلسان مارتينوف المعنى الواقعي الملموس للمهمة التي يضعها أمام الاشتراكية-الديموقراطية: “إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه”؟ إن النضال الإقتصادي هو نضال العمال الجماعي ضد أصحاب العمل بغية بيع قوة العمل بشروط مفيدة، بغية تحسين ظروف عمل العمال وظروف حياتهم. وهذا النضال هو بالضرورة نضال مهني، لأن ظروف العمل تختلف اختلافا كبيرا باختلاف المهن، ولذا لا يمكن للنضال بغية تحسين هذه الظروف أن يجري إلا تبعا للمهن (النقابات في الغرب والإتحادات المهنية المؤقتة والمناشير في روسيا، الخ.). إذن، إن إضفاء “الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه” يعني السعي إلى تحقيق المطالب المهنية نفسها، وإلى التحسين نفسه في ظروف العمل المهنية بواسطة “إجراءات تشريعية وإدارية” (كما يقول مارتينوف في الصفحة التالية من مقاله، الصفحة 43). وهذا بالذات ما تقوم به وما قامت به على الدوام جميع نقابات العمال. تصفحوا مؤلف العالمين الرصينين (والإنتهازيين “الرصينين”) الزوجين ويب، تروا أن نقابات العمال الإنكليزية قد وعت وراحت تنفذ منذ عهد جد بعيد مهمة “إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه”، وأنها تناضل منذ عهد جد بعيد في سبيل حرية الإضراب، في سبيل إزالة شتى أشكال العقبات الحقوقية القائمة في وجه الحركة التعاونية والنقابية، في سبيل إصدار قوانين لحماية النساء والأطفال، في سبيل تحسين ظروف العمل بواسطة التشريع الصحي والصناعي، الخ.. وهكذا، إن هذه العبارة الطنانة، “الرهيبة” بدويها العميق والثوري: “إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه”، تخفي وراءها في الواقع النزوع التقليدي إلى الهبوط بالسياسة الاشتراكية-الديموقراطية حتى مستوى السياسة التريديونيونية! فبذريعة إصلاح ضيق أفق “الإيسكرا” التي تعتبر – ويا للهول – “بث الروح الثورية في العقائد أعلى شأنا من بثها في الحياة” يعرضون علينا النضال من أجل الإصلاحات الإقتصادية على أنه شيء جديد. والواقع أن عبارة “إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه” خالية من كل شيء عدا النضال في سبيل الإصلاحات الإقتصادية. وكان بوسع مارتينوف أن يصل بنفسه إلى هذا الاستنتاج البسيط لو أعمل الفكر قليلا في معنى كلماته. فقد قال موجها مدفعيته الثقيلة إلى “الإيسكرا”: “إن حزبنا يمكنه ويجب عليه أن يطالب الحكومة بإجراءات تشريعية وإدارية ملموسة ضد الاستثمار الإقتصادي، ضد البطالة وضد الجوع، الخ.” (ص ص 42-43 من “رابوتشييه ديلو”، العدد 10). المطالبة بإجراءات ملموسة – ألا يعني ذلك المطالبة بالإصلاحات الإجتماعية؟ وها نحن نسأل مرة أخرى القراء المنصفين: أنفتري على “الرابوتشييه ديلوويين” (وأرجو المعذرة على هذا التعبير الفظ الشائع!) إذا وصفناهم ببرنشتينيين مستترين عندما يعلنون أن خلافاتـهم مع “الإيسكرا” تدور حول ضرورة النضال في سبيل الإصلاحات الإقتصادية؟ إن الاشتراكية-الديموقراطية الثورية قد ضمنت نشاطها وتضمنه على الدوام النضال من أجل الإصلاحات. ولكنها تستخدم التحريض “الإقتصادي” لا لمطالبة الحكومة بمختلف الإجراءات وحسب، بل لمطالبتها كذلك (وقبل كل شيء) بأن تكف عن أن تكون حكومة استبدادية. وهي، عدا ذلك، ترى من واجبها أن تقدم للحكومة هذا الطلب لا على صعيد النضال الإقتصادي وحسب، بل كذلك على صعيد جميع مظاهر الحياة السياسية الإجتماعية بوجه عام. إنها بكلمة، تخضع النضال من أجل الإصلاحات، بوصفه جزءا من كل، للنضال الثوري من أجل الحرية ومن أجل الاشتراكية. أما مارتينوف فيبعث نظرية المراحل بشكل آخر، محاولا أن يحصر تطور النضال السياسي في طريق، إن جاز القول، اقتصادي، بكل تأكيد. إنه، إذ ينادي، في مرحلة النهوض الثوري، بالنضال من أجل الإصلاحات على أنه “مهمة” خاصة كما يزعم، يجر بذلك الحزب إلى الوراء ويساعد الإنتهازية “الإقتصادية” والانتهازية الليبرالية على حد سواء. ثم إن مارتينوف، بعد أن ستر، بحياء، النضال من أجل الإصلاحات بالصيغة الطنانة: “إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه”، وضع في المقام الأول وكشيء خاص الإصلاحات الإقتصادية وحدها (وحتى الإصلاحات في داخل المعامل وحدها). ونحن لا ندري لماذا فعل ذلك. ترى أعن سهو؟ ولكنه إن كان لم يقصد الإصلاحات “المعملية” وحدها، فإن كل صيغته التي ذكرناها للتو تفقد عندئذ كل معنى. أو لعله فعل ذلك لأنه يعتقد أن الحكومة لا يمكن ولا يحتمل أن “تتنازل” إلا في الميدان الإقتصادي وحده؟• ولئن كان الأمر كذلك فهذا ضلال غريب: فالتنازلات محتملة وتحدث أيضا في ميادين التشريع الذي يتناول السياط والجوازات والتعويضات عن شراء الأراضي(70) والشيع الدينية والرقابة، الخ. وهلم جرا. وواضح أن التنازلات “الإقتصادية” (أو التنازلات الكاذبة) هي الأهون على الحكومة والأكثر فائدة لها، لأن الحكومة تأمل أن تكسب بذلك ثقة جماهير العمال. ولهذا بالذات لا ينبغي لنا نحن الاشتراكيين-الديموقراطيين أن نفسح بأي شكل من الأشكال أي مجال للاعتقاد (أو للتوهم) بأن الإصلاحات الإقتصادية هي الأغلى على قلوبنا أو أننا نعتبرها الأهم، الخ.. يقول مارتينوف متحدثا عن الإجراءات التشريعية والإدارية الملموسة التي تقدم بها أعلاه: “إن مثل هذه المطالب لا تبقى كلاما فارغا، لأنها، إذ تبعث الأمل بنتائج حسية معينة، يمكن أن تجد التأييد النشيط لدى جماهير العمال”… نحن لسنا “باقتصاديين” نستغفر الله! كل ما في الأمر أننا نزحف أمام “حسية” النتائج الملموسة بمثل خنوع السادة برنشتين وبروكوبوفيتش وستروفه ور. م . وtutti quanti ! كل ما في الأمر أننا نلمح (مع نارسيس توبوريلوف) إلى أن كل ما لا “يبعث الأمل بنتائج حسية” هو “كلام فارغ”! كل ما في الأمر أننا نفصح بشكل يبدو منه وكأن جماهير العمال ليست أهلا (وأنها، بالرغم من جميع الذين يلقون عليها تفاهاتهم، لم تبرهن على أنها أهل) لأن تؤيد بنشاط كل احتجاج على الحكم المطلق، حتى الاحتجاج الذي لا يبعث فيها أي أمل بنتائج حسية! حسبنا أن نضرب الأمثلة التي ذكرها مارتينوف نفسه عن “الإجراءات” ضد البطالة والمجاعة. فبينما انهمكت “رابوتشييه ديلو”، كما يؤخذ من وعدها، في وضع وتحضير “مطالب لإجراءات تشريعية وإدارية ملموسة” (بشكل مشاريع قوانين؟)، “تبعث الأمل بنتائج حسية”، عملت “الإيسكرا” التي “تفضل على الدوام بث الروح الثورية في العقائد بدلا من بثها في الحياة” على تبيان الصلة الوثقى التي تربط البطالة بالنظام الرأسمالي بأكمله ونبهت إلى أن “المجاعة زاحفة” وشهرت بالأعمال التي تقوم بها الشرطة “لمكافحة الجياع”(71) وبفظاعة “الأحكام المؤقتة للأشغال الشاقة”(72)، وأصدرت “زاريا” في هذا الوقت في طبعة على حدة بصفة كراس من كراسات التحريض، قسما من “استعراض الوضع الداخلي” يتناول المجاعة. ولكن، رباه، كم كان هؤلاء الأرثوذكس، المصابون بضيق الأفق حتى مخ العظم، كم كانوا في هذه الحالات “محدودي التفكير”، كم كانوا متحجرين صما حيال مقتضيات “الحياة نفسها”! فهم لم يدرجوا في أي مقال من مقالاتهم – ويا للهول – أي مطلب – أتتصورون؟ أي “مطلب ملموس” “يبعث الأمل بنتائج حسية”! يا لهم من جامدي العقيدة تعساء! ألا فليذهبوا وليتتلمذوا على أمثال كريتشيفسكي مارتينوف كي يتعلموا أن التكتيك هو سير النمو، هي سير ما ينمو، الخ.، وأنه ينبغي إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه! “إن لنضال العمال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة (“النضال الإقتصادي ضد الحكومة”!!) عدا أهميته الثورية المباشرة، أهمية أخرى تتلخص في كونه يضع العمال على الدوام أمام مسألة حرمانهم من الحقوق السياسية” (مارتينوف، ص 44). نحن لا نثبت هذه العبارة لكيما نكرر للمرة المئة أو للمرة الألف ما سبق لنا أن قلناه، بل لكيما نقدم لمارتينوف بوجه خاص الشكر على هذه الصيغة الجديدة الرائعة: “نضال العمال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة”. يا للروعة! بأي نبوغ لا يضارع، وبأية مهارة تُلغى جميع الخلافات الثانوية وجميع الاختلافات في التلاوين بين “الإقتصاديين”، ويُفصح هنا في عبارة مقتضبة واضحة عن جوهر “الإقتصادية” كله ابتداء من دعوة العمال إلى “النضال السياسي الذي يقومون به لمصلحتهم المشتركة بغية تحسين وضع جميع العمال”، ومرورا بنظرية المراحل، ثم انتهاء بقرار المؤتمر عن “الوسيلة التي يمكن استعمالها بأوسع شكل”، الخ.. إن “النضال الإقتصادي ضد الحكومة” هو بالضبط السياسة التريديونيونية البعيدة جدا، البعيدة منتهى البعد عن السياسة الاشتراكية-الديموقراطية.

ب) حكاية عن كيف عمق مارتينوف بليخانوف “كم ظهر عندنا في الآونة الأخيرة من أمثال للومونوسوف اشتراكيين-ديموقراطيين!” – هذا ما قاله ذات مرة رفيق من الرفاق مشيرا إلى الميل الغريب لدى الكثيرين من الميالين إلى “الإقتصادية”، إلى أن يكتشفوا “بعقولهم هم” الحقائق العظمى (من نوع أن النضال الإقتصادي يضع العمال أمام مسألة حرمانهم من الحقوق) مغفلين في الوقت نفسه بعنجهية العباقرة الأفذاذ، كل ما أعطاه التطور السابق للفكرة الثورية وللحركة الثورية. ومن هؤلاء الأفذاذ لومونوسوف-مارتينوف. ألقوا نظرة على مقاله: “القضايا المباشرة” تروا كيف يتوصل “بعقله هو” إلى ما سبق لآكسيلرود أن قاله منذ أمد بعيد (والذي يصمت عنه كل الصمت طبعا هذا اللومونوسوف)، وكيف يأخذ، مثلا، يفهم أنه لا يمكننا أن نتجاهل روح المعارضة لدى هذه أو تلك من فئات البرجوازية (“رابوتشييه ديلو”، العدد 9، ص ص 61، 62، 71. قارن ذلك بـ”جواب” هيئة تحرير “رابوتشييه ديلو” على آكسيلرود، ص ص 22، 23-24)، الخ.. ولكنه – واحسرتاه – لم يزد على أن “يتوصل”، على أن “يأخذ”، لأنه ما يزال جد بعيد عن فهم أفكار آكسيلرود إلى حد أنه يتكلم عن “النضال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة”. طيلة ثلاث سنوات (1898-1901) حشدت “رابوتشييه ديلو” قواها لفهم آكسيلرود، ومع ذلك… مع ذلك لم تفهمه بعد! ولعل منشأ ذلك كون الاشتراكية-الديموقراطية “كشأن البشرية” لا تضع نصب عينيها على الدوام إلا المهام الممكنة التحقيق؟ ولكن ميزة أمثال هذا اللومونوسوف لا تتلخص فقط في كونهم يجهلون أشياء كثيرة (ولو اقتصر الأمر على ذلك لكانت نصف مصيبة!)، بل أنهم لا يعلمون أنهم جاهلون، وهذه مصيبة حقا، وهذه المصيبة تحفزهم على أن يأخذوا على الفور بـ”تعميق” بليخانوف. يقول لومونوسوف-مارتينوف: “لقد تغيرت أمور كثيرة مذ كتب بليخانوف الكتاب المذكور (“مهام الاشتراكيين في مكافحة المجاعة في روسيا”). فالإشتراكيون-الديموقراطيون الذين قادوا نضال الطبقة العاملة الإقتصادي طيلة عشر سنوات… لم يتسن لهم بعد أن يقيموا تكتيك الحزب على أساس نظري واسع. أما الآن فقد نضجت هذه المسألة. وإذا ما أردنا إقامة مثل هذا الأساس النظري وجب علينا، حتما، أن نعمق لدرجة كبيرة تلك المبادئ التكتيكية التي طرحها بليخانوف فيما مضى… يجب علينا اليوم أن نحدد الفرق بين الدعاية والتحريض بشكل يختلف عن تحديد بليخانوف” (وقد ذكر مارتينوف لتوه كلمات بليخانوف: “الداعية يعطي كثرة من الأفكار لشخص أو لعدد من الأشخاص، والمحرض يعطي فكرة واحدة أو بضع أفكار ولكنه يعطيها بالمقابل لجمهور كبير من الأشخاص”). “وبودنا أن نفهم من الدعاية الشرح الثوري للنظام الحالي بأكمله أو لبعض مظاهره، سواء جرى ذلك بشكل يفهمه أفراد أو جمهور كبير من الناس، فلا فرق. ونفهم من التحريض بمعنى الكلمة الدقيق (كذا!) نداء الجماهير إلى بعض أعمال ملموسة، مساعدة البروليتاريا على التدخل الثوري المباشر في الحياة الإجتماعية”. إننا نهنئ الاشتراكية-الديموقراطية الروسية – والعالمية – باصطلاحات جديدة، مارتينوفية، أكثر دقة وعمقا. فقد كنا نعتقد حتى الآن (مع بليخانوف وجميع قادة حركة العمال العالمية) أن الداعية، إذا ما أخذ مثلا مسألة البطالة نفسها، ينبغي له أن يشرح الأزمات وطبيعتها الرأسمالية وأن يبين أسباب حتميتها في المجتمع الراهن، وأن يبين ضرورة تحويله إلى مجتمع اشتراكي، الخ.. وبكلمة ينبغي له أن يعطي “كثرة من الأفكار” كثيرة لدرجة لا يمكن أن يستوعبها بمجموعها، دفعة واحدة، غير عدد من الأشخاص قليل (نسبيا). أما المحرض فإنه، إذ يتكلم عن المسألة نفسها، يأخذ أبرز مثل يعرفه مستمعوه أكثر من غيره من الأمثال، لنقل مثلا موت عائلة عامل عاطل عن العمل بسبب المجاعة أو انتشار التسول الخ.، ويوجه جميع جهوده استنادا إلى هذا الواقع الذي يعرفه الجميع، لإعطاء “الجمهور” فكرة واحدة: فكرة التناقض غير المعقول بين تزايد الغنى وتزايد الفقر، باذلاَ جهده لكي يثير في الجمهور الإستياء والسخط من هذا الظلم الفاضح، تاركا للداعية مهمة الشرح الكامل لهذا التناقض. ولذلك يعمد الداعية بالدرجة الأولى إلى الكلمة المطبوعة، ويعمد المحرض إلى الكلمة الحية. ولا تتطلب من الداعية الصفات نفسها التي تتطلب من المحرض. فنحن نصف مثلا كاوتسكي ولافارغ بأنهما من الدعاة، ونصف بيبل وغيد بأنهما من المحرضين. وما تعيين ميدان ثالث، وظيفة ثالثة للنشاط العملي، وظيفة تتلخص في “نداء الجماهير إلى بعض أعمال ملموسة” إلا الحماقة الكبرى، لأن “النداء” بوصفه عملا على حدة إما أن يكون لا محالة التتمة الطبيعية للبحث النظري ولكراس الدعاية ولخطاب التحريض، وإما أن يكون عملا تنفيذيا صرفا. وفي الحقيقة، لنأخذ مثلا نضال الاشتراكيين-الديموقراطيين الألمان الحالي ضد الرسوم الجمركية المفروضة على الحبوب. النظريون يكتبون الأبحاث عن السياسة الجمركية “منادين”، مثلا، إلى النضال من أجل المعاهدات التجارية ومن أجل حرية التجارة، والداعية يقوم بالعمل نفسه في مجلة، والمحرض في خطابات أمام الجمهور. و”الأعمال الملموسة” التي تقوم بها الجماهير في هذه الحالة هي عبارة عن توقيع عرائض إلى الريخستاغ تطالب بعدم زيادة الرسوم المفروضة على الحبوب. والنداء إلى هذا العمل يصدر بصورة غير مباشرة عن النظريين والدعاة والمحرضين، وبصورة مباشرة عن العمال الذين يطوفون بهذه العرائض على المعامل والبيوت. ويستنتج من “اصطلاحات مارتينوف” أن كلا من كاوتسكي وبيبل كليهما من الدعاة، وأن حاملي العرائض من المحرضين. أليس كذلك؟ إن مثل الألمان هذا قد ذكرني بالكلمة الألمانية “Verballhornung” أي حرفيا “البلهرة” من كلمة بالهورن. ويوحنا بالهورن ناشر عاش في القرن السادس عشر في ليبزيغ. وقد قام بنشر كتاب الألفباء، وفيه، كالمعتاد، رسوم بينها صورة ديك، ولكن الديك ظهر في هذا الرسم بدون شوكتين على رجليه ومع بيضتين إلى جانبه. وقد أضاف الناشر على الغلاف كلمات: “طبعة منقحة ليوحنا بالهورن”. ومنذ ذلك الحين والألمان يصفون بالبلهرة كل “تنقيح” هو في الواقع نقيض التحسين. ويتذكر المرء عفو الخاطر بالهورن هذا عندما يرى كيف “يعمق” أضراب مارتينوف بليخانوف… لِمَ “اخترع” صاحبنا اللومونوسوف هذه البلبلة؟ ذلك لكيما يبين أن “الإيسكرا”، “كشأن بليخانوف منذ عقد ونصف من السنين، لا ترى من الأشياء غير وجه واحد” (ص 39). “في “الإيسكرا” نرى مهام الدعاية تدفع إلى المقام الثاني، في الآونة الحاضرة على الأقل، مهام التحريض” (ص 52). وإذا ما ترجمنا هذه العبارة الأخيرة من لغة مارتينوف إلى لغة البشر (لأنه لم يتسن للبشرية بعد أن تتبنى الاصطلاحات التي اكتشفها مارتينوف حديثا) تكون النتيجة ما يلي: في “الإيسكرا” نرى مهام الدعاية السياسية والتحريض السياسي تدفع إلى المقام الثاني مهمة “مطالبة الحكومة بإجراءات تشريعية وإدارية ملموسة” “تبعث الأمل بنتائج حسية معينة” (أو المطالبة بإصلاحات إجتماعية، إذا سمح لنا بأن نستخدم ولو مرة أخرى الإصطلاحات القديمة للبشرية القديمة التي لم ترتفع بعد إلى مستوى مارتينوف). ليقارن القارئ هذه الفكرة بالقطعة البليغة التالية: “إن ما يثير استغرابنا في هذه البرامج” (برامج الاشتراكيين-الديموقراطيين الثوريين) “كونها تضع في المقام الأول على الدوام مزايا عمل العمال في البرلمان (غير الموجود عندنا) وتهمل بصورة تامة (من جراء نيهيليتها الثورية) أهمية اشتراك العمال في المجالس التشريعية لأرباب المعامل، المختصة بشؤون المعامل، وهي موجودة عندنا… أو على الأقل اشتراك العمال في المجالس البلدية…”. إن واضع هذه القطعة البليغة يعرب بصورة أقرب إلى الصراحة والوضوح والجلاء عن نفس الفكرة التي توصل إليها لومونوسوف-مارتينوف بعقله هو. وواضع هذه القطعة البليغة هو ر.م. في “الملحق الخاص ل”رابوتشايا ميسل”” (ص15).

ج) التشهير السياسي و”تربية النشاط الثوري” عندما عارض مارتينوف “الإيسكرا” بـ”نظريتـ”ـه عن “رفع مستوى نشاط جماهير العمال” كشف في الواقع عن نزوعه إلى الحط من مستوى هذا النشاط بإعلانه أن الوسيلة الأفضل، الوسيلة الأهم، الوسيلة “التي يمكن استعمالها بأوسع شكل” لإثارة هذا النشاط، أن ميدان هذا النشاط هو ذلك النضال الإقتصادي نفسه الذي يركع أمامه جميع “الإقتصاديين”. إنه خطأ نموذجي، لأنه أبعد من أن يختص به مارتينوف وحده. والواقع أننا لا “نرفع مستوى نشاط جماهير العمال” إلا إذا لم نكتف بـ”التحريض السياسي على الصعيد الإقتصادي”. ولما كان أحد الشروط الأساسية لضرورة توسيع التحريض السياسي هو تنظيم التشهير السياسي في جميع الميادين لأن تربية وعي الجماهير السياسي ونشاطها الثوري لا تمكن إلا عن طريق هذا التشهير، – كان هذا النوع من النشاط وظيفة من أهم وظائف الاشتراكية-الديموقراطية العالمية بأكملها، لأن الحرية السياسية هي الأخرى لا تزيل هذا التشهير البتة، بل تغير اتجاهه بعض الشيء. فالحزب الألماني، مثلا، يعزز مواقعه ويوسع نفوذه لدرجة كبيرة بفضل حملة التشهير السياسي بالذات، التي يشنها بنشاط لا يفتر. ولا يمكن أن يكون وعي الطبقة العاملة وعيا سياسيا حقا، إذا لم يتعود العمال الرد على كل حالة من حالات الطغيان والظلم والعنف وسوء الإستعمال على اختلافها وبصرف النظر عن الطبقة التي توجه إليها، على أن يكون الرد من وجهة النظر الاشتراكية-الديموقراطية، لا من أية وجهة نظر أخرى. ولا يمكن أن يكون وعي جماهير العمال وعيا طبقيا حقا إذا لم يتعلم العمال الاستفادة من الوقائع والحوادث السياسية الملموسة والعاجلة (الملحة) حتما في الوقت نفسه، لمراقبة كل طبقة من الطبقات الإجتماعية الأخرى في جميع مظاهر حياتها العقلية والأخلاقية والسياسية، إذا لم يتعلموا أن يطبقوا في العمل التحليل المادي والتقدير المادي لجميع أوجه نشاط وحياة جميع طبقات السكان وفئاتهم وجماعاتهم. إن كل من يوجه انتباه الطبقة العاملة وقوة ملاحظتها ووعيها إلى نفسها فقط، أو إلى نفسها بالدرجة الأولى، ليس باشتراكي-ديموقراطي، لأن معرفة الطبقة العاملة لنفسها مرتبط ارتباطا لا ينفصم بمعرفتها معرفة واضحة تامة للعلاقات المتبادلة بين جميع طبقات المجتمع الراهن، معرفة ليست نظرية وحسب… والأصح أن نقول: ليست نظرية بمقدار ما هي مبنية على تجربة الحياة السياسية. ولذلك فإن ما ينادي به “اقتصاديونا” من أن النضال الإقتصادي هو الوسيلة التي يمكن استعمالها بأوسع شكل لجذب الجماهير إلى الحركة السياسية هو أمر ضار منتهى الضرر ورجعي منتهى الرجعية من حيث نتائجه العملية. فلكيما يصبح العامل اشتراكيا-ديموقراطيا ينبغي له أن يكون لنفسه صورة واضحة عن الطبيعة الإقتصادية والسيماء الإجتماعية والسياسية للملاك العقاري والكاهن وصاحب الرفعة والفلاح والطالب والصعلوك، وأن يعرف نواحي قوتهم ونواحي ضعفهم، وأن يحسن فهم معاني مختلف العبارات الشائعة والسفسطات التي تخفي بها كل طبقة وكل فئة مطامعها الأنانية وحقيقة “دخيلتها”، وأن يعرف ما هي المؤسسات والقوانين التي تعكس هذه المصالح أو تلك وكيف تعكسها. وهذه “الصورة الواضحة” لا يستطيع العامل أن يجدها في أي كتاب: لا يستطيع أن يستمدها إلا من الصور الحية، إلا من التشهير الذي يذاع مباشرة إثر ما يجري حولنا في برهة ما ويصبح موضوعا يتحدث به الناس، جماعات أو أفرادا، أو يهمسون به على الأقل وما يتجلى في هذه أو تلك من الأحداث والأرقام والأحكام القضائية، الخ.، الخ.. إن هذا التشهير السياسي الذي يشمل جميع الميادين هو شرط أساسي لا بد منه لتربية نشاط الجماهير الثوري. لماذا لا يظهر العامل الروسي حتى الآن غير القليل من النشاط الثوري حيال ما يلقاه الشعب من وحشية الشرطة، حيال اضطهاد الشيع الدينية، حيال ضرب الفلاحين، حيال فضائح الرقابة، حيال تعذيب الجنود، حيال ملاحقة المبادرات الثقافية حتى أضعفها، وهلم جرا؟ أليس مرد ذلك إلى أن “النضال الإقتصادي” لا “يدفعه” إلى مثل هذا النشاط، وأن هذه الأمور “تبعث فيه الأمل” بقلة من “النتائج الحسية”، وتعطيه قلة من النتائج “الإيجابية”؟ لا. إن ادعاء المرء بمثل هذا يعني، ونكرر ذلك، محاولة لعزو أخطائه هو إلى الآخرين، عزو تفاهته (أي البرنشتينية) إلى جماهير العمال. إننا، إذا كنا لم نستطع حتى الآن تنظيم التشهير بجميع هذه السفالات بما ينبغي من السعة والسرعة والوضوح، فسبب ذلك نحن، سبب ذلك تأخرنا عن حركة الجماهير. إذا فعلنا ذلك (وهذا يجب علينا ونستطيع أن نفعله)، لرأينا حتى أكثر العمال تأخرا يدرك أو يحس أن الطالب وتابع البدعة الدينية، والفلاح والكاتب، يتلقى الإهانات والطغيان من تلك القوة السوداء نفسها التي تضغط عليه وتسحقه في كل خطوة من حياته، وما أن يحس حتى يرغب، حتى يرغب أشد الرغبة في أن يرد بنفسه، ويستطيع عندئذ أن ينظم: اليوم عرضا صاخبا في وجه المراقبين وغدا مظاهرة أمام دار حاكم قمع انتفاضة فلاحين، وبعد غد إلقاء درس على الدرك لابسي مسوح الكهان الذين يقيمون بأعمال محاكم التفتيش المقدسة، الخ.. إننا لم نعمل غير النزر القليل، لم نعمل تقريبا أي شيء لإلقاء تشهيرات بين جماهير العمال، تتناول مواضيع الساعة وتشمل جميع ميادين الحياة. حتى أن الكثيرين منا لم يدركوا بعد واجبهم هذا، ويستمرون على زحفهم العفوي خلف “النضال الجاري المعتاد” ضمن إطار الحياة المعملية الضيق. إن القول في مثل هذه الظروف بأن “”الإيسكرا” تميل إلى التقليل من أهمية تقدم النضال الجاري المعتاد بالقياس إلى الدعوة للأفكار البراقة والمتبلورة” (مارتينوف، ص 61) – يعني جر الحزب إلى الوراء والدفاع عن عدم استعدادنا وعن تأخرنا، والإشادة بهما. أما نداء الجماهير إلى العمل فهو أمر يأتي من تلقاء نفسه متى وجد التحريض السياسي النشيط والتشهير الواضح الحي. إن إلقاء القبض على مجرم متلبسا بالجريمة والتشهير به على الفور أمام الجميع وفي كل مكان، هو عمل يؤثر بحد ذاته تأثيرا أقوى من كل “نداء”، يؤثر في الغالب تأثيرا يتعذر معه فيما بعد معرفة الذي “نادى” الجموع، والذي وضع مشروع هذه المظاهرة أو تلك، الخ.. والنداء – بمعنى الكلمة الملموس، لا بمعناها العام – لا يمكن أن يحدث إلا في ساحة العمل نفسه، ولا يمكن أن ينادي إلا السائر مباشرة بنفسه في الساحة. وواجبنا نحن الكتاب الاشتراكيين-الديموقراطيين هو أن نعمق التشهير والتحريض السياسيين وأن نوسعهما ونقويهما. وللمناسبة لنقل الآن كلمة في “النداءات. لقد كانت “الإيسكرا” الجريدة الوحيدة التي نادت العمال، قبل حوادث الربيع(73)، إلى التدخل النشيط في مسألة لا تبعث فيهم على الإطلاق أي أمل بنتائج حسية – هي مسألة تجنيد الطلاب الإجباري. ففور إصدار قرار 11 كانون الثاني (يناير) بصدد “تجنيد 183 طالبا” وقبل الشروع بأية مظاهرة، نشرت “الإيسكرا” مقالا حول هذا الأمر (العدد 2، شباط – فبراير) ونادت جهارا “العامل إلى مساعدة الطالب”، نادت “الشعب” إلى الرد الصريح على هذا التحدي الفظ من قبل الحكومة. ونحن نسأل الجميع وكلا بمفرده: كيف نفسر هذا الواقع البليغ في دلالته – وهو أن مارتينوف الذي يتكلم عن “النداءات” بهذه الكثرة بل إنه يرفع “النداءات” إلى شكل خاص من أشكال النشاط، لم ينبس ببنت شفة عن هذا النداء؟ أفليس من النفاق بعد ذلك أن يعلن مارتينوف أن “الإيسكرا” لا ترى إلا ناحية واحدة لأنها لا “تنادي” بصورة كافية إلى النضال من أجل مطالب “تبعث الأمل بنتائج حسية”؟ لقد أحرز “اقتصاديو”نا، بما فيهم “رابوتشييه ديلو”، نجاحا لأنهم تكيفوا تبعا للعمال المتأخرين. ولكن العامل الإشتراكي-الديموقراطي، العامل الثوري (وعدد هؤلاء العمال في تزايد مستمر) سيرد بسخط على جميع هذه الحجج عن النضال من أجل مطالب “تبعث الأمل بنتائج حسية”، الخ.، لأنه سيفهم أن ذلك ليس غير شكل جديد الأغنية القديمة، أغنية الكوبيك المضاف إلى الروبل. إن هذا العامل سيقول لمن يسدون له النصائح في “رابوتشايا ميسل” و”رابوتشييه ديلو”: إنكم تخطئون أيها السادة في إزعاج أنفسكم هذا الإزعاج بتدخلكم هكذا في أمور نعالجها بأنفسنا وبتهربكم من واجباتكم الحقيقية. فليس من الفطنة إطلاقا أن تقولوا أن واجب الاشتراكيين-الديموقراطيين هو إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه، فذلك ليس إلا بداية، وما هو بمهمة الاشتراكيين-الديموقراطيين الرئيسية، لأنه، في العالم كله، بما في ذلك روسيا، ليس من النادر أن تكون الشرطة هي البادئة في إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي، فيأخذ العمال أنفسهم في تبين الجانب الذي تسانده الحكومة. والواقع أن “نضال العمال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة”، هذا النضال الذي تمتدحونه كما لو كنتم قد اكتشفتم أمريكا ثانية، يقوم به في المناطق الروسية المنسية العمال أنفسهم ممن سمعوا عن الإضرابات ولكنهم، على ما يبدو، يجهلون كل شيء عن الاشتراكية. والواقع أن “نشاطـ”ـنا، نحن العمال، الذي تريدون أنتم جميعا أن تؤيدوه، بوضع المطالب الملموسة التي تبعث الأمل بنتائج حسية هو نشاط موجود فينا. ونحن أنفسنا، في عملنا المهني اليومي الطفيف، كثيرا ما نضع هذه المطالب الملموسة دون أية مساعدة من قبل المثقفين. ولكن مثل هذا النشاط لا يكفينا. فنحن لسنا بأطفال يمكن إطعامهم من حساء السياسة “الإقتصادية” وحدها؛ نحن نريد أن نعرف كل ما يعرفه الآخرون، نريد الإطلاع على تفاصيل أوجه الحياة السياسية جميعها، وأن نشترك بنشاط في كل حادث سياسي مهما كان. وهذا يتطلب من المثقفين أن يقللوا من تكرار ما نعرفه نحن أنفسنا، وان يكثروا من إعطائنا ما لم نتوصل إلى معرفته، ما لا نستطيع أبدا أن نتوصل إلى معرفته من تجربتنا المعملية و”الإقتصادية” – ونعني المعرفة السياسية. تستطيعون أنتم، معشر المثقفين، أن تحصلوا على هذه المعرفة، وإنكم لملزمون بأن تقدموها لنا بأكثر مما فعلتم إلى اليوم بمئة بل بألف مرة، على أن لا تقدموها فقط بشكل محاكمات وكراريس ومقالات (هي في حالات كثيرة – واعذرونا على صراحتنا!- مملة بعض الشيء) بل حتما بشكل تشهير حي بما تفعله بالذات حكومتنا وطبقاتنا السائدة في هذا الظرف بالذات في جميع ميادين الحياة. هلموا إذن للقيام بواجبكم هذا بهمة أكبر وأقلوا من الكلام عن “رفع مستوى نشاط جماهير العمال”. فنشاطنا أكثر مما تظنون بكثير. فنحن نعرف كيف ندعم بالنضال السافر في الشارع حتى المطالب التي لا تبعث الأمل بأية “نتائج حسية”! لستم أنتم المدعوين لـ”رفع مستوى” نشاطنا، لأن النشاط بالذات هو ما ينقصكم أنتم. أقلوا من السجود أمام العفوية وأكثروا من التفكير برفع مستوى نشاطكم أنتم، أيها السادة!

د?) ما هو مشترك بين الإقتصادية والإرهابية؟ جمعنا آنفا، في زاوية الملاحظات، بين “اقتصادي” من جهة، وإرهابي غير اشتراكي-ديموقراطي من جهة أخرى، فظهرا متضامنين مصادفة. ولكن ثمة صلة تربط بينهما بوجه عام، صلة داخلية، ليست عرضية بل ضرورية. وسنعود إلى الحديث عنها فيما يأتي من البحث كما أنه من الضروري التطرق إليها فيما يخص مسألة تربية النشاط الثوري بالذات. لدى “الإقتصاديين” وإرهابيي اليوم جذر مشترك: هو بالضبط تقديس العفوية، الذي تكلمنا عنه في الفصل السابق كظاهرة عامة والذي سنتناوله الآن من حيث تأثيره في ميدان النشاط السياسي والنضال السياسي. وقد يبدو زعمنا هذا لأول وهلة متناقضا، إذ أن الفرق الظاهري كبير جدا بين أناس يضعون في المقام الأول “النضال الجاري المعتاد” وأناس يدعون الأفراد إلى نضال يتطلب الحد الأقصى من إنكار الذات. ولكن ليس ثمة هنا من تناقض. “فالاقتصاديون” والإرهابيون يقدسون قطبين مختلفين من التيار العفوي: “الإقتصاديون” يقدسون عفوية “الحركة العمالية الصرف” والإرهابيون يقدسون عفوية شديد سخط المثقفين الذين لا يعرفون أو لا يستطيعون أن يربطوا العمل الثوري بحركة العمال في كل واحد. وفي الحقيقة يصعب على من فقد إيمانه بهذه الإمكانية أو الذي لم يؤمن بها قط، أن يجد مخرجا لسخطه وهمته الثورية غير الإرهاب. وهكذا، إن تقديس العفوية في الإتجاهين المذكورين ليس إلا البدء بتحقيق برنامج “Credo” المشهور: العمال ينصرفون إلى “نضالهم الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة” (وليعذرنا واضع “Credo” إذ نعرب عن أفكاره بكلمات مارتينوف! ونعتقد أن ذلك من حقنا ما دام “Credo” هو الآخر يقول أن العمال “يصطدمون” في نضالهم الإقتصادي “بالنظام السياسي”)؛ أما المثقفون فيخوضون النضال السياسي بقواهم الخاصة، عن طريق الإرهاب طبعا! وهو استنتاج منطقي ومحتوم تماما لا بد من الإلحاح عليه، ولو كان الذين يشرعون بتحقيق هذا البرنامج لا يدركون هم أنفسهم حتميته. إن للنشاط السياسي منطقه المستقل عن إدراك الذين يدعون، عن حسن نية، إلى الإرهاب أو إلى إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه. إن جهنم مبلطة بالنوايا الطيبة، وفي هذه الحالة أيضا لا تمنع النوايا الطيبة من الانجرار العفوي في اتجاه “أهون السبل”، في اتجاه برنامج “Credo” البرجوازي الصرف. كذلك ليس من قبيل المصادفات أن نرى الكثيرين من الليبراليين الروس – الليبراليين البينين أوالمقنعين بالماركسية- يحبذون الإرهاب بكل جوارحهم ويسعون لدعم نهوض الميول الإرهابية في الظرف الحاضر. ونرى أن ظهور “جماعة سفوبودا الاشتراكية-الثورية” التي وضعت نصب عينيها بالضبط مهمة مساعدة حركة العمال بكل الوسائل، ولكنها سجلت في برنامجها الإرهاب وتحرير نفسها، إن أمكن القول، من الاشتراكية-الديموقراطية – إن هذا الواقع قد بين مرة أخرى وأخرى روعة نفاذ بصر ب.ب. آكسيلرود الذي تنبأ بالمعنى الحرفي للكلمة منذ أواخر سنة 1897 نتيجة التردد الإشتراكي-الديموقراطي هذه (“حول مسألة المهام الحالية والتكتيك”) ورسم “احتماليه” المشهورين. إن جميع المجادلات والخلافات التي حدثت بعد ذلك بين الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس يحتويها هذان الاحتمالان كما تحتوي البذرة النبتة•. ويتضح أيضا من وجهة النظر المذكورة أن “رابوتشييه ديلو” التي لم تصمد أمام عفوية “الإقتصادية” لم تستطع أن تصمد كذلك أمام عفوية الإرهابية. ومن المهم جدا أن نشير هنا إلى الحجج الفريدة في بابها والتي قدمتها “سفوبودا” دفاعا عن الإرهاب. فهي ” تنكر بصورة تامة” دور الإرهاب التخويفي (“بعث الثورية”، ص64)، ولكنها تشير في المقابل إلى “دوره التهييجي”. وهذا بليغ الدلالة، أولا، بوصفه مرحلة من مراحل تفسخ وانحطاط دائرة الأفكار التقليدية (السابقة للإشتراكية-الديموقراطية) التي كانت ترغم على التمسك بالإرهاب. فالإعتراف بأنه يستحيل الآن “تخويف” الحكومة بالإرهاب، وبالتالي بعث الانحلال فيها يعني، في الجوهر، شجب الإرهاب بصورة تامة بوصفه طريقة نضال، بوصفه ميدانا للنشاط يكرسه برنامج. وهو، ثانيا، أبعد في الدلالة بوصفه نموذجا يبين عدم فهم مهامنا الملحة في قضية “تربية نشاط الجماهير الثوري”. بيد أن “سفوبودا” تبشر بالإرهاب بوصفه وسيلة “تهييج” لحركة العمال، بوصفه “حافزا قويا” لها. إن من الصعب تصور حجة تدحض نفسها بنفسها بوضوح أكبر! إننا نسأل: هل خلت الحياة الروسية من المساوئ لدرجة تحمل على اختراع وسائل خاصة “للتهييج”؟ أوليس من الواضح، من الناحية الأخرى، أن الذي لا يهتاج ولا يمكن أن يهتاج حتى من جراء الطغيان الروسي، سينظر كذلك إلى المبارزة الدائرة بين الحكومة وقبضة الإرهابيين وهو “ينكش أنفه”؟ والواقع أن شناعات الحياة الروسية تهيج جماهير العمال لدرجة كبيرة ، ولكننا لا نحسن، إن أمكن التعبير، جمع وتركيز كل قطرات وجداول التهيج الشعبي التي تنضح من الحياة الروسية بكميات أكبر جدا مما نتصور ونحسب جميعا، والتي ينبغي مع ذلك جمعها بالضبط في سيل واحد جارف. وهي مهمة ممكنة التحقيق تماما، يبرهن على ذلك بما لا يقبل الدحض نهوض حركة العمال هذا النهوض الكبير وما أشرنا إليه فيما تقدم من شدة تعطش العمال إلى المطبوعات السياسية. أما النداءات إلى الإرهاب فإنها مثل النداءات إلى إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه، ليست إلا أشكالا مختلفة للتهرب من ألح واجبات الثوريين الروس: تنظيم التحريض السياسي بجميع أشكاله. إن “سفوبودا” تريد أن تحل الإرهاب محل التحريض، معترفة صراحة بأن “دوره التهييجي ينتهي منذ أن يبدأ التحريض النشيط القوي بين الجماهير” (ص 68 من “بعث الثورية”). وهذا ما يدل بالضبط على أن الإرهابيين “والإقتصاديين” على حد سواء يستصغرون نشاط الجماهير الثوري، بالرغم من الشهادة الواضحة التي قدمتها حوادث الربيع، فهؤلاء يندفعون إلى البحث عن “مهيجات” مصطنعة، وأولئك يتحدثون عن “المطالب الملموسة”. وهؤلاء وأولئك لا يلتفون التفافا كافيا إلى رفع نشاطهم هم في ميدان التحريض السياسي وتنظيم التشهير السياسي. مع أن شيئا لا يمكن أن يحل محل هذا الأمر، لا في الوقت الحاضر ولا في أي وقت آخر.

هـ) الطبقة العاملة مناضل طليعي من أجل الديموقراطية لقد رأينا أن القيام بالتحريض السياسي بأوسع شكل، وبالتالي تنظيم التشهير السياسي الشامل، هو مهمة ضرورية دون قيد أو شرط، هو مهمة النشاط ذات الضرورة الأكثر إلحاحا، إذا كان هذا النشاط إشتراكيا-ديموقراطيا حقا. ولكننا خلصنا إلى هذا الاستنتاج منطلقين فقط من حاجة الطبقة العاملة الملحة إلى المعرفة السياسية والتربية السياسية. إلا أن طرح المسألة على هذا الشكل وحده يكون ضيقا جدا ويغفل المهام الديموقراطية العامة التي تواجه كل اشتراكية-ديموقراطية بوجه عام والاشتراكية-الديموقراطية الروسية المعاصرة بوجه خاص. ولكيما نشرح هذا الأمر بأوضح شكل سنحاول تناول المسألة من الناحية “الأقرب” إلى “الإقتصاديين”، من الناحية العملية بالضبط. إن “كل الناس متفقون” على ضرورة إنماء وعي الطبقة العاملة السياسي. والسؤال هو: كيف نقوم بذلك وماذا ينبغي للقيام بذلك؟ إن النضال الإقتصادي لا “يصدم” العمال إلا بمسائل موقف الحكومة من الطبقة العاملة. ولذلك مهما بذلنا من جهد في “إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه”، لا نستطيع أبدا أن نصل إلى إنماء وعي العمال السياسي (إلى درجة الوعي السياسي الإشتراكي-الديموقراطي) ضمن إطار هذه المهمة، لأن هذا الإطار نفسه ضيق. إن صيغة مارتينوف ذات قيمة في نظرنا، لا لأنها تدل على موهبة مارتينوف في التشويش، بل لأنها تدل بجلاء على الخطأ الرئيسي الذي يقترفه جميع “الإقتصاديين”، ونعني الاعتقاد بأنه يمكن إنماء وعي العمال السياسي الطبقي من داخل نضالهم الإقتصادي، إن أمكن القول، أي انطلاقا من هذا النضال وحده (أو منه بصورة رئيسية على الأقل). وهذا الرأي مغلوط من أساسه، وبما أن “الإقتصاديين”، من غضبهم علينا لجدالنا إياهم، لا يريدون أن يعملوا الفكر في مصدر خلافاتنا، يكون الحاصل أننا لا نفهم بعضنا بعضا بالمعنى الحرفي للكلمة ونتكلم بلغات مختلفة. إن الوعي السياسي الطبقي لا يمكن حمله إلى العامل إلا من الخارج، أي من خارج النضال الإقتصادي، من خارج دائرة العلاقات بين العمال وأصحاب الأعمال. فالميدان الوحيد الذي يمكن أن نستمد منه هذه المعرفة هو ميدان علاقات جميع الطبقات والفئات تجاه الدولة والحكومة، ميدان علاقات جميع الطبقات بعضها تجاه بعض. ولذلك، على سؤال: ماذا ينبغي لحمل المعرفة السياسية إلى العمال؟ لا يمكن تقديم ذلك الجواب الوحيد الذي يكتفي به في معظم الحالات المشتغلون في الميدان العملي، فضلا عن أولئك الذين يميلون منهم إلى “الإقتصادية”، ونعني جواب: “التوجه إلى العمال”. فلكيما يحمل الإشتراكيون-الديموقراطيون إلى العمال المعرفة السياسية ينبغي لهم التوجه إلى جميع طبقات السكان، ينبغي لهم أن يرسلوا فصائل جيشهم إلى جميع الجهات. إذا كنا قد تعمدنا هذه الصيغة الخشنة، إذا كنا قد تعمدنا هذا التبسيط الجارح في التعبير، فليس منشأ ذلك الرغبة في الاغراب، بل الرغبة في “صدم” “الإقتصاديين” صدما بتلك المهام التي يغفلونها بشكل لا يغتفر، بذلك الفرق الذي لا يريدون فهمه، والموجود بين السياسة التريديونيونية والسياسة الاشتراكية-الديموقراطية. ولذلك نطلب إلى القارئ أن يتذرع بالصبر وأن يصغي إلينا بانتباه حتى النهاية. خذوا نموذج الحلقة الاشتراكية-الديموقراطية الأوسع انتشارا في السنوات الأخيرة وأمعنوا النظر في عملها. إن لها “صلات بالعمال” وإنها لقانعة بذلك، وهي تنشر المنشورات التي تندد فيها بما يجري في المعامل من التجاوزات وبسلوك الحكومة الممالئ للرأسماليين وبالطغيان البوليسي. والحديث في اجتماعات العمال لا يخرج في المعتاد عن إطار المواضيع نفسها أو يكاد لا يخرج عنها؛ أما المحاضرات والأحاديث عن تاريخ الحركة الثورية وعن قضايا سياسة حكومتنا في الحقلين الداخلي والخارجي وعن مسائل التطور الإقتصادي في روسيا وفي أوروبا وعن وضع هذه أو تلك من الطبقات في المجتمع الراهن، الخ.، فهي نادرة جدا، ولا يخطر ببال أحد أن يعقد وينمي الصلات بصورة دائبة في طبقات المجتمع الأخرى. والحق أن المثل الأعلى للمناضل، في نظر أعضاء مثل هذه الحلقة، هو، في معظم الأحيان، أشبه كثيرا بسكرتير التريديونيون منه بالاشتراكي، الزعيم السياسي. وبالفعل، إن سكرتير أي تريديونيون، سكرتير تريديونيون إنكليزي، مثلا، يساعد العمال دائما على القيام بالنضال الإقتصادي، وينظم التشهير بالحياة في المعامل، ويشرح الظلم الكامن في القوانين والتدابير التي تقيد حرية الإضراب وحرية إقامة مراكز الحراسة (لتنبيه الجميع وكل فرد إلى أن عمال هذا المعمل أو ذاك مضربون) ويبين تحيز الحكم الذي ينتمي إلى طبقات الشعب البرجوازية، الخ.، الخ.. وباقتضاب، إن كل سكرتير لتريديونيون يقوم ويساعد على القيام بـ”النضال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة”. ولسنا نغالي مهما ألححنا في القول أن ذلك ليس بعد بالاشتراكية-الديموقراطية، وأن المثل الأعلى للإشتراكي-الديموقراطي لا ينبغي أن يكون سكرتير التريديونيون، بل الخطيب الشعبي الذي يحسن الرد على كل مظهر من مظاهر الطغيان والظلم بصرف النظر عن مكان حدوثه وعن الفئة أو الطبقة التي يصيبها هذا الطغيان والظلم، يحسن تلخيص جميع هذه المظاهر ويخلق منها لوحة تامة للطغيان البوليسي وللإستثمار الرأسمالي، يحسن الاستفادة من كل أمر تافه لكي يعرض أمام الجميع عقائده الاشتراكية ومطالبه الديموقراطية ولكي يشرح للجميع ولكل فرد الأهمية التاريخية العالمية لنضال البروليتاريا التحريري. قارنوا مثلا بين روبرت نايت (السكرتير والقائد المعروف لجمعية عمال المراجل، وهي من أقوى التريديونيونات في إنكلترا) وولهلم ليبكنخت، وطبقوا عليهما المتضادات التي لخص بها مارتينوف خلافاته مع “الإيسكرا”، تروا – وإني لأبدأ بتصفح مقال مارتينوف – أن ر. نايت قد تفوق جدا في “مناداة الجماهير إلى أعمال معينة ملموسة” (ص 39) وأن و. ليبكنخت قد تفوق “في الإنصراف إلى شرح ثوري للنظام الراهن بأكمله أو لمظاهره الجزئية” (ص ص 38-39)؛ وأن ر. نايت قد “صاغ مطالب البروليتاريا المباشرة وبين طرق تحقيقها” (ص 41) وأن و. ليبكنخت قد قام بذلك دون أن يستنكف من أن “يقود في الوقت نفسه العمل النشيط لمختلف الفئات المعارضة” ومن أن “يملي عليها برنامجا إيجابيا للعمل”• (ص 41)؛ وأن ر. نايت قد بذل جهده على وجه الدقة “ليضفي الطابع السياسي، بقدر الإمكان، على النضال الإقتصادي نفسه” (ص 42) وأنه كان بارعا في “مطالبة الحكومة بإجراءات ملموسة تبعث الأمل ببعض النتائج الحسية” (ص43)، في حين أن و. ليبكنخت قد بذل جهدا أكبر بكثير في “التشهير” “الوحيد الجانب” (ص 40)؛ وأن ر. نايت قد أضفى أهمية أكبر على “تقدم النضال الجاري المعتاد” (ص 61)، وأن و. ليبكنخت قد أعار أهمية أكبر “للدعوة إلى الأفكار البراقة المتبلورة (ص 61)؛ وأن و. ليبكنخت قد جعل من الجريدة التي يشرف عليها “جريدة للمعارضة الثورية تشهر بأوضاعنا، ولا سيما بالأوضاع السياسية، ما دامت تصطدم بمصالح مختلف فئات السكان” (ص 63)، في حين أن ر. نايت قد “عمل لقضية العمال على صلة عضوية وثيقة بالنضال البروليتاري” (ص 63)، – إذا فهمنا “الصلة العضوية الوثيقة” بمعنى تقديس العفوية الذي درسناه أعلاه استنادا إلى مثل كريتشيفسكي ومارتينوف،- و”ضيق ميدان تأثيره” متأكدا على غرار مارتينوف طبعا من أنه “يزيد بذلك تركيز التأثير نفسه” (ص 63). وبكلمة، ترون أن مارتينوف يهوي de facto بالاشتراكية-الديموقراطية إلى مستوى التريديونيونية، لا بالطبع لأنه لا يريد الخير للإشتراكية-الديموقراطية، بل لأنه يتسرع بعض الشيء في تعميق بليخانوف، بدلا من أن يبذل جهده لفهمه. ولكن لنعد إلى بحثنا. لقد قلنا أنه يجب على الإشتراكي-الديموقراطي، إذا كان اعترافه بضرورة إنماء وعي البروليتاريا السياسي الشامل لا يقف عند حد القول، أن “يتوجه إلى جميع طبقات السكان”. وهنا تطرح الأسئلة التالية: كيف نقوم بذلك؟ ألدينا من القوى ما يكفي لذلك؟ هل من صعيد لمثل هذا العمل في جميع الطبقات الأخرى؟ ألا يعني هذا تراجعا، أو يؤدي إلى التراجع عن وجهة النظر الطبقية؟ لنتناول هذه المسائل. ينبغي لنا أن “نتوجه إلى جميع طبقات السكان” بوصفنا نظريين وبوصفنا محرضين وبوصفنا منظمين. لا يشك أحد في أنه ينبغي لعمل الاشتراكيين-الديموقراطيين النظري أن يتجه لدراسة جميع خصائص الوضع الإجتماعي والسياسي لمختلف الطبقات. ولكن العمل في هذا الإتجاه قليل – قليل جدا، أقل بكثير من العمل الذي يجري لدراسة خصائص حياة المعامل، إنكم تصادفون في اللجان والحلقات أناسا يتعمقون في تخصص في دراسة هذا الميدان أو ذاك من ميادين إنتاج الحديد، ولكنكم لا تصادفون تقريبا مثلا يستدل منه على أن أعضاء المنظمات (المضطرين كما يحدث في كثير من الحالات إلى ترك النشاط العملي لسبب من الأسباب) ينصرفون بصورة خاصة إلى جمع مواد حول قضية من قضايا الساعة في حياتنا الإجتماعية والسياسية يمكن أن تتيح للإشتراكية-الديموقراطية فرصة العمل بين فئات السكان الأخرى. ونحن، عندما نتكلم عن ضعف الإستعداد لدى معظم قادة حركة العمال الحاليين، لا يسعنا إلا أن نذكر التحضير في هذا الحقل أيضا، إذ أنه مرتبط كذلك بالمفهوم “الإقتصادي” “للصلة العضوية الوثيقة بالنضال البروليتاري”. ولكن الأمر الأهم طبعا هو الدعاية والتحريض بين جميع فئات الشعب. إن ما ييسر هذا الواجب على الإشتراكي-الديموقراطي في أوروبا الغربية إنما هي الإجتماعات والتجمهرات العامة التي يحضرها كل راغب، وييسره البرلمان الذي يتكلم فيه أمام نواب من جميع الطبقات. أما نحن فليس لدينا برلمان ولا حرية اجتماع. ولكننا نحسن مع ذلك تنظيم إجتماعات للعمال الذين يريدون أن يصغوا إلى إشتراكي-ديموقراطي. وينبغي لنا أن نحسن كذلك تنظيم اجتماعات يحضرها ممثلو جميع طبقات السكان الذين يريدون أن يصغوا إلى ديموقراطي. لأنه ليس باشتراكي-ديموقراطي من ينسى عمليا أن “الشيوعيين يؤيدون كل حركة ثورية”(75)، وأننا تبعا لذلك ملزمون بأن نعرض أمام الشعب كله ونشدد على المهام الديموقراطية العامة دون أن نخفي لحظة واحدة عقائدنا الاشتراكية. ليس باشتراكي-ديموقراطي من ينسى عمليا أنه ملزم بأن يكون أول من يطرح ويشحذ ويحل كل مسألة من المسائل الديموقراطية العامة. قد يقاطعنا القارئ غير الصبور قائلا: “إن الجميع دون استثناء متفقون على ذلك!” وإن التعليمات الجديدة إلى هيئة تحرير “رابوتشييه ديلو”، هذه التعليمات التي اتخذت في آخر مؤتمر “للإتحاد”، تقول بصراحة: “ينبغي أن يستفاد، من أجل الدعاية والتحريض السياسيين، من جميع ظواهر وأحداث الحياة الإجتماعية والسياسية التي تمس البروليتاريا إما مباشرة بوصفها طبقة على حدة وإما بوصفها طليعة جميع القوى الثورية في النضال من أجل الحرية” (“مؤتمران”، ص 17. حرف التأكيد لنا). أجل، إنها لكلمات طيبة وصحيحة كل الصحة، ونكون راضين كل الرضى لو فهمتها “رابوتشييه ديلو”، ولو لم تقل إلى جانب هذه الكلمات ما يناقضها. إذ لا يكفي اتخاذ اسم “الطليعة”، أو الفصيلة الأمامية؛ بل ينبغي أن نعمل بشكل يحمل جميع الفصائل الأخرى على أن ترى وعلى أن تعترف بأننا نسير في المقدمة. ونحن نسائل القارئ: هل ممثلو “الفصائل” الأخرى من البلاهة بحيث يصدقوننا لمجرد ادعائنا بأننا “الطليعة”؟ بحسبكم أن تتصوروا هذا المشهد: يذهب اشتراكي-ديموقراطي إلى “فصيلة” الراديكاليين الروس المثقفين أو الدستوريين الليبراليين ويقول: نحن الطليعة؛ “وتواجهنا الآن المهمة التالية: كيف نضفي الطابع السياسي، بقدر الإمكان، على النضال الإقتصادي نفسه”. وما أن يسمع هذا الخطاب راديكالي أو دستوري ذكي لدرجة ما (والأذكياء على كل حال كثيرون بين الراديكاليين والدستوريين الروس) حتى يبتسم ويقول (في نفسه طبعا، لأنه في معظم الحالات ديبلوماسي خبير): “كم هي ساذجة هذه “الطليعة”! إنها عاجزة حتى عن أن تفهم أن إضفاء الطابع السياسي على نضال العمال الإقتصادي نفسه هو مهمتنا، مهمة ممثلي الديموقراطية البرجوازية المتقدمين. فنحن أيضا كشأن جميع البرجوازيين في أوروبا الغربية، نريد أن نجذب العمال إلى السياسة، ولكن السياسة التريديونيونية على وجه الضبط، لا السياسة الاشتراكية-الديموقراطية. فالسياسة التريديونيونية لطبقة العمال هي على وجه الدقة السياسة البرجوازية لطبقة العمال. وعندما تضع هذه “الطليعة” صيغة لمهمتها فهي بالضبط تضع صيغة السياسة التريديونيونية! فليقولوا عن أنفسهم أنهم إشتراكيون-ديموقراطيون ما طاب لهم ذلك. فأنا لست في الحقيقة طفلا أغضب لمجرد الألقاب! المهم أن لا ينجروا مع هؤلاء الأشرار أصحاب العقيدة الجامدة، الأرثوذكس، المهم أن يتركوا “حرية النقد” إلى الذين يجرون الاشتراكية-الديموقراطية عن غير وعي إلى المجرى التريديونيوني!” وتنقلب بسمة هذا الدستوري الناعمة إلى قهقهة عاصفة عندما يعلم أن الاشتراكيين-الديموقراطيين الذين يتكلمون عن دور الاشتراكية-الديموقراطية الطليعي في هذا الوقت الذي تكاد فيه العفوية تسيطر سيطرة تامة في حركتنا لا يخشون شيئا كخشيتهم “الإنتقاص من شأن العنصر العفوي”، كخشيتهم “التقليل من أهمية تقدم النضال الجاري المعتاد بالقياس إلى الدعوة للأفكار البراقة والمتبلورة”، الخ.، الخ.! أهي فصيلة “الطليعة” التي تخشى أن يسبق الوعي العفوية، التي تخشى وضع “مشروع” جرئ ينتزع اعتراف الجميع حتى من الذين يفكرون على نمط آخر! أتراهم يخلطون بين كلمة الطليعة وكلمة المؤخرة؟ اعملوا الفكر حقا في حجة مارتينوف التالية. إنه يقول في الصفحة 40 أن تكتيك “الإيسكرا” التشهيري ذو وجه واحد وأننا “مهما بذرنا من بذور الحذر والحقد حيال الحكومة، لا نبلغ الهدف ما لم يتيسر لنا تنمية همة اجتماعية نشيطة لدرجة تكفي لإسقاطها”. ونقول بين قوسين أن هذا هو ما قد عرفناه من الإهتمام بإنماء نشاط الجماهير مع النزوع إلى التقليل من نشاطهم أنفسهم. ولكن القضية لا تكمن في هذا الآن. إن مارتينوف يتحدث هنا، إذن، عن الهمة الثورية (“من أجل الإسقاط”). وإلى أي استنتاج يخلص؟ بما أن الفئات الإجتماعية المختلفة تتجه حتما في الوقت العادي اتجاهات مختلفة، “يتضح نظرا لذلك أننا نحن الاشتراكيين-الديموقراطيين لا نستطيع أن نقود في وقت واحد العمل النشيط لمختلف الفئات المعارضة، لا نستطيع أن نملي عليها برنامجا إيجابيا للعمل، لا نستطيع أن نبين لها الطرق التي ينبغي لها أن تتبعها في نضالها اليومي من أجل مصالحها… أما الفئات الليبرالية فتهتم هي نفسها بالنضال النشيط من أجل مصالحها المباشرة، ذلك النضال الذي يصدمها وجها لوجه بنظامنا السياسي” (ص 41). وهكذا فإن مارتينوف ما إن بدأ بالكلام عن الهمة الثورية، عن النضال النشيط من أجل إسقاط الحكم المطلق، حتى انزلق إلى الهمة المهنية، إلى النضال النشيط من أجل المصالح المباشرة! غني عن القول أننا لا نستطيع أن نقود نضال الطلاب والليبراليين وغيرهم، من أجل “مصالحهم المباشرة”، ولكن الحديث لم يدر في هذا الموضوع يا أيها “الإقتصادي” المحترم! لقد تحدثنا عن اشتراك مختلف الفئات الإجتماعية الممكن والضروري في إسقاط الحكم المطلق. وهذا “العمل النشيط لمختلف الفئات المعارضة” لا نستطيع قيادته وحسب، بل يجب علينا أن نقوده حتما، إذا كنا نريد أن نكون “الطليعة”. أما “صدم” طلابنا وليبيراليينا وغيرهم “وجها لوجه بنظامنا السياسي” فهو أمر لا يهتمون هم به وحسب، بل إنه الأمر الذي تهتم به قبل الجميع وأكثر من الجميع، الشرطة نفسها، وموظفو الحكومة الاستبدادية أنفسهم. ولكن ينبغي لنا “نحن” إذا كنا نريد أن نكون ديموقراطيين طليعيين، أن نهتم بصدم المستائين على وجه الخصوص من الحالة السائدة في الجامعات وحدها، أو في الزيمستفوات وحدها، الخ.، بفكرة أن النظام السياسي كله غير صالح. ينبغي لنا أن نأخذ على عاتقنا مهمة تنظيم نضال سياسي شامل تحت قيادة حزبنا نحن بشكل يمكن سائر الفئات المعارضة على اختلافها من أن تقدم لهذا النضال ولهذا الحزب، ويجعلها تقدم بالفعل ما في وسعها من مساعدة. ينبغي لنا أن نخلق من الاشتراكيين-الديموقراطيين المشتغلين في الميدان العملي، قادة سياسيين يحسنون قيادة جميع مظاهر هذا النضال الشامل، يحسنون في اللحظة المناسبة “إملاء برنامج إيجابي للعمل” على الطلبة الذين هم في غليان، وعلى الزيمستفويين الساخطين، وعلى أتباع البدع الغاضبين وعلى المعلمين الشعبيين المظلومين، الخ.، الخ.. ولذا ليس بصحيح على الإطلاق ما يزعمه مارتينوف من أننا “لا نستطيع أن نبرز حيال هذه الفئات إلا في دور سلبي، إلا في دور المشهر بالأوضاع… لا نستطيع سوى تبديد آمالها في مختلف اللجان الحكومية” (حرف التأكيد لنا). إن مارتينوف يبرهن بقوله هذا أنه لا يفهم أي شيء على الإطلاق في مسألة دور “الطليعة” الثورية الحقيقي. وإذا ما أخذ القارئ ذلك بعين الإعتبار، اتضح له المعنى الحقيقي لكلمات مارتينوف هذه: “”الإيسكرا” هي جريدة المعارضة الثورية وهي تشهر بأوضاعنا والسياسية منها بصورة رئيسية ما دامت تصطدم بمصالح مختلف فئات السكان. أما نحن فنعمل وسنعمل لقضية العمال على صلة عضوية وثيقة بالنضال البروليتاري. ونحن بتضييقنا ميدان تأثيرنا نزيد بذلك تركيز التأثير نفسه” (ص 63). إن المعنى الحقيقي لهذا الإستنتاج هو أن الإيسكرا” تريد رفع مستوى السياسة التريديونيونية لطبقة العمال (التي يكتفي بها المشتغلون في الميدان العملي عندنا في حالات كثيرة، إما لسوء الفهم أو لعدم الإستعداد أو بسبب الإعتقاد) إلى مستوى السياسة الاشتراكية-الديموقراطية. أما “رابوتشييه ديلو” فتريد أن تهوي بالسياسة الاشتراكية-الديموقراطية إلى مستوى السياسة التريديونيونية. وهي في أثناء ذلك تؤكد للجميع ولكل بمفرده أن هذين “موقفان قابلان للاتفاق كليا في القضية العامة” (ص 63)O, sancta simplicitas! وبعد، هل نملك من القوى ما يكفي لتوجيه دعايتنا وتحريضنا إلى جميع طبقات السكان؟ نعم، بكل تأكيد. “فاقتصاديو”نا الذين يميلون في كثير من الأحيان إلى إنكار ذلك، يغفلون الخطوة الكبرى التي خطتها حركتنا إلى الأمام منذ سنة 1894 (تقريبا) حتى سنة 1901. فهم لكونهم “ذيليين” حقا يعيشون في الغالب بتصورات عهد بداية الحركة الذي انصرم منذ وقت بعيد. في ذلك الحين كانت قوانا في الحقيقة قليلة جدا، في ذلك الحين كان من الطبيعي والمشروع أن نلح على الإنصراف بكل قوانا إلى العمل بين العمال وأن نشجب بشدة كل انحراف عنه، فقد كانت المهمة كلها تنحصر آنئذ في توطيد مواقعنا في صفوف الطبقة العاملة. أما اليوم فقد انجذبت إلى الحركة قوى كبرى، وإلينا تتجه نخبة ممثلي الجيل الناشئ من الطبقات المثقفة، ويضطر دائما وأبدا للإقامة في جميع الأقاليم أناس ساهموا في الحركة أو لديهم رغبة بالمساهمة فيها، أناس يميلون إلى الاشتراكية-الديموقراطية (بينما كان الإشتراكيون-الديموقراطيون الروس يعدون على أصابع اليد في سنة 1894). إن أحد النواقص الأساسية، السياسية والتنظيمية، في حركتنا، هو كوننا لا نحسن استخدام جميع هذه القوى وتكليف الجميع بالعمل الملائم لهم (وسنتكلم عن ذلك بمزيد من التفصيل في الفصل التالي). والأكثرية الكبرى من هذه القوى محرومة تماما من كل إمكانيات “التوجه إلى العمال” بشكل لا مجال معه إلى الحديث عن خطر تحويل القوى عن قضيتنا الأساسية. ولكيما نقدم للعمال المعرفة السياسية الحية الشاملة الحقيقية، يجب أن يكون لدينا “رجالنا”، يجب أن يكون لدينا اشتراكيون-ديموقراطيون في كل مكان، في جميع الفئات الإجتماعية وفي جميع المواقع التي توفر إمكانية معرفة النوابض الداخلية لآلة دولتنا. ونحن بحاجة إلى هؤلاء الناس لا للدعاية والتحريض وحسب، بل أيضا، وعلى وجه الخصوص، للتنظيم. وهل من صعيد للعمل بين جميع طبقات السكان؟ إن من لا يرى ذلك يثبت مرة أخرى أن وعيه متخلف عن نهوض الجماهير العفوي. لقد أثارت الحركة العمالية ولا تزال تثير لدى بعضهم الإستياء، ولدى آخرين الأمل بتأييد المعارضة، ولدى قسم ثالث إدراك تعذر الحكم المطلق وحتمية انهياره. إننا لا نكون “ساسة” واشتراكيين-ديموقراطيين إلا بالقول (كثيرا جدا ما يحدث ذلك في الحياة) إذا لم ندرك أن من واجبنا أن نستفيد من جميع مظاهر الاستياء على اختلافها، أن نجمع وندرس جميع بذور الاحتجاج ولو كان في حالة جنينية. ناهيك عن أن الملايين والملايين من الفلاحين الكادحين والحرفيين وصغار المنتجين وغيرهم، ستصغي على الدوام بتعطش إلى دعاية اشتراكي-ديموقراطي ماهر إلى حد ما. ولكن هل من الممكن أن نشير ولو إلى طبقة من طبقات السكان تخلو من أشخاص وجماعات وحلقات من الساخطين على الاستبداد والطغيان، والقابلين بالتالي لدعاية الإشتراكي-الديموقراطي، المفصح عن أشد الأماني الديموقراطية العامة إلحاحا؟ وإذا أراد أحد أن يكوّن لنفسه صورة ملموسة عن هذا التحريض السياسي للإشتراكي-الديموقراطي بين جميع طبقات السكان وفئاتهم، فنحن ندله على التشهير السياسي بمعنى الكلمة الواسع بوصفه الوسيلة الرئيسية (ولكن لا الوحيدة طبعا) لهذا التحريض. لقد كتبت في مقالي “بم نبدأ؟” (“الإيسكرا”، العدد 4، أيار – مايو- سنة 1901)، هذا المقال الذي سنتحدث عنه بتفصيل فيما يأتي من البحث: “ينبغي لنا أن نوقظ الشغف إلى التشهير السياسي في جميع فئات السكان الواعين بعض الشيء ولا ينبغي أن نتهيب حيال ما نراه اليوم من ضعف وندرة ووجل من الناحية السياسية في أصوات التشهير. فسبب ذلك ليس البتة تسليم الجميع بالطغيان البوليسي، سبب ذلك هو كون الناس القادرين على التشهير والمستعدين له، لا يجدون منبرا يرفعون منه أصواتهم، لا يجدون بيئة تصغي إلى الخطباء بانتباه وتشجعهم، لا يرون هنا وهناك في الشعب قوة تستحق جهد التوجه إليها بالشكاية من الحكومة الروسية “ذات الحول والطول”… وفي وسعنا اليوم ومن واجبنا إنشاء منبر للتشهير بالحكومة القيصرية أمام الشعب كله. وهذا المنبر ينبغي أن يكون الجريدة الاشتراكية-الديموقراطية”. والبيئة المثلى لهذا التشهير السياسي هي بالذات الطبقة العاملة التي تحتاج قبل كل شيء وأكثر ما تحتاج إلى المعرفة السياسية الحية والشاملة، الطبقة العاملة التي تفوق الجميع في قدرتها على تحويل هذه المعرفة إلى نضال نشيط وإن كان لا يبعث الأمل بأية “نتائج حسية”. أما منبر التشهير أمام الشعب كله فلا يمكن أن يكون غير جريدة لعامة روسيا. “فبدون جريدة سياسية لا يمكن في أوروبا الراهنة تصور حركة جديرة بأن توصف بأنها سياسية”. وروسيا من وجهة النظر هذه هي أيضا دونما شك من أوروبا الراهنة. فمنذ أمد بعيد غدت الصحافة عندنا قوة، وإلا لما أنفقت الحكومة عشرات الألوف من الروبلات لرشوتها ولتمويل أناس من أمثال كاتكوف وميشيرسكي. وليس بالحادث الجديد في روسيا ذات الحكم المطلق أن تحطم الصحف السرية حواجز الرقابة وتجبر الجرائد العلنية والمحافظة على التحدث عنها جهارا. فقد حدث ذلك في سنوات العقد الثامن وحتى في سنوات العقد السادس. ولكم ازدادت اليوم سعة وعمقا الفئات الشعبية المستعدة لقراءة الصحف السرية وللتعلم منها “كيف تحيا وكيف تموت”، على حد تعبير عامل وجه رسالة إلى “الإيسكرا” (العدد 7). إن التشهير السياسي هو إعلان الحرب على الحكومة مثلما أن التشهير الإقتصادي هو إعلان الحرب على صاحب المعمل. ويكتسب إعلان الحرب هذا أهمية معنوية تزداد بمقدار ما تتسع وتقوى حملة التشهير هذه، وبمقدار ما تزداد عددا وعزما الطبقة الإجتماعية التي تعلن الحرب لتبدأ الحرب. ولذلك فالتشهير السياسي هو بحد ذاته وسيلة قوية من وسائل تفسيخ النظام المعادي، وسائل فصل العدو عن حلفائه الطارئين أو المؤقتين، وسائل بذر بذور العداء والحذر بين المشتركين الدائمين في السلطة الإستبدادية. لا يمكن أن يصبح طليعة للقوى الثورية في زمننا غير الحزب الذي ينظم تشهيرا يسترعي انتباه الشعب كله حقا. ولكلمة “الشعب كله” مضمون كبير جدا. والأكثرية الكبرى من المشهرين الذين لا ينتسبون إلى الطبقة العاملة (والحال أن من يريد أن يكون الطليعة ينبغي له أن يجذب الطبقات الأخرى) هم ساسة حُصفاء وأناس عمليون رابطو الجأش، يعرفون حق المعرفة مبلغ خطر “الشكوى” حتى من موظف صغير، ناهيك عن الحكومة الروسية “ذات الحول والطول”. وهم لن يتوجهوا إلينا بالشكوى، إلا عندما يرون أنها ستكون فعلا ذات تأثير، وأننا قوة سياسية. ولكيما نصبح مثل هذه القوة في نظر الآخرين لا يكفي أن نعلق لافتة “الطليعة” على نظرية المؤخرة وممارستها، بل ينبغي لنا أن نعمل بدأب وإصرار على رفع مستوى وعينا ومبادرتنا وهمتنا. سيسألنا، ولقد سألنا بالفعل، المتحمس حماسا يفوق المعقول “للصلة العضوية الوثيقة بالنضال البروليتاري”: – ولكن إذا كان ينبغي لنا أن نأخذ على عاتقنا تنظيم تشهير بالحكومة يستدعي انتباه الشعب كله حقا، فبم يتجلى طابع حركتنا الطبقي؟ – إنه يتجلى في كون تنظيم هذا التشهير الذي يسترعي انتباه الشعب كله يجري بالذات من قبلنا نحن الاشتراكيين-الديموقراطيين؛ – يتجلى في كون شرح جميع القضايا التي يثيرها التحريض سيجري على الدوام بالروح الاشتراكية-الديموقراطية دون أي تسامح بتشويه الماركسية عن قصد أو غير قصد؛ – يتجلى في كون هذا التحريض السياسي الشامل سيجري من قبل حزب يوحد في كل لا يتجزأ، الهجوم على الحكومة باسم الشعب كله وتربية البروليتاريا تربية ثورية مع الإحتفاظ باستقلالها السياسي، وقيادة نضال الطبقة العاملة الاقتصادي والاستفادة من اصطداماتها العفوية مع مستثمريها، هذه الإصطدامات التي تستنهض وتجذب إلى معسكرنا فئات جديدة وجديدة من البروليتاريا! ولكن إحدى السمات المميزة جدا “للإقتصادية” هي بالضبط عدم فهم هذه الصلة، بل قل عدم فهم هذا التوافق بين ما تحتاج إليه البروليتاريا أشد الحاجة (التربية السياسية الشاملة عن طريق التحريض والتشهير السياسيين) وما تحتاج إليه الحركة الديموقراطية العامة. وعدم الفهم هذا لا يتجلى في العبارات “المارتينوفية” وحسب، بل يتجلى أيضا في استشهادات بوجهة نظر طبقية مزعومة، استشهادات يطابق معناها هذه العبارات كل المطابقة. إليكم، مثلا، كيف يفصح عن ذلك واضعو الرسالة “الإقتصادية” في العدد 12 من “الإيسكرا”: “إن نقص “الإيسكرا” الأساسي نفسه (المغالاة في أهمية الإيديولوجيا) هو سبب عدم تماسكها في المسائل المتعلقة بموقف الاشتراكية-الديموقراطية من مختلف الطبقات والإتجاهات الإجتماعية. إن “الإيسكرا”، بعد أن حلت، عن طريق الحسابات النظرية…” (لا عن طريق “نمو المهام الحزبية النامية مع نمو الحزب…”) “مهمة الإنتقال الفوري إلى النضال ضد الإستبداد، وبما أنها تشعر، في أكبر الظن، بكل صعوباتها بالنسبة للعمال في الأوضاع الراهنة”… (إنها لا تشعر وحسب، بل تعلم حق العلم أن هذه المهمة تبدو للعمال أسهل مما هي بالنسبة للمثقفين “الإقتصاديين” المعتنين بالأطفال الصغار، لأن العمال مستعدون للنضال حتى من أجل مطالب لا تبعث، إذا استعملنا تعابير مارتينوف الخالدة الذكر، أي أمل “بنتائج حسية”)… “وبما أنها لا تستطيع مع ذلك أن تصبر حتى يستجمعوا القوى اللازمة لهذا النضال، فنراها تأخذ في البحث عن حلفاء في صفوف الليبراليين والمثقفين…”. أجل، أجل. لم يعد في وسعنا حقا أن “نصبر” و”ننتظر” حلول ذلك الزمن السعيد الذي وعدنا به منذ عهد بعيد “التوفيقيون” على اختلاف مللهم ونحلهم، ذلك الزمن الذي يكف فيه “إقتصاديو”نا عن إلقاء تبعة تأخرهم هم على العمال وعن تبرير ضعف همتهم بما يزعمونه من عدم كفاية قوى العمال. إننا نسأل “إقتصادييـ”نا: بم ينبغي أن يتلخص “قيام العمال بتجميع القوى اللازمة لهذا النضال”؟ أليس واضحا أن ذلك يتلخص في تربية العمال السياسية، في التشهير أمامهم بجميع مظاهر الحكم المطلق البغيض القائم عندنا، أليس من الواضح أننا، من أجل القيام بهذا العمل بالذات، بحاجة إلى “حلفاء في صفوف الليبراليين والمثقفين” على استعداد لمشاطرتنا ما عندهم من التشهير بالحملة السياسية التي تشن على الزيمستفويين(76) وعلى المعلمين والإحصائيين والطلاب الخ.؟ هل من الصعب في الحقيقة فهم هذا “الأمر العويص” المدهش؟ أولم يؤكد لكم ب.ب. آكسيلرود منذ سنة 1897 أن: “مهمة اكتساب الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس للأنصار والحلفاء من مباشرين وغير مباشرين بين الطبقات غير البروليتارية يحددها بالدرجة الأولى وبصورة رئيسية طابع الدعاية في البيئة البروليتارية نفسها”؟ ومع ذلك ما يزال مارتينوف وأضرابه وغيرهم من “الإقتصاديين” يتصورون أنه ينبغي للعمال في البدء أن يجمعوا القوى (من أجل السياسة التريديونيونية) “عن طريق النضال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة”، لكي “ينتقلوا” بعد ذلك فقط، على ما يبدو، من “تربية النشاط” التريديونيونية إلى النشاط الإشتراكي-الديموقراطي! ويضيف “الاقتصاديون” قائلين: “…إن “الإيسكرا” في بحثها كثيرا ما تحيد عن وجهة النظر الطبقية، طامسة التناقضات الطبقية وواضعة في المقام الأول شيوع الإستياء من الحكومة، وإن كانت دواعي هذا الإستياء ودرجاته متفاوتة جدا لدى “الحلفاء”. وهذا هو، مثلا، موقف “الإيسكرا” من الزيمستفو”… فـ”الإيسكرا”، على حد زعمهم، “تعد النبلاء، المستائين من صدقات الحكومة، بأن الطبقة العاملة ستساعدهم، وهي تفعل ذلك دون أن تنبس بكلمة عن التنافر الطبقي بين هاتين الفئتين من السكان”. وإذا ما رجع القارئ إلى مقالي “الحكم المطلق والزيمستفو” (“الإيسكرا”، العددان 2 و4)، المقالين اللذين يشير إليهما، في أكبر الظن، واضعو الرسالة، يرى أن هذين المقالين يتناولان موقف الحكومة من “التحريض الرخو الذي تقوم به الزيمستفو البيروقراطية المراتبية” ومن “مبادرة الطبقات المالكة نفسها”. وقد جاء في المقال أن العامل لا يجوز له أن يقف موقف عدم الإكتراث من نضال الحكومة ضد الزيمستفو وأن الزيمستفويين مدعوون إلى ترك الخطابات الرخوة وإلى قول كلمتهم بقوة وحزم عندما تقف الاشتراكية-الديموقراطية الثورية في وجه الحكومة بكل قامتها. ما هو الأمر الذي لا يوافق عليه هنا واضعو الرسالة؟ لا ندري. ترى هل يحسبون أن العامل “لن يفهم” كلمات: “الطبقات المالكة” و”الزيمستفو البيروقراطية المراتبية”؟ هل يحسبون أن دفع الزيمستفويين إلى الإنتقال من الكلمات الرخوة إلى الكلمات الحازمة “مغالاة في أهمية الإيديولوجيا؟”. هل يظنون أن العمال “سيجمعون القوى” للنضال ضد الحكم المطلق إذا كانوا لا يعرفون موقف الحكم المطلق من الزيمستفو أيضا؟ كل هذه الأمور لا نعرفها. إنما هنالك أمر جلي: وهو أن واضعي الرسالة يتصورون المهام السياسية التي تواجه الاشتراكية-الديموقراطية تصورا غامضا جدا. ويظهر ذلك بجلاء أكبر من عبارتهم: “وهذا هو أيضا” (أي أنه “يطمس” أيضا “التناحرات الطبقية”) “موقف “الإيسكرا” من حركة الطلاب”. فبدلا من نداء العمال إلى أن يعلنوا بمظاهرة علنية أن المصدر الحقيقي للعنف والطغيان والإستهتار المنفلت ليس الطلاب، بل الحكومة الروسية (“الإيسكرا” العدد 2)، كان علينا، على ما يبدو، أن ننشر حججا مستوحاة من “رابوتشايا ميسل”! وهذه الأفكار تصدر عن اشتراكيين-ديموقراطيين في خريف سنة 1901، بعد أحداث شباط (فبراير) وآذار (مارس)، وعلى أبواب نهضة طلابية جديدة تظهر أن “عفوية” الإحتجاج على الحكم المطلق تسبق في هذا الميدان أيضا القيادة الواعية للحركة من قبل الاشتراكية-الديموقراطية. إن نزوع العمال العفوي إلى الدفاع عن الطلاب الذين انهالت عليهم عصى الشرطة والقوزاق يسبق نشاط المنظمة الاشتراكية-الديموقراطية الواعي! ويستطرد واضعو الرسالة: “ومع ذلك فـ”الإيسكرا” تشجب بشدة في مقالات أخرى كل مساومة، وتأخذ جانب الدفاع، مثلا، عن عدم تسامح الغيديين”. إننا ننصح الذين يدعون عادة بغرور وخفة بالغين أن الخلافات الموجودة في بيئة الاشتراكيين-الديموقراطيين الحاليين غير جوهرية وأنها لا تبرر الإنشقاق، – بأن يمعنوا الفكر في هذه الكلمات. فهل يمكن أن يتعاون في منظمة واحدة، تعاونا مثمرا، أناس يؤكدون أننا لم نفعل غير النزر اليسير في تبيان عداء الحكم المطلق لمختلف الطبقات وفي اطلاع العمال على معارضة مختلف الفئات للحكم المطلق، مع أناس يرون في هذا الأمر “مساومة”، مساومة، على ما يبدو، مع نظرية “النضال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة”؟ لقد تحدثنا، بمناسبة مرور أربعين سنة على تحرير الفلاحين، عن ضرورة إدخال النضال الطبقي في القرية (العدد 3)(77)، وتحدثنا بمناسبة مذكرة فيته(78) السرية عن التضاد بين الإستقلال الإداري الذاتي والحكم المطلق (العدد 4)؛ وهاجمنا، بمناسبة القانون الجديد، ما يظهره ملاكو الأراضي والحكومة التي تخدمهم من ميل إلى نظام القنانة (العدد 8)(79) ورحبنا بمؤتمر الزيمستفوات السري وشجعنا الزيمستفويين على ترك الإسترحامات المهينة والإنتقال إلى النضال (العدد 8)•؛ لقد شجعنا الطلاب الذين أخذوا يدركون ضرورة النضال السياسي والذين شرعوا بهذا النضال (العدد 3) وقرعنا في الوقت نفسه “بلادة الذهن الوحشية” التي أظهرها أنصار الحركة “الطلابية الصرف” الذين دعوا الطلاب إلى عدم الإشتراك في مظاهرات الشوارع (العدد 3، لمناسبة النداء الصادر عن لجنة الطلاب التنفيذية بموسكو في 25 شباط – فبراير)؛ وقد فضحنا “الأحلام الجوفاء” و”النفاق والكذب” من جانب المحتالين الليبراليين في جريدة “روسيا”(80) (العدد 5) وأشرنا في الوقت نفسه إلى جنون السجن الحكومي الذي “ينكل بكتاب مسالمين وبأساتذة وعلماء شيوخ، وبزيمستفويين ليبيراليين مرموقين” (العدد 5: “غارة بوليسية على الأدب”)؛ لقد فضحنا جوهر برنامج “عناية الدولة بتحسين ظروف حياة العمال” ورحبنا بـ”الإعتراف القيم” التالي: “درء المطالب النابعة من أسفل، بإصلاحات من أعلى، خير من انتظار حدوث الاحتمال الأول” (العدد 6)؛ لقد شجعنا الإحصائيين المحتجين (العدد 7) ونددنا بالإحصائيين كاسري الإضراب (العدد 9). إن من يرى في هذا التكتيك تعمية لوعي البروليتاريا الطبقي ومساومة مع الليبرالية يثبت بالتالي أنه لا يفهم على الإطلاق المعنى الحقيقي لبرنامج “Credo” ويطبق de facto  هذا البرنامج بالذات مهما تبرأ منه! لأنه يجر بذلك الاشتراكية-الديموقراطية إلى “النضال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة” ويتقهقر أمام الليبرالية بتخليه عن مهمة التدخل النشيط في كل مسألة “ليبيرالية” وعن تحديد موقفه هو، موقفه الإشتراكي-الديموقراطي، من هذه المسألة.

و) مرة أخرى “مفترون”، مرة أخرى “مشعوذون”

هذه الكلمات اللطيفة صدرت، كما يذكر القارئ، عن “رابوتشييه ديلو” التي أجابت بهذه الصورة على اتهامنا لها “بتمهيد التربة بصورة غير مباشرة لتحويل حركة العمال إلى أداة للديموقراطية البرجوازية”. وقد قررت “رابوتشييه ديلو”، لسذاجة نفسها، أن هذا الإتهام ليس غير نزوة من نزوات الجدال. فقد خطر لها: أن جامدي العقيدة الأشرار هؤلاء قد صمموا على أن ينسبوا لنا مختلف الأشياء غير المستحبة، وهل يمكن أن يكون هناك للمرء شيء أشد إزعاجا من أن يكون أداة للديموقراطية البرجوازية؟ وهكذا نشرت بالخط العريض “تكذيبا”: “إفتراء سافر” (“مؤتمران” ص 30)، شعوذة” (ص 31)، “مسخرة” (ص 33). إن “رابوتشييه ديلو”، على غرار جوبيتر (وإن كانت قليلة الشبه به)، تغضب بالضبط لأنها على غير حق، مبرهنة بإسراعها إلى الشتائم، أنها عاجزة عن فهم مجرى تفكير خصومها. ومع ذلك لا يحتاج المرء إلى تفكير طويل لكي يدرك السبب الذي يجعل بالضبط من كل تقديس لعفوية الحركة الجماهيرية، من كل هبوط بالسياسة الاشتراكية-الديموقراطية إلى مستوى السياسة التريديونيونية، بمثابة تمهيد التربة لتحويل حركة العمال إلى أداة للديموقراطية البرجوازية. فالحركة العمالية العفوية بحد ذاتها تستطيع أن تنشئ (وهي تنشئ حتما) التريديونيونية فقط؛ وما السياسة التريديونيونية للطبقة العاملة غير السياسة البرجوازية للطبقة العاملة. واشتراك الطبقة العاملة في النضال السياسي وحتى في الثورة السياسية لا يجعل إطلاقا بعد من سياستها سياسة اشتراكية-ديموقراطية. ترى ألا يخطر على بال “رابوتشييه ديلو” أن تنكر ذلك؟ ألا يخطر على بالها في النهاية أن تعرض أمام الجميع بصراحة ودون لبس أو إبهام، مفهومها عن القضايا الملحة في الاشتراكية-الديموقراطية العالمية والروسية؟ – كلا، لن يخطر لها أبدا ببال أي شيء من هذا القبيل، إذ أنها تتمشى بدقة مع الطريقة التي يمكن أن تسمى بطريقة “لا عين رأت ولا أذن سمعت”. دعوني وشأني، لا علاقة لي بالأمر، نحن لسنا “باقتصاديين”، إن “رابوتشايا ميسل” ليست “بالإقتصادية”، و”الإقتصادية” بوجه عام لا وجود لها في روسيا. وهي طريقة لبقة جدا و”سياسية” ليس فيها غير عيب واحد صغير: فقد جرت العادة أن يطلق على الجرائد التي تطبقها لقب: “أمر؟ خدمة؟”(81). يخيل إلى “رابوتشييه ديلو” أن الديموقراطية البرجوازية بوجه عام ليست في روسيا غير “شبح” (“مؤتمران”، ص32)•. ما أسعد هؤلاء الناس! فهم كالنعامة يخبئون رؤوسهم تحت أجنحتهم ويتصورون أن كل ما يحيط بهم يزول بذلك. كتاب ليبيراليون يعلنون على الملأ كل شهر عن فرحهم المظفر بانحلال الماركسية وحتى تلاشيها؛ جرائد ليبيرالية (“سانت بيتربورغسكيه فيدوموستي”(82)، و”روسكيه فيدومستي”(83) وجرائد أخرى كثيرة) تشجع أولئك الليبراليين الذين يحملون إلى العمال المفهوم البرينتاني عن النضال الطبقي(84) والمفهوم التريديونيوني عن السياسة؛ – كوكبة من نقاد الماركسية، كشف “Credo” بوضوح عن حقيقة اتجاهاتهم وانتشار بضاعتهم الأدبية وحدها في أرجاء روسيا بدون عائق، بدون ضرائب ولا رسوم؛ – انتعاش الإتجاهات الثورية غير الاشتراكية-الديموقراطية ولا سيما بعد حوادث شباط (فبراير) وآذار (مارس)؛ – كل ذلك، على ما يبدو، ليس غير شبح! كل هذه أمور لا علاقة لها على الإطلاق بالديموقراطية البرجوازية! ينبغي لـ”رابوتشييه ديلو” كما ينبغي لواضعي الرسالة “الإقتصادية” في العدد 12 من “الإيسكرا” أن “يعملوا الفكر فيما يلي: لماذا أفضت حوادث الربيع إلى انتعاش الإتجاهات الثورية غير الاشتراكية-الديموقراطية هذا الإنتعاش الكبير، بدلا من أن تفضي إلى رفع نفوذ ومكانة الاشتراكية-الديموقراطية”؟ – ذلك لأننا لم نكن أكفاء للمهمة، لأن نشاط جماهير العمال قد فاق نشاطنا، لأنه لم يكن لدينا قادة ومنظمون ثوريون مُعَدّون إعدادا كافيا ويعرفون حق المعرفة مزاج جميع الفئات المعارضة ويحسنون الوقوف في رأس الحركة وتحويل المظاهرة العفوية إلى مظاهرة سياسية وتوسيع طابعها السياسي، الخ.. وإذا ما استمرت هذه الحال فسيستغل تأخرنا حتما الثوريون غير الاشتراكيين-الديموقراطيين، الأشد حركة والأبعد همة؛ أما العمال، فمهما أظهروا من تفان وهمة في المعارك ضد الشرطة والجيش ومهما أظهروا من الروح الثورية، سيبقون مجرد قوة تساند هؤلاء الثوريين، سيبقون مؤخرة الديموقراطية البرجوازية، لا الطليعة الاشتراكية-الديموقراطية. خذوا الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية التي لا يريد “إقتصاديو”نا أن يقتبسوا منها غير جوانبها الضعيفة. لماذا لا يقع حادث سياسي واحد في ألمانيا دون أن يقوي أكثر فأكثر من نفوذ الاشتراكية-الديموقراطية ويرفع من مكانتها؟ ذلك لأن الاشتراكية-الديموقراطية هي دائما أول من يعطي التقدير الأكثر ثورية لهذا الحادث، وأول من يسند كل احتجاج على الاستبداد. فهي لا تعلل النفس بآراء مآلها أن النضال الإقتصادي يصدم العمال بمسألة حرمانهم من الحقوق، وأن الظروف الملموسة تدفع حركة العمال بصورة جبرية إلى الطريق الثوري. إنها تتدخل في جميع ميادين وجميع قضايا الحياة الإجتماعية والسياسية: تتدخل عندما لا يصادق غليوم على انتخاب رئيس بلدية من البرجوازيين التقدميين (لم يجد “إقتصاديو”نا بعد الوقت الكافي لأن يعلموا الألمان أن هذا في الجوهر مساومة مع الليبرالية!)، وعندما يصدر قانون ضد الكتب والصور “الخليعة”، وعندما تمارس الحكومة ضغطها أثناء انتخاب الأساتذة الخ.، وهلم جرا. في كل مكان يتقدم الإشتراكيون-الديموقراطيون الصفوف، مستثيرين الإستياء السياسي في جميع الطبقات، هازين النيام مستحثين المتأخرين، مقدمين مواد تتناول جميع الميادين بغية تنمية وعي البروليتاريا السياسي ونشاطها السياسي. والنتيجة أن هذا المناضل السياسي السائر في الطليعة يكتسب الإحترام حتى من أعداء الاشتراكية الواعين. وليس بنادر أن نرى وثيقة هامة لا من المحيط البرجوازي وحده، بل وحتى من محيط الدواوين والبلاط، تقع، لا ندري بأية معجزة، في مكتب تحرير “Vorwârts”• هنا سر “التناقض” الظاهري الذي يفوق درجة فهم “رابوتشييه ديلو” بحيث يجعلها ترفع يديها إلى السماء وتصرخ: “مسخرة”! تصوروا من فضلكم: نحن، “رابوتشييه ديلو”، نضع في المقام الأول حركة العمال الجماهيرية (ونطبع ذلك بالحرف العريض!) ونحذر الجميع وكلا بمفرده من التقليل من أهمية العنصر العفوي!) نحن نريد أن نضفي الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه، نفسه، نفسه، نحن نريد أن نبقى على صلة عضوية وثقى بالنضال البروليتاري! فيقولون لنا أننا نمهد التربة لتحويل حركة العمال إلى أداة للديموقراطية البرجوازية. ومن يقول لنا ذلك؟ أناس “يساومون” مع الليبرالية بتدخلهم في كل مسألة “ليبيرالية” (ويا له من عدم فهم “للصلة العضوية بالنضال البروليتاري”! وباهتمامهم اهتماما كبيرا بالطلاب وحتى (ويا للهول!) بالزيمستفويين! أناس يريدون بوجه عام أن يكرسوا نسبة أكبر (بالقياس إلى “الإقتصاديين”) من قواهم إلى العمل بين طبقات السكان غير البروليتارية! ألا ترون أن هذه “مسخرة”؟؟ مسكينة “رابوتشييه ديلو”! هل يسعفها الحظ في يوم فتكتشف سر هذا الأمر العويص؟

VI-عمل الإقتصاديين الحرفي وتنظيم الثوريين

إن ما قمنا بتحليله من مزاعم “رابوتشييه ديلو” أن النضال الإقتصادي هو الوسيلة التي يمكن استعمالها بأوسع شكل للتحريض السياسي، وأن واجبنا الآن هو إضفاء الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه، الخ.، يعرب عن فهم ضيق لا لمهامنا السياسية وحسب، بل لمهامنا التنظيمية أيضا. فـ”النضال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة” لا يتطلب على الإطلاق – ولذلك لا يمكن أن تنشأ على أساس هذا النضال – منظمة متمركزة لعامة روسيا توحد في ضغط واحد عام جميع مظاهر المعارضة السياسية والاحتجاج والاستياء على اختلافها، منظمة تتألف من ثوريين محترفين، يقودها زعماء سياسيون حقيقيون للشعب كله. وهذا الأمر بديهي. فطابع تنظيم كل مؤسسة يحدده بصورة طبيعية محتومة مضمون نشاط هذه المؤسسة. ولذلك تكرس “رابوتشييه ديلو” مزاعمها التي حللناها أعلاه وتصبغ بالصبغة الشرعية لا ضيق النشاط السياسي وحسب، بل ضيق العمل التنظيمي أيضا. فهي في هذه الحالة أيضا، كشأنها في جميع الحالات، جريدة يقف وعيها عاجزا أمام العفوية. والحال أن تقديس الأشكال التنظيمية التي تتكون عفويا، وعدم إدراكنا لمدى ضيق عملنا التنظيمي وطابعه البدائي، وجهلنا إلى أي حد ما نزال “حرفيين” في هذا الميدان الهام، أقول أن هذا الجهل هو مرض حقيقي في حركتنا. بديهي أنه مرض نمو، لا مرض انحطاط. ولكن، في هذا الوقت الذي تدفقت فيه موجة السخط العفوي، ويمكن أن نقول ذلك، علينا نحن قادة الحركة ومنظميها، في هذا الوقت بالذات لا بد لنا بصفة خاصة أن نخوض نضالا لا يعرف الهوادة ضد كل دفاع عن التأخر، ضد كل تسويغ لهذا الضيق، لا بد لنا بصفة خاصة أن نوقظ في كل من يساهم أو يهم فقط بالمساهمة في النشاط العملي، روح الإستياء من العمل الحرفي السائد عندنا والتصميم والحزم على الخلاص منه.

أ) ما هو العمل الحرفي؟

فلنحاول الجواب على هذا السؤال بإعطاء صورة صغيرة عن نشاط حلقة اشتراكية-ديموقراطية نموذجية في سنوات 1894-1901. لقد أشرنا إلى شغف الطلبة العام في ذلك العهد بالماركسية. وواضح أن هذا الشغف لم يستهدف الماركسية بوصفها نظرية وحسب، وبالأحرى لم يستهدفها بوصفها نظرية بمقدار ما استهدفها بوصفها جوابا على سؤال “ما العمل؟”، بوصفها نداء إلى شن حملة على العدو. وقد نزل المقاتلون الجدد إلى الحملة بتدريب وعتاد بدائيين لدرجة مدهشة. وفي معظم الحالات كان العتاد معدوما تقريبا والاستعداد معدوما تماما. لقد توجهوا إلى الحرب كفلاحين تركوا المحراث لتوهم، دون أن يأخذوا معهم غير هراوة. حلقة طلاب لا تربطها أي صلة بمناضلي الحركة القدماء، لا تربطها أي صلة بالحلقات القائمة في المناطق الأخرى، وحتى في الأحياء الأخرى من المدينة (أو في المعاهد الأخرى)، دون أي تنظيم لمختلف أجزاء العمل الثوري، دون أي منهاج عمل منتظم لفترة طويلة لحد ما، حلقة تقيم صلات مع العمال وتبدأ العمل. وتوسع الحلقة الدعاية والتحريض شيئا فشيئا وتكتسب بمجرد عملها تحبيذ فئات من العمال واسعة لحد لا بأس به، وتحبيذ قسم من المجتمع المثقف يقدم لها النقود ويضع تحت تصرف “اللجنة” جماعة من الشبيبة بعد أخرى. وتزداد جاذبية اللجنة (أو اتحاد النضال)، ويتسع ميدان نشاطها، وهي توسع هذا النشاط بصورة عفوية تماما: فنفس الأشخاص الذين اشتركوا منذ سنة أو عدة أشهر في حلقات الطلاب وانكبوا على حل مسألة: “إلى أين نتجه؟” والذين أقاموا الصلات بالعمال وحافظوا عليها وحضروا المناشير وأصدروها، يقيمون الصلات مع فرق من الثوريين ويحصلون على المطبوعات ويشرعون بإصدار جريدة محلية ويأخذون بالحديث عن تنظيم مظاهرة وينتقلون في النهاية إلى الأعمال الحربية المكشوفة (علما بأن هذه الأعمال الحربية المكشوفة قد تكون حسب الظروف أول نشرة من نشرات التحريض أو أول عدد من أعداد الجريدة أو أول مظاهرة). وفي المعتاد تفضي بداية هذه الأعمال بالذات إلى الإنهيار التام على الفور، تفضي على الفور إلى الإنهيار التام لأن هذه الأعمال الحربية لم تأت على وجه الدقة نتيجة لمنهاج منتظم، وضع سلفا بعد تبصر وإعمال فكر، لنضال مديد عنيد، بل مجرد تطور عفوي لعمل الحلقات الجاري حسب المعتاد؛ لأن الشرطة كانت بطبيعة الحال تعرف دائما تقريبا جميع مناضلي الحركة المحلية الرئيسيين، الذين “اشتهر أمرهم” مذ كانوا طلابا على مقاعد الدراسة، ولم تكن تنتظر غير الظرف المناسب للقبض عليهم تاركة للحلقة عن عمد إمكانية النمو وتوسيع نشاطها إلى حد يكفي لكي تحصل على corpus delicti، تاركة دائما عن عمد بعض الأشخاص الذين تعرفهم لاستخدامهم “طعما” (حسب التعبير الفني الذي يستعمله، كما أعلم، رفاقنا والدرك على السواء). ومثل هذه الحرب لا يمكن أن يقارن إلا بحملة زمر من الفلاحين مسلحين بالهراوى ضد جيش حديث. ولا يسع المرء إلا أن يدهش لحيوية هذه الحركة التي كانت تتسع وتنمو وتحرز الإنتصارات بالرغم من انعدام التدريب انعداما تاما لدى المقاتلين. صحيح أن بدائية العتاد لم تكن في البدء أمرا محتوما وحسب، بل كانت أيضا أمرا مشروعا من وجهة النظر التاريخية باعتبارها شرطا من شروط جذب المقاتلين على نطاق واسع. ولكن مذ بدأت المعارك الحربية الخطيرة (وقد بدأت، في الأساس، بإضرابات صيف سنة 1896) أخذت نواقص تنظيمنا الحربي تزداد وضوحا أكثر فأكثر. فبعد صدمة المفاجأة في البداية واقتراف عدد من الأخطاء (من نوع التوجه إلى الرأي العام بوصف آثام الاشتراكيين ونفي العمال من العاصمتين إلى المراكز الصناعية في الأقاليم) تكيفت الحكومة بسرعة حسب ظروف النضال الجديدة واستطاعت أن تحشد في الأماكن المناسبة ما لديها من فصائل المخبرين والجواسيس والدرك المجهزين بجميع العتاد الحديث. وأخذت الضربات تنهال بتواتر وتشمل جمهورا كبيرا جدا من الأشخاص وتكنس الحلقات المحلية إلى درجة أن كانت جماهير العمال تفقد، بالمعنى الحرفي للكلمة، جميع قادتها، وتغدو الحركة في بلبلة شديدة ولا يعود بإمكانها أن تبقي على أية استمرارية أو أي تناسق في العمل. وقد كانت النتيجة المحتومة لهذه الظروف التي وصفناها أن انقسم المناضلون المحليون انقساما مذهلا، وأصبح تركيب الحلقات عرضيا، وانعدم الاستعداد، وضاق أفق النظر في ميادين المسائل النظرية والسياسية والتنظيمية. وقد بلغ الأمر أن أصبح العمال في بعض المناطق، بسبب النقص في رباطة جأشنا وفي سرية عملنا، يفقدون ثقتهم بالمثقفين ويتهربون منهم؛ ويقولون أن المثقفين يسببون الإخفاقات من جراء طيشهم المفرط! إن كل مطلع على الحركة ولو أقل اطلاع يعلم أن جميع الإشتراكيين-الديموقراطيين المفكرين أخذوا في النهاية يرون في طريقة العمل الحرفي هذه مرضا حقيقيا. ولكيلا يحسب القارئ غير المطلع على الحركة أننا “ننشئ” بصورة مصطنعة مرحلة خاصة أو مرضا خاصا في الحركة، نستشهد بشاهد سبق لنا أن استشهدنا به. ونرجوا أن لا نلام لاقتباسنا هذه الفقرة الكبيرة. كتب ب- ف في العدد 6 من “رابوتشييه ديلو”: “إذا كان الانتقال التدريجي إلى نشاط عملي أوسع – هذا الانتقال المتعلق تعلقا مباشرا بمرحلة الانتقال العامة التي تجتازها حركة العمال الروسية- سمة مميزة… فهناك سمة أخرى لا تقل إثارة للإهتمام في مجموع آلية الثورة العمالية الروسية. نعني النقص العام في القوى الثورية القادرة على العمل، النقص الذي يشعر بوجوده في جميع أنحاء روسيا، لا في بطرسبورغ وحدها. وبمقدار ما تشتد حركة العمال بوجه عام، وتنمو جماهير العمال بوجه عام، وتتزايد الإضرابات، ويصبح نضال العمال الجماهيري أكثر صراحة، هذا النضال الذي يقوي الملاحقات الحكومية وحوادث الاعتقال والإبعاد والنفي، – يصبح هذا النقص في القوى الثورية ذات الكفاءات العالية أشد بروزا، ويترك دونما شك أثره في عمق الحركة وطابعها العام. إن الكثير من الإضرابات يجري دون أن تؤثر فيه المنظمات الثورية تأثيرا قويا ومباشرا… إننا نشعر بالنقص في منشورات التحريض والمطبوعات السرية… إن حلقات العمال تبقى دون محرضين… وإلى جانب ذلك نشعر بالحاجة الدائمة إلى النقود. وباختصار نقول أن نمو حركة العمال يسبق نمو المنظمات الثورية وتطورها. إن الثوريين العاملين هم من القلة بحيث لا يستطيعون أن يجمعوا في أيديهم التأثير في جميع جماهير العمال المضطربة وأن يضفوا على جميع الإضطرابات ولو ظلا من الانسجام والتنظيم… فالحلقات المنفردة، والثوريون المنفردون غير مجموعين، غير موحدين، لا يؤلفون منظمة موحدة قوية تخضع لنظام معين وتتطور أجزاؤها حسب منهاج”… وبعد أن يتحفظ الكاتب قائلا أن ظهور الحلقات الجديدة فورا في مكان المنهارة “يبرهن على حيوية الحركة فقط… ولكنه لا يدل على وجود عدد كاف من القادة الثوريين الصالحين تماما”، يخلص إلى هذا الاستنتاج: “إن عدم الاستعداد العملي لدى ثوريي بطرسبورغ يؤثر أيضا في نتائج عملهم. فالمحاكمات الأخيرة ولا سيما محاكمتا جماعتي “التحرير الذاتي” و”نضال العمل ضد رأس المال”(85)، قد أظهرت بوضوح أن المحرض الشاب غير المطلع على تفاصيل ظروف العمل وبالتالي على ظروف التحريض في هذا العمل أو ذاك والذي يجهل مبادئ العمل السري والذي تعلم” (وهل تعلم؟) “الآراء الاشتراكية-الديموقراطية العامة فقط، قد يعمل أربعة أشهر أو خمسة أو ستة. وبعد ذلك تحل ساعة الاعتقال الذي يستتبع في الكثير من الحالات انهيار المنظمة كلها أو قسم منها على الأقل. إذن، هل تستطيع جماعة أن تعمل بصورة مثمرة وبنجاح إذا كانت حياتها لا تزيد على أشهر؟ واضح أن من غير الجائز أن تنسب جميع نواقص المنظمات الموجودة إلى مرحلة الإنتقال… واضح أن عدد أعضاء المنظمات العاملة، وخصوصا صفاتهم، يلعبان في ذلك دورا هاما، وأن مهمة اشتراكيينا-الديموقراطيين الأولى… ينبغي أن تكون توحيد المنظمات توحيدا فعليا مع اختيار أعضائها اختيارا دقيقا”.

ب. العمل الحرفي والاقتصادية

ينبغي لنا أن نتناول الآن سؤالا يدور في خلد كل قارئ بالتأكيد. هذا العمل الحرفي بوصفه مرض نمو يلازم الحركة بمجموعها، هل يمكن أن يقرن “بالإقتصادية” باعتبارها أحد تيارات الاشتراكية-الديموقراطية الروسية؟ نعتقد أن ذلك ممكن. إن نقص الإستعداد العملي، إن عدم المهارة في العمل التنظيمي هو في الحقيقة شيء عام بالنسبة إلينا جميعا، حتى الذين تمسكوا منذ البدء بوجهة نظر الماركسية الثورية. ولا يمكن لأحد بطبيعة الحال أن يلوم المشتغلين في الميدان العملي لنقص الإستعداد بحد ذاته. ولكن مفهوم “العمل الحرفي” يتضمن، فضلا عن نقص الإستعداد، شيئا آخر: هو ضيق نطاق العمل الثوري كله بوجه عام، وعدم فهم أن منظمة ثوريين جيدة لا يمكن أن تتكون على أساس هذا العمل الضيق، وأخيرا، وهو الأمر الأهم، محاولات تبرير هذا النطاق الضيق ورفعه إلى مقام “نظرية” خاصة، أي تقديس العفوية في هذا الميدان أيضا. ومذ ظهرت هذه المحاولات لم يبق شك في أن العمل الحرفي مرتبط “بالإقتصادية” وأننا لن نتخلص من ضيق نشاطنا التنظيمي إذا لم نتخلص من “الإقتصادية” عموما (أي من المفهوم الضيق للنظرية الماركسية ولدور الاشتراكية-الديموقراطية ولمهامها السياسية). والواقع أن هذه المحاولات برزت في اتجاهين. فقد أخذ بعضهم يقول: إن جمهور العمال لم يطرح هو نفسه بعد مهام كفاح سياسية واسعة كالتي “يفرضها” عليه الثوريون، ولا يزال عليه أن يناضل من أجل المطالب السياسية المباشرة وأن يقوم بـ”النضال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة” (وهذا النضال الذي هو في “متناول” الحركة الجماهيرية تلائمه، بصورة طبيعية، منظمة هي في “متناول” حتى الشبيبة الأقل إعدادا). وأخذ آخرون من الذين هم بعيدون عن كل “تدرجية” يقولون: يمكن ويجب “القيام بالثورة السياسية”، ولكن ذلك لا يتطلب البتة إنشاء منظمة ثوريين قوية تربي البروليتاريا على النضال الحازم العنيد، بل يكفينا لذلك أن نتشبث جميعنا بالهراوة المألوفة التي في “متناولنا”، وإذا لم نلجأ إلى التشابيه، نقول أن علينا أن ننظم الإضراب العام، أو أن نهيج بواسطة “إرهاب تهييجي” حركة العمال “الخاملة”. هذان التياران، الإنتهازيون و”الثورويون”، يستسلمان أمام العمل الحرفي السائد ولا يؤمنان بإمكان الخلاص منه ولا يدركان مهمتنا العملية الأولى التي لا تقبل التأجيل: إنشاء منظمة ثوريين قادرة على أن تؤمن للنضال السياسي القوة والثبات والإستمرارية. لقد أثبتنا آنفا كلمات ب- ف: “نمو حركة العمال يسبق نمو المنظمات الثورية وتطورها”. إن لهذا “النبأ القيم من مراقب عن كثب” (من تقريظ هيئة تحرير “رابوتشييه ديلو” لمقالة ب- ف) أهمية مزدوجة في نظرنا. فهو يبين أننا كنا على حق عندما رأينا السبب الأساسي لأزمة الاشتراكية-الديموقراطية الروسية الحالية في تأخر القادة (من “إيديولوجيين”، وثوريين، واشتراكيين-ديموقراطيين عن نهوض الجماهير العفوي. وهو يبرهن أن جميع هذه الأقوال لواضعي الرسالة “الإقتصادية” (“الإيسكرا”، العدد 12)، ب. كريتشيفسكي ومارتينوف، بصدد خطر التقليل من أهمية العنصر العفوي والنضال الجاري المعتاد والتكتيك-الحركة، الخ.، ليس غير تمجيد للعمل الحرفي ودفاع عنه. فهؤلاء الناس الذين لا يستطيعون النطق بكلمة “نظري” دون أن يكشروا عن أنيابهم باحتقار، والذين يطلقون على سجودهم أمام نقص الاستعداد لأمور الحياة ونقص التطور اسم “حس الحياة” يكشفون في الواقع عن عدم فهم لمهامنا العملية الأكثر إلحاحا. إنهم يصرخون بالناس المتأخرين: وحدوا الخطى! لا تسبقوا! أما بالناس المصابين بنقص الهمة والمبادرة في العمل التنظيمي، المصابين بنقص “المشاريع” للعمل الجريء الواسع، فيصرخون: عليكم بـ”التكتيك-الحركة”! أن ذنبنا الأساسي هو الهبوط بمهامنا السياسية والتنظيمية إلى مستوى مصالح النضال الإقتصادي الجاري المباشرة “الملموسة” “الحسية”، ومع ذلك لا يفتأون يتحفوننا بأغنية: ينبغي أن نضفي الطابع السياسي على النضال الإقتصادي نفسه! نكرر: إنه حقا “حس حياة” أشبه بحس بطل الأسطورة الشعبية الذي أخذ يصرخ وقد رأى موكب جنازة: “إن شاء الله دايمة!” تذكروا كيف أخذ هؤلاء الحكماء يعظون بليخانوف بعنجهية لا تضارعها غير عنجهية “نرسيس”(86)، قائلين: “إن المهام السياسية بمعنى الكلمة الحقيقي، العملي، أي بمعنى النضال العملي المعقول والناجح من أجل المطالب السياسية، ليست بوجه عام (كذا!) في متناول حلقات العمال” (“جواب هيئة تحرير “رابوتشييه ديلو””، ص 24). ثمة حلقات وحلقات، يا سادة! فالمهام السياسية ليست طبعا في متناول حلقة من “الحرفيين”، ما لم يدرك هؤلاء الحرفيون أنهم يعملون على الطريقة الحرفية، وما لم يتخلصوا منها. وإذا ما أظهر هؤلاء الحرفيون فضلا عن ذلك، هياما بطريقتهم الحرفية، وإذا ما أخذوا يكتبون كلمة “عملي” بالحرف العريض على الدوام ويتصورون أن الروح العملية تتطلب منهم الهبوط بمهامهم إلى مستوى فهم أكثر فئات الجماهير تأخرا، عندئذ يتضح أن مرض هؤلاء الحرفيين مستعص وأن المهام السياسية بوجه عام ليست، فعلا، في متناولهم. ولكن المهام السياسية بكل معنى هذه الكلمة الحقيقي، بكل معناها العملي، هي في متناول حلقة أقطاب من أمثال ألكسييف وميشكين وخالتورين وجيليابوف، وذلك بالضبط لأن دعايتهم الحارة تجد صدى في الجماهير المستيقظة بصورة عفوية، وبقدر ما تجد هذا الصدى؛ ولأن همتهم المتأججة تؤيدها وتدعمها همة الطبقة الثورية، وبمقدار ما تؤيدها وتدعمها. لقد كان بليخانوف ألف مرة على حق عندما لم يكتف بالإشارة إلى وجود هذه الطبقة الثورية، ولم تكتف بالبرهان على أن يقظتها العفوية أمر محتوم لا مفر منه، بل وضع أمام “حلقات العمال” مهمة سياسية سامية كبرى. أما أنتم فتستشهدون بالحركة الجماهيرية التي انبثقت منذ ذلك الحين لكيما تهبطوا بهذه المهمة، لكيما تضيقوا نطاق نشاط “حلقات العمال” وتضعفوا همتها. وكيف نسمي ذلك إن لم نسمه بهيام الحرفي بطريقته الحرفية؟ تتبجحون بروحكم العملية، ولكنكم لا ترون الواقع الذي يعرفه كل من ساهم في الحركة الروسية، لا ترون المعجزات التي تستطيع الإتيان بها في العمل الثوري همة أشخاص منفردين فضلا عن همة الحلقة بمجموعها. هل تحسبون أن حركتنا لا تستطيع أن تنجب أقطابا كأقطاب سنوات العقد الثامن؟ ولماذا؟ ألأن استعدادنا قليل؟ ولكننا نستعد وسنستعد وسنصبح مستعدين! حقا لقد نبت عندنا، لسوء الحظ، الطحلب على مستنقع “النضال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة”، لقد ظهر أناس يجثون على ركبهم ويتعبدون العفوية ويتأملون بخشوع (حسب تعبير بليخانوف) “دبر” البروليتاريا الروسية. ولكننا سنستطيع الخلاص من هذا الطحلب. فالثوري الروسي الذي يسترشد بنظرية ثورية حقا ويستند إلى طبقة ثورية حقا تستيقظ بصورة عفوية، يستطيع في هذا الوقت بالذات، يستطيع في النهاية – في النهاية! – أن ينتصب بكل قامته ويطلق كل قواه العملاقة. وهذا لا يتطلب غير شيء واحد: هو أن تستقبل كل محاولة من محاولات الهبوط بمهامنا السياسية وتضييق نطاق عملنا التنظيمي ببسمة سخرية واحتقار من قبل جمهور المشتغلين في الميدان العملي ومن قبل الجمهور الأوسع منه، جمهور الذين يحلمون بالنشاط العملي منذ أن كانوا على مقاعد الدراسة. سنتوصل إلى ذلك، فاطمئنوا أيها السادة! لقد كتبت ضد “رابوتشييه ديلو” في مقال “بم نبدأ؟” قائلا: “خلال 24 ساعة يمكن تغيير تكتيك التحريض في مسألة معينة من المسائل، التكتيك الذي يرمي إلى تحقيق عنصر معين من عناصر التنظيم الحزبي. أما أن يغير المرء نظراته لا في 24 ساعة، بل حتى في 24 شهرا، بصدد ما إذا كانت هنالك حاجة بوجه عام، حاجة دائمة وأكيدة، لمنظمة كفاحية وللتحريض السياسي بين الجماهير، فهو أمر لا يستطيعه غير أناس لا مبادئ لهم”. وقد أجابت “رابوتشييه ديلو” قائلة: “إن اتهام “الإيسكرا” هذا، الوحيد من بين الإتهامات التي تدعي لنفسها بالطابع العملي، لا يقوم على أي أساس. فقراء “رابوتشييه ديلو” يعرفون حق المعرفة أننا منذ البدء لم نقتصر على الدعوة إلى التحريض السياسي دون أن ننتظر ظهور “الإيسكرا””… (قائلين آنذاك أن “إسقاط الحكم المطلق لا يمكن أن يوضع كمهمة سياسية أولى أمام حركة العمال الجماهيرية” فضلا عن حلقات العمال، وأنه لا يمكن أن يوضع كمهمة سياسية أولى غير النضال من أجل المطالب السياسية المباشرة، وأن “المطالب السياسية المباشرة تصبح في متناول الجماهير بعد إضراب أو عدة إضرابات على أكثر تقدير”)… “بل إننا أوصلنا كذلك من الخارج بواسطة مطبوعاتنا مادة التحريض السياسي الاشتراكية-الديموقراطية الوحيدة إلى الرفاق العاملين في روسيا”… (علما بأنكم، في مادتكم الوحيدة هذه، لم تقتصروا على ممارسة أوسع تحريض سياسي على صعيد النضال الإقتصادي وحده، بل لقد بلغ بكم تفكيركم في النهاية حدا أعلنتم معه أن هذا التحريض الضيق هو الذي “يمكن استعماله بأوسع شكل”. ألا تلاحظون، أيها السادة، أن حججكم لا تبرهن إلا على ضرورة ظهور “الإيسكرا” – ما دام هذا هو نوع المادة الوحيدة” – وإلا على ضرورة نضال “الإيسكرا” ضد “رابوتشييه ديلو”؟)… “ومن الجهة الأخرى، إن نشاطنا بوصفنا ناشرين قد مهد في الواقع لوحدة الحزب التكتيكية”… (وحدة الاعتقاد بأن التكتيك هو سير نمو المهام الحزبية التي تنموا مع نمو الحزب؟ ما أثمنها من وحدة!)… “ومهد بذلك لإمكانية إنشاء “منظمة كفاحية” عمل “الإتحاد” كل ما في طاقة منظمة في الخارج أن تبذله عموما لإنشائها” (“رابوتشييه ديلو”، العدد 10، ص 15). عبثا تحاولون التملص! أما أنكم بذلتم كل ما في طاقتكم، فهو أمر لم أفكر بإنكاره قط. فقد أكدت وأؤكد أن حدود “متناولـ”كم يضيقها قصر نظركم، بل أنه من المضحك الحديث عن “منظمة كفاحية” للنضال من أجل “المطالب السياسية المباشرة” أو من أجل “النضال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة”. ولكن إذا كان القارئ يريد أن يرى درر الهيام “الإقتصادي” بالعمل الحرفي فينبغي له أن يتوجه طبعا من “رابوتشييه ديلو” الإختيارية وغير الثابتة إلى “رابوتشايا ميسل” المستقيمة والحازمة. فقد كتب ر.م. في “الملحق الخاص”، ص13: “سنتناول الآن بكلمتين من يسمون بالمثقفين الثوريين بالذات: لقد برهنوا حقا غير مرة من خلال العمل أنهم مستعدون كل الإستعداد “لخوض المعركة الفاصلة ضد القيصرية”. ولكن المصيبة، كل المصيبة، هي في كون مثقفينا الثوريين الذين تلاحقهم الشرطة السياسية دون رحمة، قد حسبوا النضال ضد الشرطة السياسية نضالا سياسيا ضد الحكم المطلق. ولذلك لم يجدوا حتى الآن الجواب الواضح على سؤال “من أين نستمد القوى للنضال ضد الحكم المطلق؟””. هذا الإستخفاف الرائع بالنضال ضد الشرطة من قبل هائم (بأردأ معاني الكلمة) بالحركة العفوية، أليس بديعا حقا؟ إنه مستعد لتبرير عدم مهارتنا في العمل السري بحجة أن النضال ضد الشرطة السياسية لا أهمية له في جوهر الأمر بالنسبة لنا في حالة الحركة الجماهيرية العفوية!! لن يوقع على هذا الإستنتاج الفظيع غير قلة قليلة: فقد حز الألم صميم أفئدة الجميع من جراء نواقص منظماتنا الثورية. ولكن إذا كان مارتينوف، مثلا، يرفض التوقيع عليه فما ذلك إلا لأنه لا يحسن التفكير بموضوعاته حتى نهايته المنطقية أو لا يجرؤ على ذلك. وفي الحقيقة، إذا ما وضعت الجماهير مطالب معينة تبعث الأمل بنتائج حسية، فهل تتطلب هذه “المهمة” اهتماما خاصا بإنشاء منظمة ثوريين وطيدة، متمركزة قادرة على الكفاح؟ ألا يقوم بهذه المهمة جمهور لا “يناضل ضد الشرطة السياسية” على الإطلاق؟ وفوق ذلك: هل يمكن تنفيذ هذه المهمة إذا لم ينهض بها أيضا، عدا القادة القلائل، عمال هم (في أكثريتهم الكبرى) غير أهل على الإطلاق “للنضال ضد الشرطة السياسية”؟ فهؤلاء العمال، هؤلاء الناس المتوسطون من الجماهير يستطيعون إظهار فيض من الهمة والتفاني في الإضراب وفي نضال الشوارع ضد البوليس والجيش، يستطيعون (وهم وحدهم الذين يستطيعون) تقرير نتيجة حركتنا بأكملها – ولكن النضال ضد البوليس السياسي هو الذي يتطلب صفات خاصة، يتطلب ثوريين محترفين. وينبغي لنا أن نحرص، لا على أن “يقدم” الجمهور مطالب ملموسة وحسب، بل على أن “يقدم” جمهور العمال كذلك أمثال هؤلاء الثوريين المحترفين بعدد متزايد على الدوام. وهكذا نصل إلى مسألة التناسب بين منظمة الثوريين المحترفين وحركة العمال الصرف. إن هذه المسألة التي قلما وجدت لها مكانا في المنشورات قد شغلتنا كثيرا نحن “السياسيين” في الأحاديث والجدال مع الرفاق الذين يميلون إلى “الإقتصادية” إلى هذا الحد أو ذاك. وهي مسألة تستحق الوقوف عندها بوجه خاص. ولكن لنختتم أولا، باستشهاد آخر، عرض رأينا في الصلة بين العمل الحرفي و”الإقتصادية”. لقد كتب السيد N.N. في مقاله “الجواب”(87): “إن فرقة “تحرير العمل” تنادي بالنضال المباشر ضد الحكومة دون أن تقدر أين تكمن القوة المادية الضرورية لهذا النضال ودون أن تشير إلى طرق هذا النضال”. وقد وضع الكاتب بالخط العريض الكلمات الأخيرة ووضع تحت كلمة “طرق” الملاحظة التالية: “هذا الواقع لا يمكن تفسيره بأهداف العمل السري، لأن البرنامج لا يتحدث عن مؤامرة، بل عن حركة جماهيرية. ولا يمكن للجمهور أن يسير في الطرق السرية. إذ هل يمكن وجود إضراب سري؟ هل يمكن وجود مظاهرة أو عريضة سرية؟” (“Vademecum” “فاديميكوم”، ص59). لقد وقف الكاتب وجها لوجه أمام هذه “القوة المادية” (منظمو الإضرابات والمظاهرات) وأمام “طرق النضال”. ولكنه يجد نفسه مع ذلك في حيرة وبلبلة، لأنه “يقدس” الحركة الجماهيرية، أي أنه ينظر إليها نظرته إلى أمر يعفينا من نشاطنا الثوري، لا إلى أمر من شانه أن يشجع ويحفز نشاطنا الثوري.الإضراب السري مستحيل بالنسبة للمضربين وللأشخاص الذين لهم علاقة مباشرة به. ولكن هذا الإضراب قد يبقى (وإنه ليبقى في معظم الحالات) “سرا” بالنسبة لجمهور العمال الروس، لأن الحكومة تعمل على أن تقطع كل صلة بالمضربين، تعمل على أن تجعل من المستحيل نشر أي نبأ عن الإضراب. وهنا تظهر الحاجة إلى “النضال ضد الشرطة السياسية”، وهو نضال خاص لا يمكن أن يقوم به بنشاط في أي حال من الأحوال جمهور كبير كالجمهور الذي يشترك في الإضرابات. وينبغي أن ينظم هذا النضال “وفق جميع أصول الفن” من قبل أناس يجعلون من النشاط الثوري مهنة لهم. ولا تقل الحاجة إلى تنظيم هذا النضال من جراء انجذاب الجمهور إلى الحركة بصورة عفوية. بل بالعكس، فإن هذا الواقع يزيد الحاجة إلى هذا التنظيم، لأننا نحن الإشتراكيين لا نقوم بواجباتنا المباشرة أمام الجمهور إذا كنا لا نستطيع إعاقة الشرطة عن أن تبقي طي الكتمان (وإذا كنا لا نحضر نحن أحيانا في طي الكتمان) أي إضراب أو أية مظاهرة. في طاقتنا أن نفعل هذا، وذلك على وجه الضبط لأن الجمهور المستيقظ بصورة عفوية سيقدم أيضا من صفوفه “ثوريين محترفين” بعدد متزايد (هذا إذا لم يخطر لنا أن ندعو العمال بمختلف النغمات إلى المراوحة في مكان واحد).

ج) منظمة العمال ومنظمة الثوريين إذا كان مفهوم “النضال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة”، يطغى في نظر الإشتراكي-الديموقراطي على مفهوم النضال السياسي، فطبيعي أن نتوقع لمفهوم “منظمة العمال” أن يغطي في نظره إلى حد ما على مفهوم “منظمة الثوريين”. وهذا ما يحدث في الواقع حتى أننا نجد أنفسنا حيال لغات تختلف كل الاختلاف عندما يدور الحديث عن التنظيم. أذكر، مثلا، حديثا جرى بيني وبين أحد “الإقتصاديين” المستقيمين إلى حد لا بأس به لم تسبق لي به معرفة(88). وقد تناول الحديث كراس “من يقوم بالثورة السياسية؟”. وقد اتفقنا بسرعة على أن النقص الأساسي فيه هو إغفال مسألة التنظيم. وتصورنا أن وجهات نظرنا متفقة، ولكن… عندما تابعنا الحديث ظهر لنا أننا نتكلم عن أمور مختلفة. فمحدثي يتهم مؤلف الكراس بإغفال صناديق الإضرابات وجمعيات تبادل المساعدة الخ.، في حين كنتُ أقصد منظمة الثوريين الضرورية “للقيام” بالثورة السياسية. ولا أذكر أني اتفقت مع هذا “الإقتصادي” حول أية مسألة من المسائل المبدئية بعد ظهور هذا الخلاف! فما هو مصدر خلافاتنا؟ إنه يكمن في كون “الإقتصاديين” ينزلقون على الدوام من الاشتراكية-الديموقراطية إلى التريديونيونية إن في المهام التنظيمية أم في المهام السياسية. فنضال الاشتراكية-الديموقراطية السياسي أوسع جدا وأكثر تعقيدا من نضال العمال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة. وكذلك (وتبعا لذلك) لا بد لتنظيم الحزب الاشتراكي-الديموقراطي الثوري من أن يكون من نوع آخر يختلف عن تنظيم العمال للنضال الإقتصادي. إذ ينبغي لمنظمة العمال أن تكون، أولا، مهنية، ثانيا، واسعة ما أمكن؛ ثالثا، علنية ما أمكن (هنا وفيما يأتي من البحث لا أعني بالطبع غير روسيا الحكم المطلق). وبالعكس، ينبغي لمنظمة الثوريين أن تضم بالدرجة الأولى وبصورة رئيسية أناسا يكون النشاط الثوري مهنتهم (ولذلك أتحدث عن منظمة الثوريين، وأنا أعني الثوريين-الاشتراكيين-الديموقراطيين). وحيال هذه الصفة المشتركة بين أعضاء مثل هذه المنظمة ينبغي أن يمحى بصورة تامة كل فرق بين العمال والمثقفين فضلا عن الفروق بين مهن هؤلاء وأولئك على اختلافها. ينبغي لهذه المنظمة بالضرورة أن لا تكون واسعة جدا، وأن تكون على أكثر ما يمكن من السرية. فلنتناول الفروق الثلاثة. إن الفرق بين التنظيم المهني والتنظيم السياسي واضح تماما في البلدان التي تتمتع بحرية سياسية وضوح الفرق بين التريديونيونات والاشتراكية-الديموقراطية. وطبيعي أن علاقة الاشتراكية-الديموقراطية بالتريديونيونات تختلف حتما من بلد إلى آخر، تبعا للظروف التاريخية والحقوقية وغيرها، ويمكن أن تكون على جانب معين من القوة، والتعقيد، الخ. (وينبغي أن تكون حسب رأينا قوية إلى أقصى حد وخالية من التعقيد ما أمكن)؛ ولكن لا يمكن بأي حال أن تعتبر المنظمة النقابية ومنظمة الحزب الاشتراكي-الديموقراطي في البلدان الحرة شيئا واحدا. أما في روسيا، فإن طغيان الحكم المطلق يمحو لأول وهلة كل فرق بين المنظمة الاشتراكية-الديموقراطية ونقابة العمال، لأن جميع نقابات العمال وجميع الحلقات ممنوعة، لأن المظهر الأساسي والأداة الأساسية لنضال العمال الاقتصادي – أي الإضراب- يعتبر بوجه عام جريمة يعاقب عليها قانون الجزاء (ويعتبر أحيانا جريمة سياسية!). وهكذا “تصدم” الظروف عندنا بشدة العمال الذين يخوضون النضال الإقتصادي بالقضايا السياسية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى “تصدم” الاشتراكيين-الديموقراطيين بالخلط بين التريديونيونية والاشتراكية-الديموقراطية (وإن أصحابنا كريتشيفسكي ومارتينوف وشركاهما من الذين لا يفتأون يتحدثون عن “الصدم” من النوع الأول لا يلاحظون “الصدم” من النوع الثاني). وبالفعل، تصوروا أناسا انهمكوا بنسبة 99 بالمئة في “النضال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة”. فثمة قسم منهم لن يصدم مرة واحدة طيلة فترة نشاطه كلها(4-6 أشهر) بمسألة منظمة للثوريين أكثر تعقيدا. وثمة آخرون “يصطدمون” في أكبر الظن بمطالعة المنشورات البرنشتينية المنتشرة نسبيا ويستمدون منها الاعتقاد بالأهمية البالغة التي يتسم بها “تقدم النضال الجاري المعتاد”. وهناك، أخيرا، قسم ثالث يحتمل أن يهيم بفكرة مغرية هي إعطاء العالم نموذجا جديدا عن “الصلة العضوية الوثيقة بالنضال البروليتاري”، عن الصلة بين الحركة المهنية والاشتراكية-الديموقراطية. وكأني بهؤلاء الناس يفكرون على النحو التالي: بمقدار ما يتأخر بلد من البلدان عن الدخول في مسرح الرأسمالية، وبالتالي، في مسرح الحركة العمالية، يزداد إمكان مساهمة الاشتراكيين في الحركة المهنية ودعمهم إياها، ويقل إمكان ووجوب وجود نقابات غير اشتراكية-ديموقراطية. هذا التفكير، إلى هنا، صحيح كل الصحة. ولكن المصيبة أنهم يسيرون إلى حد أبعد ويحلمون بمزج الاشتراكية-الديموقراطية والتريديونيونية مزجا تاما. وسنستشهد الآن بـ”النظام الداخلي لاتحاد النضال في سانت بطرسبورغ” لكي نرى مبلغ ضرر تأثير هذه الأحلام في مشاريعنا التنظيمية. يجب أن تكون منظمات العمال الخاصة بالنضال الاقتصادي منظمات مهنية، ويجب على كل عامل اشتراكي-ديموقراطي أن يساعد هذه المنظمات على قدر الطاقة وأن يعمل فيها بنشاط. هذا صحيح. ولكن ليس من مصلحتنا على الإطلاق أن نطالب بأن يكون أعضاء الجمعيات “المهنية” من اشتراكيين-ديموقراطيين وحدهم، لأن ذلك يسفر عن تقلص نفوذنا في الجماهير. فليشترك في الجمعية المهنية كل عامل يدرك ضرورة الإتحاد للنضال ضد أصحاب الأعمال والحكومة. فهدف الجمعيات المهنية ذاته لا يمكن بلوغه إن لم تضم هذه الجمعيات جميع الذين يبلغون على الأقل هذه الدرجة البدائية من درجات الفهم، إن لم تكن هذه الجمعيات المهنية منظمات واسعة جدا. وبمقدار ما تتسع هذه المنظمات، يتسع نفوذنا فيها، وهو نفوذ لا ينشأ فقط عن التطور “العفوي” للنضال الاقتصادي، إنما ينشأ أيضا عن تأثير أعضاء الجمعية الاشتراكيين في رفاقهم تأثيرا مباشرا واعيا. ولكن عندما يكون عدد المنتمين إلى منظمة من المنظمات كبيرا تتعذر السرية الدقيقة (التي تتطلب استعدادا أكبر جدا من الاستعداد اللازم للنضال الاقتصادي). فكيف نحل هذا التناقض بين ضرورة سعة المنظمة وضرورة السرية الدقيقة؟ كيف نعمل لتكون المنظمات المهنية سرية لأقل حد ممكن؟ لبلوغ ذلك لا يوجد بوجه عام غير سبيلين: أما جعل الجمعيات المهنية علنية (وقد حدث هذا في بعض البلدان قبل أن تصبح الجمعيات الاشتراكية والسياسية علنية)، وإما إبقاء المنظمة سرية، ولكن “حرة” وغير واضحة الحدود، أي lose كما يقول الألمان، لدرجة تصبح معها الصفة السرية بالنسبة لجمهور الأعضاء في حكم العدم تقريبا. لقد بدأ في روسيا انتقال جمعيات العمال غير الاشتراكية وغير السياسية إلى العلنية، ولا مجال لأي شك في أن كل خطوة تخطوها حركتنا العمالية الاشتراكية-الديموقراطية النامية بسرعة ستضاعف وتشجع محاولات الإنتقال إلى هذه العلنية – وهي محاولات صادرة بصورة رئيسية عن أنصار النظام القائم ولكنها صادرة أيضا بصورة جزئية عن العمال أنفسهم والمثقفين الليبيراليين. لقد رفع علم العلنية أناس من أضراب فاسيلييف وزوباتوف، وقد وعد السادة من أضراب أوزيروف وفورمس بالعمل على ذلك وبروا بوعدهم. ولقد ظهر بين العمال أتباع لهذا الاتجاه الجديد. فلا يمكننا من الآن فصاعدا ألا نحسب الحساب لهذا التيار. أما كيف نحسب له الحساب فهذا، كما نعتقد، ما لا يمكن أن يختلف عليه الاشتراكيون-الديموقراطيون. نحن ملزمون بأن نفضح على الدوام اشتراك أمثال زوباتوف وفاسيلييف والدرك والكهنة في هذا التيار، ملزمون بأن نبين للعمال حقيقة أهداف هؤلاء المشتركين. ونحن ملزمون كذلك بأن نفضح جميع النغمات التوفيقية و”المنسجمة” التي ستكشف عنها خطابات الليبيراليين في اجتماعات العمال العلنية – سواء أصدرت هذه النغمات عن ليبيراليين يعتقدون مخلصين بأن التعاون السلمي بين الطبقات أمر مرغوب فيه، أو عن ليبيراليين تحدوهم الرغبة في تملق الرؤساء أو في النهاية عن ليبيراليين هم بكل بساطة غير حاذقين. ونحن ملزمون، أخيرا، بأن نحذر العمال من الشرك الذي تنصبه لهم الشرطة في حالات كثيرة لتبحث في هذه الاجتماعات العلنية وفي الجمعيات المرخص لها عن “الناس الذين تتأجج النار في صدورهم” ولتدس في المنظمات السرية أيضا المخبرين عن طريق المنظمات العلنية. ولكن قيامنا بكل ذلك لا يعني البتة أننا ننسى أن جعل حركة العمال علنية سيعود بالنفع في نهاية الأمر علينا نحن، لا على أمثال زوباتوف البتة. إن الأمر على العكس، فبحملتنا التشهيرية نفصل نحن الزوان عن الحنطة. وقد بينا الزوان. أما الحنطة فهي لفت أنظار أوسع فئات العمال وأكثرها تأخرا إلى المسائل الاجتماعية والسياسية، هي تحريرنا، نحن الثوريين، من وظائف هي في الجوهر علنية (نشر الكتب العلنية، المساعدة المتبادلة، الخ.)، وظائف يؤدي تطورها حتما إلى إعطائنا عددا متزايدا على الدوام من المواد للتحريض. وبهذا المعنى يمكننا وينبغي لنا أن نقول لزوباتوف وأوزيروف وأضرابهما: اجتهدوا أيها السادة، اجتهدوا! فنحن لكم بالمرصاد وسنفضحكم عندما تنصبون للعمال الشرك (عن طريق الاستفزازات المباشرة أو عن طريق إفساد العمال “الشريف” “بالستروفية”)(89). وإذا ما خطوتم حقا خطوة إلى أمام، ولو بشكل “انعطاف ضعيف جدا”، ولكنها خطوة إلى أمام، نقول لكم: إعملوا معروفا! إن فسح المجال حقا أمام العمال مهما كان طفيفا هو وحده الذي يمكنه أن يشكل خطوة إلى أمام حقا. وكل فسح لهذا المجال يخدمنا نحن ويعجل ظهور جمعيات علنية لا يصطاد فيها المخبرون الاشتراكيين، بل يصطاد فيها الاشتراكيون الأتباع لهم. إن مهمتنا الآن هي، باقتضاب، مكافحة الزوان. فليس من اختصاصنا استنبات الحنطة في آنية بالغرف. فنحن، إذ نقتلع الزوان، ننظف التربة ممهدين لنمو بذور الحنطة المحتمل. وأثناء انهماك أضراب أفاناسي إيفانوفيتش وبولخيريا إيفانوفنا(90) بالزراعة في الغرف ينبغي لنا أن نعد حاصدين يحسنون اجتثاث زوان اليوم وجني حصاد حنطة الغد•. وإذن، لا نستطيع نحن عن طريق العلنية أن نحل مسألة إنشاء منظمة مهنية تكون سرية لأقل حد ممكن وواسعة لأقصى حد ممكن (ولكن نكون سعداء جدا إذا أعطانا أمثال زوباتوف وأوزيروف ولو جزئيا إمكانية هذا الحل، وللحصول على هذه الإمكانية ينبغي لنا أن نكافحهم بأكبر ما يمكن من الهمة!). يبقى طريق المنظمات المهنية السرية؛ وهنا يجب علينا أن نقدم كل مساعدة للعمال الذين أخذوا (كما نعرف بدقة) يسلكون هذا الطريق. فالمنظمات المهنية لا يمكنها أن تقدم فائدة كبرى في تطوير وتعزيز النضال الإقتصادي وحسب، بل يمكنها فضلا عن ذلك أن تصبح عاملا مساعدا كبير الأهمية للتحريض السياسي والتنظيم الثوري. ولبلوغ هذه النتيجة، لتوجيه الحركة المهنية المبتدئة إلى المجرى الذي تريده الاشتراكية-الديموقراطية، ينبغي قبل كل شيء أن نتبين بوضوح سخافة المشروع التنظيمي الذي يطبل ويزمر له “الإقتصاديون” في بطرسبورغ منذ ما يقرب من خمس سنوات. وقد ورد هذا المشروع في “النظام الداخلي لصندوق العمال” المؤرخ في تموز (يوليو) سنة 1897 (“ليستوك “رابوتنيكا””، العدد 9-10، ص46، من العدد 1 من “رابوتشايا ميسل”) وفي “النظام الداخلي لمنظمة العمال النقابية” المؤرخ في تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1900 (صفحة على حدة طبعت في سانت بطرسبورغ وورد ذكرها في العدد 1 من “الإيسكرا”). والخطأ الأساسي في كلا النظامين هو طرح جميع التفاصيل المتعلقة بمنظمة عمالية واسعة وخلط منظمة الثوريين بها. فلنأخذ النظام الداخلي الثاني، باعتباره أكثر دقة. إنه يتألف من اثنتين وخمسين فقرة، منها 23 فقرة تتناول تنظيم “حلقات العمال” التي يجري تشكيلها في كل معمل (“على أن لا تزيد كل حلقة على عشرة أشخاص”) والتي تنتخب “الجماعات المركزية (في المعمل)” كما تتناول طريقة تصريف أمورها ومدى صلاحيتها. وقد جاء في الفقرة 2: “تراقب الجماعة المركزية كل ما يجري في مصنعها أو معملها وتسجل الأحداث التي تجري فيه”. “تقدم الجماعة المركزية كل شهر تقريرا عن حالة الصندوق لجميع المشتركين” (الفقرة 17)، الخ.. وهناك 10 فقرات تتناول “منظمة الحي” و19 فقرة تتناول التشابك المعقد منتهى التعقيد بين “لجنة المنظمة العمالية” و”لجنة اتحاد النضال في سانت بطرسبورغ” (منتدبون عن كل حي وعن “الجماعات التنفيذية” – “جماعة من الدعاة، جماعة للاتصال بالأقاليم، جماعة للاتصال بالخارج، جماعة لإدارة المستودعات، جماعة للمنشورات، جماعة للصندوق”). الاشتراكية-الديموقراطية = “الجماعات التنفيذية” بالنسبة إلى نضال العمال الإقتصادي! لعل من الصعب أن نبين بأبرز من ذلك كيف تنزلق فكرة “الإقتصادي” من الاشتراكية-الديموقراطية إلى التريديونيونية، وكيف لا يستطيع إطلاقا أن يتصور أن الاشتراكي-الديموقراطي ملزم بأن يفكر قبل كل شيء بمنظمة ثوريين أكفاء لقيادة نضال البروليتاريا التحريري كله. فالحديث عن “تحرير الطبقة العاملة السياسي”، وعن النضال ضد “الطغيان القيصري” وتحبير مثل هذه الأنظمة الداخلية للمنظمة، يعني عدم إدراك أي شيء على الإطلاق من المهام السياسية الحقيقية التي تواجه الاشتراكية-الديموقراطية. ليست ثمة أية فقرة بين الفقرات الخمسين تنم عن بارقة إدراك لضرورة القيام بأوسع تحريض سياسي بين الجماهير يكشف عن جميع نواحي الاستبداد الروسي، عن كل سيماء مختلف الطبقات الاجتماعية في روسيا. وهذا النظام الداخلي، فضلا عن أنه لا يمكن من بلوغ الأهداف السياسية، لا يمكن كذلك من بلوغ الأهداف التريديونيونية نفسها، إذ أنها تتطلب تنظيما حسب المهن، وهو ما لا يؤتى على ذكره إطلاقا. ولعل السمة الأبعد في الدلالة هي مبلغ ثقل كل هذا “النظام” الذي يحاول أن يربط كل مصنع إلى “اللجنة” برباط دائم من قواعد متشابهة وتافهة لدرجة مضحكة وعلى أساس نظام انتخابي ذي ثلاث درجات. إن التفكير الذي يخنقه ضيق أفق “الإقتصادية” ينطلق هنا إلى تفاصيل تنز منها روائح المماطلة والدواوينية. والواقع أن ثلاثة أرباع هذه الفقرات لا تطبق أبدا، ولكن هذا التنظيم “السري” الذي توجد جماعة مركزية له في كل مصنع، يسهل بالمقابل على الدرك تنظيم الإعتقالات على نطاق واسع إلى حد لا يصدق. لقد اجتاز الرفاق البولونيون هذه المرحلة من مراحل الحركة، حين شغف الجميع بتشكيل صناديق عمال على نطاق واسع، ولكنهم لم يلبثوا أن تخلوا عن هذه الفكرة إذ اتضح لهم أنهم بذلك لا يفعلون أكثر من تقديم غلة كبيرة للدرك. وإذا كنا نريد منظمات عمال واسعة، وإذا كنا لا نريد اعتقالات واسعة ولا نريد إدخال المسرة إلى قلوب الدرك، فيجب علينا أن نعمل لكي لا تتخذ هذه المنظمات أي شكل تنظيمي. – ولكن هل يمكن لمنظمات كهذه أن تقوم بوظائفها؟ – لنلق نظرة على هذه الوظائف: “…مراقبة كل ما يجري بالمصنع وتسجيل الأحداث التي تجري فيه” (الفقرة 2 من النظام الداخلي). وهل تحتاج هذه الوظيفة حقا إلى شكل تنظيمي؟ ألا يمكن تنفيذها بصورة أفضل عن طريق رسائل إلى الجرائد السرية دون أن تنظم لهذا الغرض أية جماعات خاصة؟ “…قيادة نضال العمال من أجل تحسين حالتهم في العمل” (الفقرة 3 من النظام الداخلي). وهذا أيضا لا يحتاج إلى أي شكل تنظيمي. فمحادثة بسيطة تكفي لأن يعرف المحرض، بكل دقة، مهما كانت درجة ذكائه، ما هي المطالب التي يريدها العمال؛ وعندما يعرفها يستطيع أن يرفعها إلى منظمة غير واسعة، إلى منظمة ضيقة من الثوريين، لإيصال النشرة المناسبة. “..تنظيم صندوق… يكون رسم الاشتراك فيه كوبيكين عن كل روبل” (الفقرة 9) ومن ثم إعطاء تقرير شهري للجميع عن حالة الصندوق (الفقرة 17) وطرد الأعضاء الذين لا يدفعون اشتراكاتهم (الفقرة 10)، الخ.. وهذا هو، بالنسبة للشرطة، الجنة عينها، لأنه ليس ثمة ما هو أسهل من التسلل إلى أعماق هذا السر، سر “الصندوق المركزي” في المعمل ومن مصادرة النقود واعتقال نخبة الأعضاء. أليس من الأفضل إصدار طوابع بكوبيك أو كوبيكين تحمل خاتم منظمة معينة (ضيقة جدا وسرية جدا)، أو حتى جمع تبرعات بدون أية طوابع تنشر جريدة سرية تقارير عنها بلغة متفق عليها؟ إن الهدف نفسه يمكن بلوغه بذلك، ولكن اكتشاف المنظمة يصبح أصعب على الدرك بمئة مرة. بوسعي أن أستمر في تحليل فقرات النظام الداخلي، ولكني أحسب أن في ما ذكرته الكفاية. إن نواة صغيرة متراصة تتألف من أشد العمال ثقة وحنكة وتمرسا بالنضال، لها معتمدون في المناطق الرئيسية وتتصل بمنظمة الثوريين على أساس مراعاة قواعد العمل السري بكل دقة، تستطيع تماما، استنادا إلى أوسع تأييد من قبل الجمهور وبدون أي شكل تنظيمي، أن تقوم بجميع الوظائف الملقاة على المنظمة المهنية، وتستطيع فضلا عن ذلك القيام بها على وجه الضبط بالشكل الذي تريده الاشتراكية-الديموقراطية. هذا هو الطريق الوحيد الذي يمكن من تعزيز وتطوير الحركة المهنية الاشتراكية-الديموقراطية بالرغم من الدرك كله. وسيعترضون علي بقولهم أن منظمة lose إلى حد أنها لا تتخذ لنفسها أي شكل معين وأعضاءها غير معروفين وغير مسجلين، لا يمكن أن تسمى بمنظمة. – ربما. لست ممن يهتمون بالأسماء. ولكن هذه “المنظمة بلا أعضاء” ستقوم بكل ما يلزم وستؤمن منذ البدء الصلة الوثقى بين تريديونيوناتنا المقبلة وبين الاشتراكية. وكل من يريد في ظل الاستبداد منظمة عمال واسعة تنتخب هيئاتها على أساس الاقتراع العام وتقدم التقارير والخ.، فهو بكل بساطة طوبوي لا يرجى له شفاء. والعبرة التي تستخلص من ذلك بسيطة: إذا بدأنا بتكوين منظمة ثوريين وطيدة قوية، استطعنا أن نضمن الاستقرار للحركة بمجموعها، استطعنا أن نبلغ الأهداف الاشتراكية-الديموقراطية والأهداف التريديونيونية الصرف أيضا. أما إذا بدأنا بتكوين منظمة عمال واسعة، منظمة يُزعم أنها “أسهل منالا” للجماهير (والواقع أنها أسهل منالا للدرك وأنها تجعل الثوريين أسهل منالا للشرطة)، فإننا لن نبلغ لا هذه الأهداف ولا تلك، ولن نتخلص من العمل الحرفي؛ بل إننا، بانقساماتنا وانهياراتنا الدائمة، نجعل طراز تريديونيون زوباتوف أو أوزيروف أسهل منالا للجماهير. بم ينبغي أن تتلخص وظائف منظمة الثوريين هذه؟ – سنتناول الآن ذلك بالتفصيل. ولكننا سنبدأ بتحليل آراء نموذجية أخرى لصاحبنا الإرهابي الذي يظهر مرة أخرى (ويا لسوء الطالع!) متاخما “للإقتصادي”. نجد في العدد 1 من “سفوبودا”، وهي مجلة للعمال، مقالا تحت عنوان “التنظيم”، يحاول كاتبه أن يدافع فيه عن معارفه من العمال “الإقتصاديين” في إيفانوفو-فوزنيسينسك. يقول: “لا خير في جموع صامتة، غير واعية، لا خير في حركة لا تأتي من أسفل. أنظروا: عندما يعود الطلاب من مدينة جامعية إلى بيوتهم في أيام الأعياد أو في الصيف، تتوقف حركة العمال. وهل يمكن لحركة عمال يدفعونها من خارجها أن تكون قوة حقا؟ مطلقا… إنها لم تتعلم بعد المشي على قدميها ويسندونها كالأطفال. وهكذا في كل شيء: يسافر الطلاب فتقف الحركة. يلتقطون الأكثر كفاءة من الزبدة فيفسد الحليب. يعتقلون “اللجنة” فيسود السكون إلى أن تتألف لجنة جديدة؛ ومن يدري كيف تكون الجديدة، فقد تختلف عن السابقة كل الاختلاف: لجنة كانت تقول شيئا والأخرى ستقول العكس، وتنقطع الصلة بين الأمس والغد، ولا تعود خبرة الماضي مفيدة للمستقبل. وكل هذا من جراء عدم وجود جذور في الأعماق، في الجموع؛ كل هذا لأن العمل لا يجري من قبل مئة من الحمقى، بل من قبل دستة من الأذكياء. سهل دائما على الحوت أن يبتلع عشرة أشخاص، ولكن إذا ما شملت المنظمة الجموع، إذا ما صدر كل شيء عن الجموع، فليس في وسع أي جهد أن يقضي على القضية” (ص 63). لقد وصفت الوقائع وصفا صادقا. فقد أعطى الكاتب صورة لا بأس بها عن عملنا الحرفي. ولكن الاستنتاجات خليقة بـ”رابوتشايا ميسل” سواء من حيث الغباء أم من حيث انعدام الذوق السياسي. إنها الذروة في الغباء، إذ أن الكاتب يخلط بين مسألة “جذور” الحركة “في الأعماق” – وهي مسألة فلسفية واجتماعية تاريخية، ومسألة تحسين النضال ضد الدرك – وهي مسألة تكنيكية تنظيمية. إنها الذروة من انعدام الذوق السياسي لأن الكاتب، بدلا من أن يدعو إلى أن يحل القادة الصالحون محل القادة الرديئين، يدعو إلى أن تحل “الجموع” محل القادة عموما. إن هذه محاولة تجرنا إلى الوراء في الميدان التنظيمي، مثلما أن فكرة حلول الإرهاب التهييجي محل التحريض السياسي تجرنا إلى الوراء في الميدان السياسي. وإني والحق يقال في embarras de richesses لا أدري بما أبدأ تحليل التشويش الذي أتحفتنا به “سفوبودا”. سأحاول البدء بضرب مثل للوضوح. ولنأخذ الألمان. وآمل أنكم لن تنكروا أن المنظمة عندهم تشمل الجموع وأن كل شيء يصدر عن الجموع وأن حركة العمال قد تعلمت المشي على قدميها. ولكن كم تحسن هذه الجموع الغفيرة تقدير “الدستة” من قادتها السياسيين المجربين، وبأية قوة تتمسك بهم! فكم من مرة وقف نواب الأحزاب المعادية في البرلمان لإزعاج الاشتراكيين وقالوا: “ما أجملكم من ديموقراطيين! حركتكم هي حركة الطبقة العاملة في مجال القول فحسب، ولكن في مجال العمل تبرز على الدوام نفس الزمرة من القادة. طيلة السنين وعشرات السنين نرى بيبل لا يحول ولا يزول، نرى ليبكنخت لا يحول ولا يزول. إن نوابكم الذين تدعون أنهم منتخبو العمال هم أثبت في مناصبهم من الموظفين الذين يعينهم الإمبراطور!” غير أن الألمان قد استقبلوا ببسمة ازدراء هذه المحاولات الديماغوجية التي تستهدف معارضة “الزعماء” بـ”الجموع”، وإثارة غرائز الغرور الرديئة في الجموع، وحرمان الحركة متانتها وثباتها عن طريق تقويض ثقة الجماهير بـ”دستة الأذكياء”. لقد بلغ الألمان من تطور الفكر السياسي واكتسبوا من الخبرة السياسية ما جعلهم يفهمون أنه يتعذر في المجتمع الراهن على كل طبقة من الطبقات أن تناضل بثبات بدون “دستة” من الزعماء النوابغ (والنوابغ لا يولدون بالمئات) المجربين والمتفقين في الرأي أروع الإتفاق والمحضرين مهنيا والذين حنكتهم تجارب الأيام. لقد عرف الألمان في بيئتهم كذلك ديماغوجيين تملقوا “المئات من الحمقى” ورفعوهم فوق “دستات الأذكياء”، تملقوا “قبضة” الجمهور “المفتولة العضل” مستثيرينه (على غرار موست وهاسيلمان) إلى أعمال “ثورية” طائشة وباذرين الشك بالزعماء الرصينين الحازمين. وما كانت الاشتراكية الألمانية لتتوطد وتنمو هذا النمو لولا نضالها في الداخل نضالا عنيدا لا هوادة فيه ضد جميع العناصر الديماغوجية على اختلافها. أما حكماؤنا فإنهم، في هذا الظرف الذي تفسر فيه كل أزمة الاشتراكية-الديموقراطية الروسية بكون الجماهير المستيقظة بصورة عفوية لا تجد قادة على قدر كاف من الاستعداد والتطور والتجربة، يعلنون بعمق تفكير الغبي: “لا خير في حركة لا تأتي من أسفل”! “لجنة الطلبة لا تصلح، إنها غير ثابتة”. – هذا صحيح كل الصحة. ولكن يستنتج منه أن الأمر يتطلب لجنة من ثوريين محترفين، من أناس ينمون في أنفسهم صفات الثوري المحترف ولا يهم بعد ذلك أن يكونوا عمالا أو طلابا. بينما تستنتجون أنتم أنه لا ينبغي دفع حركة العمال من خارجها! إنكم لا تلاحظون، بسبب سذاجتكم السياسية، أنكم تخدمون بذلك “اقتصادييـ”نا وطريقتنا في العمل الحرفي. واسمحوا لنا بأن نسألكم: بم تجلى “دفع” طلابنا لعمالنا؟ الأمر الوحيد الذي تجلى فيه هذا الدفع هو كون الطالب قد حمل للعامل شذرات المعارف السياسية الموجودة لديه وفتات الأفكار الاشتراكية التي جمعها (لأن طالب اليوم يجد غذاءه العقلي الرئيسي في الماركسية العلنية التي لم تكن تستطيع أن تعطيه غير الأبجدية وغير الفتات). إن مثل هذا “الدفع من الخارج” بالذات لم يكن في حركتنا بالكثير، بل بالعكس، لقد كان قليلا جدا، قليلا لحد مخجل ومشين، لأننا أفرطنا في الانطواء على أنفسنا، أفرطنا في السجود كالعبيد أمام “نضال العمال” البدائي “الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة”. ومثل هذا “الدفع” بالذات ينبغي لنا نحن الثوريين المحترفين أن ننصرف إليه وسننصرف إليه بجهود مضاعفة مئة مرة. بيد أنه، نظرا لوقوع اختياركم بالضبط على هذا التعبير الشنيع، “الدفع من الخارج”، هذا التعبير الذي يوحي للعامل حتما (على الأقل للعامل المتأخر بمقدار تأخركم أنتم) عدم الثقة بجميع من يحملون إليه من الخارج المعرفة السياسية والخبرة الثورية، ويثير فيه غريزة الرغبة في صد جميع أمثال هؤلاء الناس، نظرا لهذا الواقع بالضبط تكونون من الديماغوجيين، والديماغوجيون هم شر أعداء الطبقة العاملة. نعم، نعم! لا تتسرعوا في رفع عقيرتكم بالعويل حول “أساليبي غير الرفاقية” في الجدال! فليس في نيتي أن أشك في صفاء طويتكم. لقد سبق لي أن قلت أنه يمكن أن يصبح المرء من الديماغوجيين لمجرد سذاجته السياسية. ولكني برهنت أنكم هويتم إلى درك الديماغوجية. وسأكرر دون كلل أن الديماغوجيين هم شر أعداء الطبقة العاملة. هم بالضبط شر أعداء الطبقة العاملة لأنهم يثيرون في الجموع الغرائز السيئة، ولأن العمال المتأخرين لا يستطيعون تبين هؤلاء الأعداء الذين يدعون أنهم أصدقاء لهم، ويدعون ذلك أحيانا مخلصين. هم شر الأعداء إذ أنه، في مرحلة التبعثر والتردد، في المرحلة التي لا تزال فيها سيماء حركتنا في دور التكوين، ليس أيسر من جذب الجموع عن طريق الديماغوجية فلا يقنعها فيما بعد بخطئها غير المحن المريرة. ولذلك يجب على الاشتراكي-الديموقراطي الروسي اليوم أن يجعل شعار الساعة النضال الحازم سواء ضد “سفوبودا” التي تهوي إلى درك الديماغوجية أو ضد “رابوتشييه ديلو” التي تهوي هي أيضا إلى درك الديماغوجية (الأمر الذي سنبينه بتفصيل فيما يأتي من البحث). “اصطياد دستة أذكياء أسهل من اصطياد مئة أحمق”. إن هذه الحقيقة الرائعة (التي تضمن لكم على الدوام التصفيق من مئة أحمق) لا تبدوا جلية إلا لأنكم قد قفزتم في مجرى تفكيركم من مسألة إلى أخرى. لقد بدأتم الحديث وما زلتم تتحدثون عن اصطياد “اللجنة”، عن اصطياد “المنظمة”، وقد قفزتم الآن إلى مسألة اصطياد “جذور” الحركة “في الأعماق”. واضح أن حركتنا لا يمكن القبض عليها ولو بسبب أن لها مئات ومئات الألوف من الجذور في الأعماق. ولكن المسألة ليست هنا. فحتى في الوقت الحاضر، وبالرغم من كل طريقتنا الحرفية في العمل، يتعذر “اصطياد”نا بمعنى اصطياد “جذورنا في الأعماق”؛ ولكننا جميعا نشكو مع ذلك، ولا بد لنا أن نشكو من هذا القبض على “المنظمات” الذي يقوض كل استمرارية في الحركة. أما إذا طرحتم مسألة القبض على المنظمات دون أن تحيدوا عنها، فإني أقول لكم أن القبض على دستة من الأذكياء أصعب جدا من القبض على مئة أحمق. وسأدافع عن هذا الرأي مهما ألَّبتم علي الجموع بسبب موقفي “المعادي للديموقراطية” الخ.. ينبغي لنا أن نفهم من تعبير “الأذكياء” في الميدان التنظيمي – كما أشرت غير مرة – الثوريين المحترفين فقط، سواء ظهروا من بين الطلاب أو العمال، فلا فرق. وها أنا ذا أجزم بأنه: 1) لا يمكن أن توجد أية حركة ثورية وطيدة بدون منظمة من القادة ثابتة تحافظ على الاستمرارية؛ 2) بمقدار ما يتسع الجمهور الذي ينهض بصورة عفوية إلى النضال والذي يؤلف قاعدة الحركة ويساهم فيها، تشتد الحاجة إلى مثل هذه المنظمة وينبغي لها أن تكون أوطد (وإلا سهل بنفس المقدار على كل ديماغوجي التغرير بفئات الجمهور المتأخرة)؛ 3) ينبغي لهذه المنظمة أن تتألف بصورة رئيسية من أناس يجعلون من النشاط الثوري مهنة لهم؛ 4) بمقدار ما نضيق، في بلاد يسودها الاستبداد، قوام أعضاء هذه المنظمة بحيث لا يشترك فيها غير الأشخاص الذين جعلوا من النشاط الثوري مهنة لهم والذين تدربوا تدريبا مهنيا على فن النضال ضد الشرطة السياسية، تزداد صعوبة “اصطياد” هذه المنظمة و5) يزداد عدد أبناء الطبقة العاملة والطبقات الإجتماعية الأخرى الذين تتاح لهم إمكانية الإشتراك في الحركة والعمل النشيط فيها. إني أطلب إلى أصحابنا “الإقتصاديين” والإرهابيين و”الإقتصاديين-الإرهابيين” أن يدحضوا هذه الصيغ التي لن أتناول منها الآن غير الصيغتين الأخيرتين. إن مسألة ما إذا كان القبض على “دستة من الأذكياء” أسهل من القبض على “مئة من الحمقى” تؤول إلى المسألة التي حللناها: هل المنظمة الجماهيرية ممكنة مع ضرورة المراعاة الدقيقة لقواعد العمل السري؟ لن نستطيع بحال من الأحوال أن نرفع منظمة واسعة إلى ذلك المستوى من السرية الذي لا يمكن بدونه حتى الحديث عن نضال ضد الحكومة له صفة الثبات والاستمرارية. إن تركيز جميع الوظائف السرية في أيدي أقل عدد ممكن من الثوريين المحترفين لا يعني قط أن هؤلاء “سيفكرون عوضا عن الجميع” وأن الجموع لن تساهم في الحركة بنشاط. بل بالعكس، فإن الجموع ستبرز هؤلاء الثوريين المحترفين بعدد يتزايد باستمرار، لأن الجموع ستعرف عندئذ أنه لا يكفي أن يجتمع عدد من الطلاب والعمال القائمين بالنضال الإقتصادي ويشكلوا “اللجنة”، إنما ينبغي للجموع أن تنفق السنين على تنشئة ثوريين محترفين من صلبها، وسينصرف “تفكير”ها إلى هذه التنشئة بالذات، لا إلى العمل الحرفي وحده. إن تركيز الوظائف السرية للمنظمة لا يعني إطلاقا تركيز جميع وظائف الحركة. فاشتراك أوسع الجماهير اشتراكا نشيطا في المنشورات السرية لا يقل من جراء تركيز “دستة” من الثوريين المحترفين للوظائف السرية في هذا العمل، بل، بالعكس، يزداد أضعافا مضاعفة. ليس من طريق غير هذا الطريق يوصلنا إلى جعل أمر قراءة المنشورات السرية والمساهمة في تحريرها وحتى أمر توزيعها إلى حد معين تكف تقريبا عن أن تكون أمرا سريا، لأن الشرطة لا تلبث أن تفهم أن من الحماقة والمستحيل اللجوء إلى الإجراءات القضائية والإدارية بصدد كل نسخة من ألوف النسخ الموزعة. ولا ينطبق ذلك على الصحافة وحسب، إنما ينطبق أيضا على جميع وظائف الحركة بما في ذلك المظاهرات. فاشتراك الجمهور في المظاهرة أنشط اشتراك وأوسعه، عدا أنه لا يصاب بأي ضرر، يستفيد جدا إذا ما قامت “دستة” من الثوريين المجربين والمدربين تدريبا مهنيا لا يقل عن تدريب الشرطة عندنا بتركيز جميع النواحي السرية في العمل – تحضير المناشير، وضع مشروع تقريبي، تعيين هيئة قيادة لكل حي من أحياء المدينة، ولكل منطقة من مناطق المعامل ولكل مدرسة الخ. (أعلم أنهم سيعترضون علي بأن نظراتي “غير ديموقراطية”، ولكني سأجيب بالتفصيل على هذا الاعتراض الأخرق تماما فيما يأتي من البحث). إن تركيز منظمة الثوريين لأكثر الوظائف سرية لا يضعف، إنما يزيد سعة ومضمون نشاط مجموعة كبرى من المنظمات الأخرى المعدة للجمهور الواسع والتي تخلو بسبب ذلك لأقصى حد ممكن من الشكل التنظيمي والسرية: كنقابات العمال، وحلقات العمال للدراسة ولقراءة المنشورات السرية، والحلقات الاشتراكية وكذلك الحلقات الديموقراطية بين جميع فئات السكان الأخرى، الخ.، الخ.. إن هذه الحلقات والنقابات والمنظمات ضرورية في كل مكان، وبأكبر عدد ممكن وبوظائف متنوعة ما أمكن؛ ولكن من خطل الرأي ومن الضرر أن نخلط بينها وبين منظمة الثوريين وأن نطمس الحد الفاصل بين هذه المنظمات ومنظمة الثوريين وأن نطفئ في الجمهور نور الإدراك الذي سبق له وخبا إلى حد لا يصدق، الإدراك بأن الحركة الجماهيرية تحتاج “لخدمتها” إلى أناس يكرسون أنفسهم خصيصا وكليا للنشاط الاشتراكي-الديموقراطي، وأنه ينبغي لهؤلاء الناس أن يربوا من أنفسهم بصبر ومثابرة ثوريين محترفين. أجل لقد خبا هذا الإدراك لدرجة يصعب تصورها. والخطيئة الرئيسية التي اقترفناها في ميدان التنظيم هي كوننا، بعملنا الحرفي، قد أسأنا إلى سمعة الثوري في روسيا. ثوري ضيق الأفق، ضعيف ومتردد في القضايا النظرية، يجعل من عفوية الجماهير مبرراً لرخاوته، أشبه بسكرتير تريديونيون منه إلى خطيب شعبي، غير كفء لعرض برنامج واسع جريء ينتزع احترام الخصوم أنفسهم، قليل الخبرة وأخرق في الفن الذي اتخذه لنفسه مهنة – النضال ضد الشرطة السياسية،- هل هذا هو الثوري من فضلكم! لا، إن هذا حرفي يستحق الشفقة. أرجو ألا يعتب علي أحد من المشتغلين في الميدان العملي لهذه الكلمة الخشنة، إذ أني أنسبها لنفسي قبل كل شيء ما دمنا نتحدث عن قلة الاستعداد. لقد عملت في حلقة(91) وضعت نصب عينيها أهدافا واسعة شاملة، وقد شعرنا جميعنا نحن أعضاء هذه الحلقة بالألم يحز في قلوبنا إذ أدركنا أننا حرفيون في ظرف تاريخي يمكننا أن نقول فيه مع بعض التغيير لعبارة من العبارات الشائعة: أعطونا منظمة من الثوريين، نقلب روسيا رأسا على عقب! وبمقدار ما وجب علي منذ ذلك الحين أن أتذكر شعور الخجل الممض الذي كان يحز في نفسي آنذاك، كانت تمتلئ نفسي بالمرارة ضد أولئك الاشتراكيين-الديموقراطيين المزيفين الذين “يهينون لقب الثوري” بدعايتهم، والذين لا يفهمون أن واجبنا ليس الدفاع عن الهبوط بالثوري إلى مستوى الحرفي، بل رفع الحرفيين إلى مستوى الثوريين.

د) سعة العمل التنظيمي

سمعنا فيما تقدم من ب-ف عن “نقص القوى الثورية القادرة على العمل، النقص الذي يشعر بوجوده في جميع أنحاء روسيا، لا في بطرسبورغ وحدها”. ولا أحسب أن هنالك أحداً يعارض هذا الواقع ولكن القضية في كيفية تفسيره. يقول ب-ف: “لن نأخذ في تبيان الأسباب التاريخية لهذه الظاهرة؛ حسبنا أن نقول أن المجتمع، وقد أضعفت معنوياته رجعية سياسية استمرت طويلا وجزأته التغيرات الإقتصادية التي جرت ولا تزال تجري فيه، لا يقدم من صفوفه غير عدد محدود جدا من الأشخاص الصالحين للعمل الثوري، وأن نقول أن الطبقة العاملة بتقديمها عمالا ثوريين، تكمل جزئيا صفوف المنظمات السرية؛ ولكن عدد هؤلاء الثوريين لا يفي بمتطلبات الزمن. وهذا صحيح لا سيما وأن العامل المشغول في المعمل 111/2 ساعة كل يوم لا يمكنه بحكم وضعه أن يقوم بصورة رئيسية بغير وظيفة التحريض. أما وظائف الدعاية والتنظيم وإنتاج المنشورات السرية وإرسالها، وإصدار المناشير، الخ.، فيقع ثقلها الأكبر بالضرورة على كواهل عدد قليل جدا من المثقفين” (“رابوتشييه ديلو”، العدد 6، ص 38-39). نحن نوافق بـ- ف على رأيه هذا في نقاط كثيرة ولا نوافقه بوجه خاص على الكلمات التي طبعناها بالحرف العريض والتي تظهر بجلاء خاص أن بـ- ف، وقد عانى الكثير من الآلام (شأن كل من مارس النشاط العملي وكان مفكرا إلى حد ما) بسبب عملنا الحرفي، لا يستطيع، لوجوده تحت ضغط “الإقتصادية”، تحسس مخرج من الوضع الذي لا يطاق. لا، إن المجتمع يقدم من صفوفه عددا كبيرا جدا من الأشخاص الأكفاء “للعمل”، ولكننا لا نحسن الاستفادة منهم جميعا. إن وضع حركتنا الحرج، وضعها الانتقالي، يمكن إجماله من هذه الناحية كما يلي: لا يوجد ناس- وتوجد كثرة من الناس. كثرة من الناس لأن الطبقة العاملة وفئات من المجتمع متزايدة التنوع، تقدم من سنة لأخرى عددا متعاظما من الساخطين الراغبين في الاحتجاج والمستعدين للمساهمة على قدر الطاقة في النضال ضد الاستبداد الذي لم يدرك الجميع بعد أنه غدا لا يطاق ولكن يحس به مع ذلك جمهور كبير يتعاظم باستمرار إحساسا يشتد باطراد. وفي الوقت نفسه لا يوجد ناس، وذلك لعدم وجود قادة، لعدم وجود زعماء سياسيين، لعدم وجود منظمين موهوبين أكفاء لتنظيم عمل واسع، وفي الوقت نفسه موحد ومنسجم، يسمح بالاستفادة من كل القوى، حتى أضعفها. إن “نمو وتطور المنظمات الثورية” لا يتأخران عن نمو حركة العمال وحسب، وهو الأمر الذي يعترف به ب- ف أيضا، بل يتأخران كذلك عن نمو الحركة الديموقراطية العامة في جميع فئات الشعب (إلا أنه من المحتمل أن يعتقد ب ـ ف اليوم أن هذا أيضا تتمة لاستنتاجه). إن نطاق العمل الثوري ضيق جدا بالقياس إلى سعة أساس الحركة العفوي، مضغوط جدا بالنظرية الفقيرة القائلة بـ”النضال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة”. هذا في حين أن “التوجه إلى جميع طبقات السكان”• ليس اليوم واجب المحرضين السياسيين وحدهم، إنما هو كذلك واجب المنظمين الإشتراكيين-الديموقراطيين. ولا أحسب أن أحداً من المشتغلين في الميدان العمل يشك بأنه يمكن للإشتراكيين-الديموقراطيين أن يوزعوا الألوف من الوظائف الجزئية في عملهم التنظيمي بين بعض ممثلي مختلف الطبقات. فانعدام التخصص، – الأمر الذي يشكو منه ب – ف بمرارة وبملء حق- هو نقص من أكبر النواقص في تكنيكنا. وبمقدار ما تصغر مختلف “عمليات” العمل المشترك، تزداد إمكانية إيجاد الأشخاص القادرين على القيام بهذه العمليات (وغير القادرين بتاتا في معظم الحالات على أن يصبحوا ثوريين محترفين)، وتزداد بالنسبة إلى الشرطة صعوبة “اصطياد” جميع هؤلاء “القائمين بالجزئيات” وصعوبة تلفيق “قضية” تبرر نفقات الدولة على “الأمن العام” من أجل القبض على شخص وهو يقوم بعمل تافه. أما فيما يخص عدد المستعدين لمساعدتنا، فقد سبق لنا أن أشرنا في الفصل السابق إلى التغيرات الكبرى التي وقعت في هذا الحقل منذ نحو خمس سنوات على الأكثر. ولكن، من جهة أخرى، لكي نوحد جميع هذه الأجزاء الصغيرة في كل واحد، ولكيلا تؤدي تجربة وظائف الحركة إلى تجزئة الحركة نفسها، ولكي نوحي إلى القائم بالوظائف الجزئية الإيمان بضرورة وأهمية عمله، الإيمان الذي لن يعمل أبدا بدونه- لكل هذا يتطلب الأمر على وجه الدقة منظمة قوية من الثوريين المجربين. وفي حالة وجود هذه المنظمة يشتد الإيمان بقوة الحزب ويتسع بمقدار مراعاة هذه المنظمة لقواعد العمل السري. فمن المعروف أن أحد الأمور الهامة منتهى الأهمية في الحرب هو أن تشيع الإيمان بقواك لا في جيشك وحسب، بل في العدو وفي جميع العناصر المحايدة أيضا؛ فالحياد مع التحبيذ يقرر في بعض الأحيان نتيجة المعركة. وفي حالة وجود منظمة كهذه تقف على قاعدة نظرية وطيدة وتحت تصرفها جريدة اشتراكية-ديموقراطية، لا يخشى على الحركة من أن تخرجها عن طريقها العناصر “الخارجية” الكثيرة المنجذبة إليها (بالعكس، نلاحظ الآن بالضبط، في ظل العمل الحرفي، كيف يُجرّ كثيرون من الاشتراكيين-الديموقراطيين في خط “Credo” حاسبين أنهم وحدهم الاشتراكيون-الديموقراطيون). وباختصار، إن التخصص يفترض بالضرورة التمركز ويتطلبه كأمر لا بد منه. ولكن ب – ف نفسه، الذي بين بصورة رائعة ضرورة التخصص، لا يقدره حسب رأينا التقدير الكافي في القسم الثاني من المقطع الذي أثبتناه. إنه يقول أن عدد الثوريين المنبثقين من العمال غير كاف. وهذا صحيح كل الصحة؛ ونحن نؤكد مرة أخرى أن “هذا النبأ القيم من مراقب عن كثب” يثبت بصورة تامة صحة نظرتنا عن أسباب الأزمة الراهنة في الاشتراكية-الديموقراطية، وبالتالي، عن وسائل الخروج منها. فالقضية لا تقتصر على تأخر الثوريين بوجه عام عن مجاراة نهوض الجماهير العفوي: فالعمال الثوريون متأخرون هم أيضا عن مجاراة نهوض جماهير العمال العفوي. وهذا الواقع يثبت بكل جلاء، حتى من وجهة النظر “العملية”، خطل “التربية” التي يكثرون من تقديمها لنا عند بحث مسألة واجباتنا حيال العمال كما يثبت فضلا عن ذلك طابعها السياسي الرجعي. فهذا الواقع يدل على أن واجبنا الأول، الواجب الذي يفرض نفسه فرضا، هو المساعدة على تنشئة ثوريين عمال يقفون على صعيد واحد مع الثوريين المثقفين من وجهة نظر النشاط الحزبي (ونحن نكتب بحرف عريض كلمات: من وجهة نظر النشاط الحزبي، لأن بلوغ العمال هذا المستوى من وجهات النظر الأخرى أمر أقل سهولة بكثير وأقل إلحاحا بكثير وإن كان ضروريا). ولذلك يجب علينا أن نضع نصب عيوننا بصورة رئيسية رفع العمال إلى مستوى الثوريين، لا الهبوط حتما بأنفسنا نحن إلى مستوى “جماهير العمال” كما يريد الإقتصاديون”، أو حتما إلى مستوى “العامل المتوسط” كما تريد “سفوبودا” (التي ترتفع في هذا الصدد إلى الدرجة الثانية من “التربية” الإقتصادية). لم يخطر لي قط أن أنكر ضرورة إصدار منشورات للعمال بلغة مبسطة وضرورة إصدار منشورات أخرى بلغة مبسطة جدا (على أن لا تكون مبتذلة طبعا) للعمال المتأخرين جدا. ولكن ما يثيرني هو هذا الميل الدائم إلى لصق التربية بقضايا السياسة وقضايا التنظيم. فأنتم أيها السادة الأوصياء على “العامل المتوسط” تهينون العامل في جوهر الأمر برغبتكم الدائمة في الإنحناء إزاءه قبل أن تتحدثوا إليه عن السياسة العمالية والمنظمة العمالية. ارفعوا رؤوسكم إذن لتتحدثوا عن الأمور الجدية ودعوا التربية للمربين، لا للسياسيين والمنظمين! ألا يوجد بين المثقفين أيضا مبرزون و”متوسطون” و”جمهور”؟ ألا يعترف الجميع بضرورة إصدار منشورات بلغة مبسطة للمثقفين أيضا، أولا تكتب مثل هذه المنشورات؟ تصوروا أن كاتبا كتب مقالا عن منظمة الطلبة الجامعيين أو الثانويين وأخذ يجتر بلهجة من اكتشف اكتشافا عظيما ويقول أن أول ما يجب هو إيجاد منظمة “للطلبة المتوسطين”. أكبر الظن أن الناس سيسخرون من هذا الكاتب بحق كامل. وسيقولون له: إن كانت لديك أفكار تنظيمية فهاتها، واتركنا نقرر حينذاك بأنفسنا من منا “المتوسط” ومن منا الأعلى ومن منا الأدنى. أما إذا كان وفاضك خاليا من الأفكار التنظيمية الخاصة بك، فاعلم أن جميع محاولاتك العقيمة عما يخص “الجمهور” و”المتوسطين” تبدو مجرد لغو ممل. اعرف، إذن، أن قضايا “السياسة” و”التنظيم” هي بحد ذاتها قضايا خطيرة بحيث لا يجوز الكلام عنها إلا بجدية كاملة: يمكن ويجب إعداد العمال (والطلبة الجامعيين والثانويين) لكي يصبح بالإمكان الحديث معهم عن هذه المسائل؛ ولكن، ما دمت قد شرعت بالحديث، فأعط الأجوبة الحقيقية، ولا تتقهقر شطر “المتوسطين” أو شطر “الجمهور”، ولا تحاول التملص بعبارات أو نكات. إن العامل الثوري، لكي يكون على استعداد تام للقيام بمهمته، ينبغي له هو أيضا أن يصبح ثوريا محترفا. ولذا كان ب – ف على غير صواب إذ يقول أنه لما كان العامل مشغولا في المعمل 111/2 ساعة فإن سائر الوظائف الثورية الأخرى (عدا التحريض) “يقع ثقلها الأكبر بالضرورة على كواهل عدد قليل جدا من المثقفين”. كلا، ليس ذلك إطلاقا “بالضرورة”، بل بحكم تأخرنا: إن ذلك يحدث لأننا لا ندرك أننا ملزمون بمساعدة كل عامل موهوب على التحول إلى محترف في الدعاية والتحريض وفي التنظيم والتوزيع الخ.، الخ.. فنحن، من هذه الناحية، نبدد قوانا بصورة مشينة تماما، ولا نحسن صيانة ما ينبغي لنا أن ننميه وننشئه بكل عناية. أنظروا إلى الألمان: قواهم أكثر من قوانا بمئة مرة، ولكنهم يعرفون خير المعرفة أن صفوف “المتوسطين” لا تقدم إطلاقا في كثير جدا من الحالات محرضين أكفاء حقا. ولذلك يسعون لكي يضعوا على الفور كل عامل موهوب في ظروف تضمن تفتح مواهبه على أحسن وجه والاستفادة منه على أحسن وجه: يجعلون منه محرضا محترفا ويشجعونه على توسيع ميدان نشاطه وجعله يتجاوز حدود المعمل ليشمل المهنة كلها، ويتجاوز حدود المنطقة ليشمل البلاد كلها. فيحصل هذا العامل على الخبرة وعلى المهارة في مهنته ويوسع أفقه ومعارفه، ويتتبع عن كثب البارزين من الزعماء السياسيين في المناطق الأخرى والأحزاب الأخرى، ويسعى للإرتفاع إلى هذا المستوى ويعمل ليجمع في نفسه معرفة البيئة العمالية وطراوة العقائد الاشتراكية مع التدريب المهني الذي لا يمكن للبروليتاريا بدونه أن تقوم بنضال عنيد ضد أعدائها المدربين على خير وجه. بهذا الشكل، وبهذا الشكل وحده ينبثق من جمهور العمال أمثال بيبل وآوير. ولكن ما يجري إلى حد كبير من تلقاء نفسه في بلاد تتمتع بالحرية السياسية، ينبغي أن يحقق عندنا بصورة منتظمة من فبل منظماتنا. إن المحرض العامل لا ينبغي أن يعمل في المعمل إحدى عشرة ساعة، إذا كان موهوبا و”باعثا للآمال” ولو إلى حد ضئيل. ينبغي لنا أن نبذل جهدنا لكي يعيش على نفقة الحزب، لكي ينتقل إلى السرية في الوقت الملائم، لكي يغير مكان نشاطه، إذ أنه إن لم يفعل ذلك لا يمكنه أن يكتسب خبرة كبيرة وأن يوسع أفقه وأن يصمد عدة سنوات على الأقل في النضال ضد الدرك. وكلما اتسع نهوض جماهير العمال العفوي وازداد عمقا، يبرز من صفوفها عدد أكبر لا من الموهوبين في التحريض وحسب، بل من الموهوبين كذلك في التنظيم وفي الدعاية ومن “المشتغلين في الميدان العملي”، بمعنى الكلمة الحسن (القلائل جدا عندنا بين مثقفينا الذين هم في معظمهم على شيء من الرخاوة والجمود الروسيين). وعندما تصبح لدينا فصائل من الثوريين العمال المعدين إعدادا خاصا والذين اجتازوا مدرسة نضال طويل (والإختصاصيين طبعا في “جميع الأسلحة”) عندئذ لا يمكن لأية شرطة سياسية في العالم أن تتغلب على هذه الفصائل، لأن هذه الفصائل المؤلفة من أناس مخلصين للثورة منتهى الإخلاص ستتمتع أيضا بثقة لا حد لها بين أوسع جماهير العمال. وخطأنا الأكيد هو كوننا قلما “ندفع” العمال إلى هذه الطريق المشتركة بينهم وبين “المثقفين”، طريق التدريب الثوري المهني، ونكثر من جرهم إلى الوراء بخطاباتنا البليدة عما هو “في متناول” جماهير العمال و”العمال المتوسطين”، الخ.. إن ضيق نطاق العمل التنظيمي هو من هذه الناحية، كما في النواحي الأخرى، على صلة لا تنفصم عراها ولا شك فيها بتضييق نظريتنا ومهامنا السياسية (وإن كانت الأغلبية الساحقة من “الإقتصاديين” والمشتغلين في الميدان العملي المبتدئين لا يعون هذه الصلة). فتقديس العفوية يبعث فينا الخوف من أن نحيد ولو خطوة عما هو “في متناول” الجمهور، الخوف من أن نرتفع جدا عن مجرد إرضاء حاجاته الحالية المباشرة. لا تخافوا، أيها السادة! تذكروا أن مستوانا التنظيمي على درجة من الانحطاط بحيث أن من السخف مجرد التفكير بأننا نستطيع الارتفاع أكثر من اللازم!

هـ) المنظمة “التآمرية” و”الروح الديموقراطية”

وهذا بالذات ما يخافه منتهى الخوف أناس كثيرون جدا بيننا، مرهفو السمع “لصوت الحياة” إلى حد هذا الخوف، وهم يتهمون الذين يتمسكون بالنظرات المعروضة هنا بالسير على خطى “نارودنايا فوليا” وبعدم فهم “الروح الديموقراطية”، الخ.. وينبغي لنا أن نقف عند هذه الإتهامات التي كانت “رابوتشييه ديلو” طبعا من مردديها. إن كاتب هذه الأسطر يعلم حق العلم أن “الاقتصاديين” في بطرسبورغ قد اتهموا “رابوتشايا غازيتا” كذلك بالسير على خطى “نارودنايا فوليا” (وهو أمر لا يستغرب إذا ما قورنت بـ”رابوتشايا ميسل”). ولذلك لم نستغرب أبدا عندما بلغنا أحد الرفاق فور صدور “الإيسكرا” أن الاشتراكيين-الديموقراطيين في مدينة معينة يصفون “الإيسكرا” بأنها جريدة جماعة “نارودنايا فوليا”. وغني عن القول أننا لم نر في هذا الإتهام غير نوع من المديح؛ فهل وجد اشتراكي-ديموقراطي جدير بهذا الإسم لم يتهمه “الإقتصاديون” بالسير على خطى “نارودنايا فوليا”؟ إن هذه الإتهامات ناشئة عن سوء تفاهم مزدوج. الأول أن تاريخ الحركة الثورية مجهول عندنا لدرجة تنسب معها إلى جماعة “نارودنايا فوليا” كل فكرة عن منظمة كفاح متمركزة تعلن الحرب بحزم على القيصرية. ولكن تلك المنظمة الرائعة التي كانت لدى الثوريين في العقد الثامن والتي ينبغي لها أن تكون نموذجا نحتذيه جميعا، لم تؤسسها جماعة “نارودنايا فوليا”، بل أسستها جماعة “زيمليا إي فوليا”(92) التي انشقت فيما بعد إلى جماعة “نشيورني بيريديل” و جماعة “نارودنايا فوليا”. فمن الحماقة إذن من وجهتي النظر التاريخية والمنطقية أن نرى في منظمة الكفاح الثورية سمة من السمات التي اختصت بها جماعة “نارودنايا فوليا”، لأن كل اتجاه ثوري، شرط أن يستهدف فعلا القيام بنضال جدي، لا يمكنه أن يستغني عن مثل هذه المنظمة. فجماعة “نارودنايا فوليا” لم تخطئ إذ دأبت على أن تجذب إلى منظمتها جميع الساخطين وعلى أن توجه هذه المنظمة إلى النضال الحازم ضد الحكم المطلق، بل إنما كان ذلك، بالعكس، مأثرتها التاريخية العظمى. لقد كان خطأ هذه الجماعة أنها استندت إلى نظرية ليست في الجوهر بثورية أصلا، وأنها لم تعرف أو لم تستطع ربط حركتها ربطا وثيقا بالنضال الطبقي داخل المجتمع الرأسمالي المتطور. إن الرأي القائل بأن نشوء حركة العمال الجماهيرية العفوية يخلصنا من واجب تأسيس منظمة ثوريين جيدة كالمنظمة التي أسستها جماعة “زيمليا إي فوليا”، بل تفضلها جدا، لا يمكن أن ينبثق إلا على أساس عدم فهم للماركسية فظ إلى أبعد حدود الفظاظة (أو على أساس “فهمـ”ـها على نمط “الستروفية”). بالعكس، إن هذه الحركة تفرض علينا بالذات هذا الواجب، لأن نضال البروليتاريا العفوي لا يصبح “نضالا طبقيا” حقا للبروليتاريا إلا عندما توجهه منظمة ثوريين قوية. الثاني أن هناك كثيرين، ومنهم ب. كريتشيفسكي على ما يبدو (“رابوتشييه ديلو”، العدد 10، ص 18)، لا يفهمون على الوجه الصحيح ذلك الجدال الذي خاضه الإشتراكيون-الديموقراطيون على الدوام ضد المفهوم “التآمري” للنضال السياسي. لقد وقفنا وسنقف على الدوام طبعا في وجه حصر النضال السياسي في نطاق التآمر•، ولكن ذلك لم يعلن على الإطلاق أننا ننكر ضرورة وجود منظمة ثورية قوية. ففي الكراس المشار إليه في الملاحظة، مثلا، قد أعطينا، إلى جانب الجدال ضد الهبوط بالنضال السياسي إلى مستوى التآمر، خطوطا عامة لمنظمة (معروضة كأنها المثل الأعلى الاشتراكي-الديموقراطي) بالغة من القوة حدا تستطيع معه أن “تلجأ، من أجل توجيه الضربة القاضية للحكم المطلق”، إلى “الانتفاض” وإلى كل “طريقة أخرى من طرق الهجوم”. ومن حيث الشكل يمكن وصف مثل هذه المنظمة الثورية القوية في بلاد يسودها الحكم المطلق بأنها منظمة “تآمرية”، لأن كلمة “conspiration” الفرنسية تعادل الكلمة الروسية “زاغوفور” (“التآمر”)، والتآمرية ضرورية لمثل هذه المنظمة إلى أقصى حد. إن التآمرية شرط ضروري جدا لهذه المنظمة بحيث ينبغي لجميع الشروط الأخرى (كعدد الأعضاء، وطريقة اختيارهم، ووظائفهم، الخ.) أن تتلاءم معه. ولذا، من السذاجة كل السذاجة أن نخاف نحن الإشتراكيين-الديموقراطيين من أن نتهم بأننا نريد إنشاء منظمة تآمرية. فمثل هذا الاتهام هو إطراء لكل عدو “للاقتصادية” كالاتهام بالسير على خطى جماعة “نارودنايا فوليا”. يعترض علينا: إن منظمة قوية وسرية جدا تجمع في يديها جميع خيوط النشاط السري وتقوم بالضرورة على المركزية يمكن لها أن تندفع بسهولة فائقة إلى الهجوم قبل الأوان، يمكن لها أن توتر الحركة بطيش قبل أن يبلغ السخط السياسي والفوران والنقمة في الطبقة العاملة الخ.، حدا يجعل ذلك أمرا ممكنا وضروريا. ونحن نجيب على ذلك قائلين: إذا تكلمنا بصورة مجردة فلا يصح طبعا أن ننكر أنه من المحتمل أن تشن المنظمة الكفاحية دونما تبصر معركة يحتمل أن تنتهي إلى هزيمة ليست محتمة أبدا في ظروف أخرى. ولكن الاقتصار على الاعتبارات المجردة في مثل هذه المسألة أمر مستحيل، إذ أن كل معركة تنطوي من الناحية المجردة على احتمال الهزيمة، وليس هناك وسيلة لتقليل هذا الاحتمال غير الاستعداد للمعركة بصورة منظمة. أما إذا طرحنا المسألة على الصعيد الملموس، على صعيد الظروف الروسية الراهنة، فلا بد من أن نخلص إلى استنتاج إيجابي، وهو أن المنظمة الثورية القوية أمر ضروري تماما، وذلك بالضبط لإعطاء الحركة طابع الثبات ولوقايتها من احتمال الهجمات الطائشة. فاليوم على وجه الدقة، إذ تنقصنا هذه المنظمة وإذ تنمو الحركة الثورية بصورة عفوية وسريعة، نلاحظ منذ الآن قطبين متضادين (“يلتقيان” كما ينبغي لهما): فمن ناحية، “إقتصادية” واهية تماما، وتبشير بالاعتدال؛ ومن ناحية أخرى، “إرهاب تهييجي” يضاهي الأولى في الوهي، ويسعى إلى أن “يثير بصورة مصطنعة أعراض الانتهاء في حركة آخذة في النمو والتعزز ولكنها ما تزال أقرب إلى نقطة البداية منها إلى نقطة النهاية” (ف. زاسوليتش، “زاريا”، العدد 2-3، ص 353). ويتبين من مثال “رابوتشييه ديلو” أن هنالك في الواقع اشتراكيين-ديموقراطيين يلقون السلاح أمام كلا القطبين. وهذه الظاهرة لا تستدعي أي استغراب لأسباب عديدة، منها أن “النضال الإقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة” لا يمكن أبدا أن يرضي الثوري، ولأن الأقطاب المتضادة ستنبثق على الدوام تارة هنا وتارة هناك. إن منظمة كفاحية متمركزة تنتهج السياسة الاشتراكية-الديموقراطية دون عوج، وترضي، إن أمكن القول، جميع الغرائز والمطامح الثورية هي وحدها القادرة على حفظ الحركة من الهجمات الطائشة وعلى تحضير هجوم يبعث على الأمل بالنجاح. ويعترض علينا أيضا أن وجهة النظر المعروضة بصدد المنظمة تتناقض و”المبدأ الديموقراطي”. إن هذا الاتهام ذو طابع أجنبي بحت بمقدار ما يستمد الاتهام السابق جذوره من الخصائص الروسية الصرف. وما كان يمكن إلا لمنظمة تقيم في الخارج (“إتحاد الإشتراكيين-الديموقراطيين الروس”) أن توجه، من جملة ما وجهت إلى هيئة تحريرها، التعليمات التالية: “المبدأ التنظيمي. لأجل تطوير وتوحيد الاشتراكية-الديموقراطية بنجاح ينبغي التشديد على المبدأ الديموقراطي الواسع في تنظيمها الحزبي وتطوير هذا المبدأ والنضال في سبيله، وهو أمر ضروري جدا نظرا لظهور ميول معادية للديموقراطية في صفوف حزبنا” (“مؤتمران”، ص 18). كيف تناضل على وجه الدقة “رابوتشييه ديلو” ضد “الميول المعادية للديموقراطية” التي تظهرها “الإيسكرا”؟ سنبين ذلك في الفصل التالي. أما الآن فلندرس عن كثب هذا “المبدأ” الذي يعرضه “الإقتصاديون”. نحسب أن الجميع يوافقون على أن مفهوم “المبدأ الديموقراطي الواسع” ينطوي على الشرطين الضروريين التاليين: أولا، العلنية التامة، ثانيا، الإنتخاب إلى جميع الوظائف. فمن المضحك الحديث عن الديموقراطية بدون علنية تكون غير منحصرة في أعضاء المنظمة. نحن نصف الحزب الإشتراكي الألماني بأنه منظمة ديموقراطية، لأن جميع أعماله تجري علنا بما في ذلك جلسات مؤتمر الحزب؛ ولكن ليس في وسع أحد أن يصف بالديموقراطية منظمة يسترها غطاء السرية عن جميع الذين ليسوا من أعضائها. إننا نسأل: وأي معنى لوضع “المبدأ الديموقراطي الواسع” إذا كان شرطه الأساسي غير ممكن التحقيق بالنسبة لمنظمة سرية؟ هذا “المبدأ الواسع” ليس أكثر من عبارة رنانة، ولكنها فارغة. وفوق ذلك، إن هذه العبارة تدل على جهل تام بمهام الساعة في ميدان التنظيم. فالجميع يعلمون مبلغ عدم مراعاة جمهور الثوريين “الواسع” عندنا لقواعد العمل السري. وقد رأينا بأي مرارة يشكو من ذلك بـ- ف الذي يطالب بملء الحق بـ”اختيار الأعضاء اختيارا دقيقا” (“رابوتشييه ديلو”، العدد 6، ص 42). وها نحن نرى أناسا يتبجحون بـ”تحسسهم بالحياة” يؤكدون في مثل هذه الأوضاع، لا ضرورة المراعاة الدقيقة لقواعد العمل السري والاختيار الدقيق (وبالتالي، الأضيق) للأعضاء، بل “المبدأ الديموقراطي الواسع”! وهذا ما يسمى بالسخافة المطبقة! وليست الحالة أفضل فيما يتعلق بالسمة الثانية من سمتي الديموقراطية، بمبدأ الإنتخاب. إن هذا الشرط يعتبر أمرا بديهيا في بلدان الحرية السياسية. فالفقرة الأولى من النظام الداخلي للحزب الاشتراكي-الديموقراطي الألماني تنص على ما يلي: “يعتبر عضوا في الحزب كل من يعترف بمبادئ برنامج الحزب ويؤيد الحزب ويؤيد الحزب قدر الطاقة”. ولما كان الميدان السياسي كله مكشوفا أمام الجميع كالمسرح أمام النظارة، فإن الجميع يعرفون من الصحف والاجتماعات العامة ما إذا كان هذا الشخص أو ذاك يعترف أو لا يعترف، يؤيد أو يعارض. ويعلم الجميع أن هذا السياسي أو ذاك قد بدأ على هذا النحو أو ذاك، وأنه سلك هذا الاتجاه أو ذاك وأنه وقف في الساعات الحرجة هذا الموقف أو ذاك وأنه يمتاز على وجه العموم بهذه الصفات أو تلك، ولذلك يستطيع جميع أعضاء الحزب، لعلمهم بحقائق الأمور، أن ينتخبوا هذا الرجل أو أن لا ينتخبوه لهذه الوظيفة الحزبية أو تلك. إن المراقبة العامة (بمعنى الكلمة الحرفي) على كل خطوة يخطوها رجل الحزب في حياته السياسية تخلق آلية تعمل بصورة أوتوماتيكية وتضمن ما يسمونه في علم الحياة بـ”بقاء الأصلح”. وبفضل هذا “الانتخاب الطبيعي” الناشئ عن العلنية التامة، وبفضل المبدأ الانتخابي والرقابة العامة، يصبح كل عضو من الأعضاء في نهاية الأمر “في المكان الذي خلق له” ويقوم بالعمل الذي يتناسب أحسن التناسب مع قواه وكفاءاته ويتحمل بنفسه جميع تبعات أخطائه ويظهر أمام الجميع قدرته على فهم أخطائه وتجنبها. جربوا إذن إدخال هذه اللوحة في إطار الحكم المطلق السائد في بلادنا! هل من المعقول في ظروفنا أن يقوم جميع “الذين يعترفون بمبادئ برنامج الحزب ويؤيدون الحزب قدر الطاقة” بمراقبة كل خطوة يخطوها الثوري السري؟ هل من المعقول أن يختار جميع هؤلاء أحدا من بين الثوريين السريين، إذا كانت مصلحة العمل تلزم الثوري بأن يخفي هويته عن تسعة أعشار هؤلاء “الجميع”؟ اعملوا الفكر ولو بعض الشيء في حقيقة معنى الكلمات الطنانة التي ألقتها “رابوتشييه ديلو”، يتضح لكم أن “الديموقراطية الواسعة” في منظمة حزبية تعيش في دياجير الحكم المطلق وفي ظل سيطرة نظام الاختيار الذي يمارسه الدرك ليست غير لغو فارغ وضار. إنها لغو فارغ، لأن الديموقراطية الواسعة لم تمارس قط ولا يمكن أن تمارس من قبل أية منظمة ثورية، مهما بلغت رغبة هذه المنظمة في ذلك. وهي لغو ضار، لأن محاولة تطبيق “المبدأ الديموقراطي الواسع” لن تكون نتيجتها غير مساعدة الشرطة في تنظيم الإعتقالات الواسعة وغير تخليد الطريقة الحرفية المسيطرة وتحويل أنظار القائمين بالنشاط العملي عن المهمة الخطيرة التي تواجههم بإلحاح، مهمة تنمية صفات الثوري المحترف في أنفسهم، إلى تدبيج أنظمة مفصلة “على الورق” عن الطرق الانتخابية. إن هذا “اللعب بالديموقراطية” لم يكن من الممكن أن يتطور هنا وهناك وخصوصا لدى الفرق الصغيرة، إلا في الخارج حيث لا يندر أن يجتمع أناس ممن لا يجدون إمكانية القيام بعمل حقيقي وحي. ولكيما يتبين للقارئ مبلغ البشاعة في الوسيلة المفضلة التي تعمد إليها “رابوتشييه ديلو” إذ تنادي بـ”مبدأ” جميل المظهر كمبدأ الديموقراطية في العمل الثوري، نلجأ مرة أخرى إلى شهادة شاهد. وهذا الشاهد هو ي. سيريبرياكوف، المحرر في المجلة اللندنية “ناكانونيه”، وهو من المغرمين بـ”رابوتشييه ديلو” والحاقدين على بليخانوف و”البليخانوفيين”؛ فمجلة “ناكانونيه” في المقالات التي تناولت فيها انقسام “إتحاد الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس” في الخارج، قد وقفت بحزم إلى جانب “رابوتشييه ديلو” وصبت على بليخانوف وابلا من الكلمات الحقيرة. وهذا يجعل لهذه الشهادة في هذه المسألة قيمة أكبر في نظرنا. ففي مقال نشرته “ناكانونيه” في العدد 7 (تموز – يوليو – سنة 1899) عنوانه: “بصدد نداء جماعة تحرير العمال الذاتي” قال ي. سيريبرياكوف أن من “غير اللائق” إثارة مسائل “الغرور والرئاسة وما يسمى بمجمع الحكماء الأعلى في حركة ثورية جدية” وكتب فيما كتب: “إن ميشكين وروغاتشوف وجيليابوف وميخايلوف وبيروفسكايا وفيغنر وغيرهم لم يعتبروا أنفسهم من الزعماء قط، ولم ينتخبهم أو يعينهم أحد، ومع ذلك كانوا زعماء في الحقيقة، لأنهم في مرحلة الدعاية كما في مرحلة النضال ضد الحكومة قد حملوا على عاتقهم العبء الأكبر من أعباء العمل وتوجهوا إلى أشد الأماكن خطرا، ولآن نشاطهم قد أعطىأحسن الثمرات. فزعامتهملم تكن نتيجة رغبتهم،بل كانت نتيجة الثقة بعقولهم وهمتهم وإخلاصهم، الثقة التي أولاهم إياها الرفاق المحيطون بهم. وعلى ذلك فالخوف إذن من مجمع حكماء (لو لم يكن الخوف موجودا فما الداعي للكتابة عنه) ينفرد في إدارة الحركة هو السذاجة عينها. فمن ذا الذي يطيعه؟” ونحن نسأل القارئ: ما الفرق بين “مجمع الحكماء” و”الميول المعادية للديموقراطية”؟ أفليس من الواضح أن مبدأ “رابوتشييه ديلو” التنظيمي “الجميل المظهر” هو أيضا ساذج وغير لائق، ساذج لأنه لن يوجد أحد يطيع “مجمع الحكماء” أو الناس ذوي “الميول المعادية للديموقراطية” إذا لم توجد “الثقة بعقولهم وهمتهم وإخلاصهم من جانب الرفاق المحيطين بهم”. وهو غير لائق، لأنه نزوة ديماغوجية تستغل غرور البعض وجهل البعض الثاني لحقيقة وضع حركتنا وعدم استعداد البعض الثالث أيضا وجهله لتاريخ الحركة الثورية. إن المبدأ التنظيمي الجدي الوحيد ينبغي أن يكون بالنسبة للعاملين في حركتنا: المراعاة الدقيقة لقواعد العمل السري والاختيار الدقيق للأعضاء وإعداد الثوريين المحترفين. فإذا ما وجدت هذه الصفات حصلنا على شيء أكثر من “الديموقراطية”، حصلنا بالضبط على الثقة الرفاقية التامة بين الثوريين. وهذا الشيء الأكثر هو أمر لا نستطيع أبدا الاستغناء عنه، لأن الاستعاضة عنه بالرقابة الديموقراطية العامة أمر لا يمكن أن يطرح على بساط البحث عندنا في روسيا بأي وجه من الوجوه. ونخطئ أكبر الخطأ إذا تصورنا أن استحالة تطبيق رقابة “ديموقراطية” حقا تجعل أعضاء المنظمة الثورية غير خاضعين للرقابة؛ فليس لديهم من الوقت ما يسمح لهم بالتفكير في الأشكال الديموقراطية الصبيانية (ديموقراطية داخل نواة متراصة من رفاق يثق أحدهم بالآخر كل الثقة)، ولكنهم يشعرون بمسؤوليتهم أعمق الشعور ويعلمون في الوقت نفسه من تجربتهم أن منظمة الثوريين الحقيقيين لا تحجم عن وسيلة للخلاص من عضو فاسد. ولدينا فوق ذلك في الوسط الثوري الروسي (والعالمي) رأي عام متطور بشكل كاف ومتأصل الجذور في أعماق الماضي يعاقب أشد العقاب على كل خروج عن واجبات الرفاقية (و”الديموقراطية”، الديموقراطية الحقيقية لا الصبيانية، تدخل كجزء من كل في مفهوم الرفاقية!). خذوا كل ذلك بعين الاعتبار، تدركوا مبلغ ما يفوح من هذه الخطابات والقرارات بصدد “الميول المعادية للديموقراطية” من نتن اللعب في الخارج بلعبة الجنرالات! وخليق بنا أن نشير إلى أن السذاجة – وهي الينبوع الآخر لهذه الخطابات – تتغذى من عدم وجود فكرة واضحة عن الديموقراطية أيضا. فكتاب الزوجين ويب عن التريديونيونات الإنكليزية يتضمن فصلا طريفا يسترعي الانتباه: “الديموقراطية البدائية”. يقول المؤلفان في هذا الفصل أن العمال الإنكليز، في المرحلة الأولى لوجود نقاباتهم كانوا يعتبرون أن اشتراك جميع الأعضاء في جميع أعمال إدارة النقابات سمة ضرورية من سمات الديموقراطية. فقد كانت جميع القضايا تقرر بتصويت عام يشترك فيه جميع الأعضاء؛ وفضلا عن ذلك كانت الوظائف نفسها تمارس من قبل جميع الأعضاء بالتناوب. وقد تطلب الأمر تجربة تاريخية طويلة لكيما يدرك العمال خراقة هذا المفهوم عن الديموقراطية وضرورة المؤسسات التمثيلية من جهة ووجود موظفين محترفين من الجهة الأخرى. وقد تطلب الأمر إفلاس صناديق النقابات عدة مرات لكيما يفهم العمال أن مسألة النسبة بين ما يدفعونه من اشتراكات وبين ما يتلقونه من مساعدات لا يمكن أن تحل بالتصويت الديموقراطي وحده، وأنها تتطلب كذلك رأي اختصاصي في شؤون الضمان. خذوا بعد ذلك كتاب كاوتسكي عن البرلمانية والتشريع الشعبي، تروا أن استنتاجات النظري الماركسي تطابق الدرس الذي تعلمه، من التجربة الطويلة، العمال الذين اتحدوا بصورة “عفوية”. فكاوتسكي يقف بحزم ضد فهم ريتينغهاوزن البدائي للديموقراطية ويسخر من أناس يطلبون باسم هذه الديموقراطية أن “يحرر الشعب مباشرة الجرائد الشعبية” ويبرهن ضرورة الصحفيين والبرلمانيين المحترفين، الخ.، لقيادة نضال البروليتاريا الطبقي قيادة اشتراكية-ديموقراطية، ويهاجم “اشتراكية الفوضويين والأدباء” الذين ينادون، “سعيا وراء لفت النظر”، بالتشريع الشعبي المباشر ولا يفهمون أن إمكانية تطبيقه في المجتمع الراهن نسبية جدا. إن الذين ساهموا في النضال العملي في حركتنا يعرفون مبلغ انتشار مفهوم الديموقراطية “البدائي” بين جماهير الطلاب والعمال. فلا غرو أن يتسرب هذا المفهوم إلى الأنظمة الداخلية وإلى المطبوعات. “فالاقتصاديون” ذوو الميول البرنشتينية قد كتبوا في نظامهم الداخلي: “الفقرة 10. جميع القضايا التي تخص المنظمة بمجموعها تقرر بأكثرية أصوات جميع أعضائها”. ويردد بعدهم “الاقتصاديون” ذوو المفاهيم الإرهابية: “من الضروري أن تمر قرارات اللجان بجميع الحلقات وحين ذاك فقط تصبح شرعية” (“سفوبودا”، العدد 1، ص 67). لاحظوا أن طلب التطبيق الواسع للاستفتاء يقدم إضافة إلى المطالبة ببناء المنظمة كلها على المبدأ الانتخابي! لا يخطر لنا ببال طبعا أن نلوم على ذلك المشتغلين في الحقل العملي الذين لم تتح لهم فرص كثيرة للإطلاع على نظرية وعمل المنظمات الديموقراطية الحقيقية. ولكن عندما نرى “رابوتشييه ديلو” التي تدّعي بدور القيادة، تكتفي في مثل هذه الظروف بقرار عن المبدأ الديموقراطي الواسع، هل نملك أنفسنا عن وصف ذلك بأنه مجرد “سعي وراء لفت النظر”؟

و) العمل في النطاق المحلي والروسي العام

إذا كانت الاعتراضات الموجهة إلى المشروع التنظيمي المعروض هنا والتي تدعي بأنه غير ديموقراطي وذو طابع تآمري، لا تقوم على أساس، فهنالك مسألة أخرى كثيرا ما تثار ويجدر بنا أن نتناولها بالتفصيل. وهي مسألة التناسب بين العمل في النطاق المحلي والعمل في النطاق الروسي العام. يتساءلون بقلق: ألا يؤدي تشكيل منظمة متمركزة إلى انتقال مركز الثقل من الأول إلى الثاني؟ ألا يضر ذلك بالحركة إذ يضعف متانة صلاتنا بجمهور العمال ويضعضع استقرار التحريض المحلي بوجه عام؟ ونحن نجيب على ذلك بقولنا: إن حركتنا في السنوات الأخيرة تشكو على وجه الدقة من كون العاملين في النطاق المحلي يفرطون في الانهماك بالعمل المحلي، وإن من الضروري نظرا لذلك نقل مركز الثقل بعض الشيء إلى العمل في النطاق الروسي العام، وإن هذا النقل لا يضعف، بل يعزز متانة صلاتنا واستقرار تحريضنا المحلي. فلنأخذ مسألة الجريدة المركزية والجرائد المحلية، ونطلب إلى القارئ أن لا ينسى أن مسألة الجرائد ليست في نظرنا أكثر من مثل يعطي صورة عن العمل الثوري الواسع جدا والمتنوع جدا بوجه عام. عندما كانت الحركة الجماهيرية في عهدها الأول (سنوات 1896-1898) قام العاملون في النطاق المحلي بمحاولة لإصدار جريدة لعامة روسيا – “رابوتشايا غازيتا”؛ وفي المرحلة الثانية (سنوات 1898-1900) خطت الحركة خطوة كبرى إلى الأمام، ولكن الجرائد المحلية استنفدت انتباه القادة الكامل. وإذا أحصينا جميع هذه الجرائد المحلية يكون الحاصل بالإجمال إصدار عدد واحد في كل شهر. أليس هذا صورة واضحة عن طريقتنا الحرفية؟ ألا يظهر ذلك بكل وضوح تأخر منظمتنا الثورية عن نهوض الحركة العفوي؟ وإذا ما صدر العدد نفسه من الجرائد لا عن جماعات محلية مبعثرة، بل عن منظمة واحدة، فإننا لا نوفر الكثير من الجهود وحسب، بل نضمن أيضا لعملنا وضعا من الثبات والإستمرارية أفضل جدا. وهذا الأمر البسيط كثيرا جدا ما يغيب سواء عن نظر العاملين الذين يبذلون جهودهم بنشاط على الجرائد المحلية وحدها تقريبا (وبكل أسف لا يزال الوضع كما هو حتى اليوم في معظم الحالات) أم عن نظر الكتاب الصحفيين الذين يظهرون في هذا الأمر “دونكيشوتية” مدهشة. إن المساهم في الميدان العملي يكتفي عادة بالفكرة القائلة بأن إصدار جريدة لعامة روسيا “أمر صعب”•على العاملين المحليين وبأن إصدار الجرائد المحلية خير من عدم إصدار أية جريدة. والملاحظة الأخيرة صحيحة طبعا. ولا يوجد أي مساهم في الميدان العملي يمكن أن يسبقنا إلى الاعتراف بأن الجرائد المحلية هي، بوجه عام، ذات أهمية قصوى وفائدة قصوى. ولكن الحديث لا يتناول هذه الناحية، بل ناحية أخرى هي: ألا نستطيع الخلاص من هذا التبعثر وهذا العمل الحرفي اللذين تجليا أوضح ما تجليا في ثلاثين عددا من الجرائد المحلية صدرت في جميع أنحاء روسيا في غضون سنتين ونصف. لا ينبغي لكم أن تكتفوا بالاعتراف بفائدة الجرائد المحلية بوجه عام، وهو أمر لا جدال فيه، ولكنه عام جدا، بل ينبغي لكم أن تجدوا كذلك في أنفسكم الشجاعة على الاعتراف صراحة بما أظهرته تجربة السنتين والنصف من نواحيها السلبية. فقد أظهرت هذه التجربة أن الجرائد المحلية في ظروفنا الراهنة تكشف في أكثر الحالات عن عدم استقرار مبدئي، وأنها غير ذات أهمية من وجهة النظر السياسية وأن تكاليفها كبيرة جدا من وجهة نظر إنفاق القوى الثورية وأنها غير مرضية قطعا من وجهة النظر التكنيكية (لا أقصد طبعا تكنيك الطبع، بل أقصد تواتر وانتظام صدورها). وجميع هذه النواقص المذكورة ليست عرضية، بل هي نتيجة محتومة لذلك التبعثر الذي يفسر، من جهة، تفوق الجرائد المحلية في المرحلة التي نبحثها، ويثبت أقدامه من جهة أخرى من جراء هذا التفوق. وفي الحقيقة ليس بمستطاع أية منظمة محلية أن تضمن لجريدتها الثبات المبدئي وأن ترفعها إلى مستوى الجريدة السياسية، ليس بمستطاع أية منظمة محلية أن تجمع المواد الكافية وأن تستفيد منها لإلقاء الضوء على حياتنا السياسية كلها. أما تلك الحجة التي يدعمون بها في المعتاد ضرورة الإكثار من الجرائد المحلية في البلدان الحرة – حجة قلة التكاليف بسبب أن عمال المنطقة هم الذين يطبعونها، وتقديمها للسكان المحليين أنباء أوفى وبسرعة أكبر، هذه الحجة تنقلب عندنا، كما تدل التجربة، ضد الجرائد المحلية. فهي غالية جدا من حيث إنفاق القوى الثورية، وهي تصدر بين فترات متباعدة جدا، ومنشأ ذلك أنه لا بد للجريدة السرية، مهما كانت صغيرة، من جهاز سري كبير يتطلب صناعة المعامل الضخمة، لأنه لا يمكن إنشاء هذا الجهاز في ورشة حرفية. فالطابع البدائي في الجهاز السري يؤدي إلى أن الشرطة (وكل من مارس النشاط العملي يعرف العديد من مثل هذه الأمثلة) كثيرا جدا ما تستغل صدور وتوزيع عدد أو عددين للقيام باعتقالات واسعة لا تبقي ولا تذر، فيتأتى البدء من جديد. إن الجهاز السري الجيد يتطلب من الثوريين إعدادا مهنيا طيبا ويتطلب تقسيما للعمل ينفذ بمنتهى الدقة، وليس في طاقة أية منظمة محلية مهما كانت قوية في هذا الظرف أن تضمن تحقيق هذين الشرطين. وحتى إذا ضربنا صفحا عن مصالح حركتنا بمجموعها (تربية العمال تربية اشتراكية وسياسية ومبدئية) نرى الجرائد غير المحلية تخدم المصالح المحلية الصرف أيضا بصورة أفضل؛ ولا يبدو ذلك مستغربا إلا لأول وهلة، فتجربة السنتين والنصف التي تحدثنا عنها تعطي في الحقيقة على ذلك البرهان القاطع. واضح للجميع أن جميع هذه القوى المحلية التي أصدرت ثلاثين عددا من الجرائد كان يمكنها فيما لو عملت في جريدة واحدة أن تصدر ستين عددا إذا لم نقل مئة، وكان يمكنها تبعا لذلك أن تفصح بصورة أوفى عن جميع خصائص الحركة ذات الطابع المحلي الصرف. وما من شك في أن بلوغ هذه الدرجة من التنظيم أمر ليس بالسهل؛ ولكن ينبغي لنا أن ندرك ضرورتها، وينبغي لكل حلقة محلية أن تفكر فيها وتعمل على تحقيقها بنشاط دون أن تنتظر دافعا من الخارج، دون أن تستسلم لإغراء سهولة الجريدة المحلية وكونها قريبة المنال، هذا القرب الذي يظهر، كما تبرهن تجربتنا الثورية، وهميا لحد كبير. ويقدم للنشاط العملي خدمة رديئة أولئك الصحفيون الذين يعتبرون أنفسهم قريبين جدا من المشتغلين في الحقل العملي والذين لا يرون ما في هذا الأمر من الوهم والذين يتنصلون باعتبارات رخيصة جدا وفارغة جدا: نحن بحاجة إلى جرائد محلية، نحن بحاجة إلى جرائد منطقية، نحن بحاجة إلى جرائد لعامة روسيا. واضح أن كل هذا ضروري بوجه عام، ولكن من الضروري أيضا التفكير في ظروف الزمان والمكان، ما دمنا نواجه مسألة تنظيمية ملموسة. أفليس من الدونكيشوتية حقا أن يقول المرء كما فعلت “سفوبودا” (العدد 1، ص68) عندما “تناولت مسألة الجريدة” بوجه خاص: باعتقادنا أنه ينبغي لكل محلة تضم عددا كبيرا من العمال لحد ما أن تنشئ جريدتها العمالية الخاصة، جريدة لا تستوردها من مكان ما، بل خاصة بها بالضبط”. وإذا كان هذا الكاتب لا يريد أن يفكر بمعنى كلماته، ففكر عنه على الأقل أنت، أيها القارئ: كم في روسيا من عشرات إن لم نقل من مئات “المحلات التي تضم عددا كبيرا من العمال لحد ما”، وكم يخلد عملنا الحرفي إذا ما أخذت كل منظمة محلية تصدر في الواقع جريدتها الخاصة! وكم يسهل ذلك على الدرك عندنا صيد العاملين المحليين ودون جهد “كبير لحد ما” – في بدء عملهم وقبل أن يتسنى لهم أن يربوا في أنفسهم صفات الثوريين الحقيقيين! يستطرد الكاتب ويقول: في جريدة لعامة روسيا لا يتشوق القراء إلى قراءة وصف ألاعيب أصحاب المعامل و”توافه حياة المعامل في مدن أخرى ليست بمدنهم” في حين أن “ساكن اوريول لا يمل قراءة أنباء ما يجري في اوريول. ففي كل مرة يعلم من “قرّعوه” ومن “أنّبوه” فيشتغل ذهنه”(ص 69). أجل، أجل، إن ذهن ساكن اوريول يشتغل، ولكن أفكار كاتبنا “تشتغل” جدا هي الأخرى. أمن اللائق الدفاع عن هذه التفاهة؟ يحسن كاتبنا صنعا لو فكر في ذلك. نحن نعترف بضرورة وأهمية التشهير بما يجري في داخل المعامل من مساوئ خيرا مما يعترف بذلك أي شخص آخر، ولكن ينبغي لنا أن نتذكر أننا بلغنا حدا سئم معه ساكن بطرسبورغ قراءة رسائل بطرسبورغ في جريدة “رابوتشايا ميسل” الصادرة في بطرسبورغ. إننا، للتشهير بالمساوئ في حياة المعامل، كنا نلجأ على الدوام وينبغي أن نلجأ على الدوام إلى المناشير. أما نوع الجريدة فينبغي لنا أن نرفع مستواه، لا أن نهبط به إلى مستوى منشور عن حياة معمل. إننا لسنا بحاجة، من أجل “الجريدة”، إلى التشهير بـ”التوافه” بقدر ما نحن بحاجة إلى التشهير بالنواقص الكبيرة، النموذجية في حياة المعامل، إلى تشهير يستند إلى أمثلة بارزة جدا ويستطيع لهذا السبب أن يسترعي اهتمام جميع العمال، وجميع قادة الحركة، ويستطيع أن يزيد معلوماتهم فعلا، وأن يوسع أُفقهم، وأن يوقظ منطقة جديدة، وفئة مهنية جديدة من العمال. “وبعد، ففي الجريدة المحلية يمكن تلقف جميع ألاعيب إدارة المعمل أو السلطات الأخرى على الفور، قبل أن يبرد أثرها. أما الجريدة العامة فهي بعيدة، يمر دهر قبل أن يبلغها الخبر، وقبل أن تصل يكون الحادث قد نسي وتساءل القراء: “متى حدث ذلك، يا ترى؟ ليذكرنا الله!”” (نفس المصدر). أجل، ليذكرنا الله! فالأعداد الثلاثون التي صدرت خلال سنتين ونصف قد صدرت في ست مدن كما ينبئنا بذلك المصدر ذاته. ومعنى ذلك أن كل مدينة قد أصدرت في المتوسط عددا واحدا في كل ستة أشهر! وإذا افترضنا أن كاتبنا الطائش يضاعف مردود العمل المحلي إلى ثلاثة أضعاف (وهو ما يكون خطأ أكيدا بالنسبة لمدينة متوسطة، لأن زيادة المردود زيادة محسوسة في إطار العمل الحرفي أمر مستحيل)، فالحاصل لن يكون أكثر من عدد واحد في كل شهرين، أي شيئا لا يشبه بوجه من الوجوه “التلقف قبل أن يبرد الأثر”. هذا بينما يكفي أن تتحد عشر منظمات محلية وأن توفد مندوبيها للعمل النشيط على تنظيم جريدة عامة، حتى يصبح بإمكاننا أن “نتلقف” في روسيا من أقصاها إلى أقصاها لا التوافه، بل المساوئ الفاضحة حقا والنموذجية في كل أسبوعين مرة. وكل من يعلم حقيقة الوضع في منظماتنا لا يشك في ذلك. أما القبض على العدو متلبسا بالجريمة، إذا فهمنا هذا التعبير فهما جديا ولم ننظر إليه من حيث أنه صيغة جميلة وحسب، فهو أمر لا يسع الجريدة السرية حتى أن تفكر به، إذ لا يمكن القيام بذلك إلا بوسيلة المنشور المدسوس خلسة، لأننا في معظم الحالات لا نجد تحت تصرفنا لمثل هذا القبض غير يوم أو يومين على الأكثر (مثلا في حالات إضراب معتاد قصير، أو تنكيل في معمل، أو مظاهرة، الخ.). ويستطرد كاتبنا منتقلا من الخاص إلى العام بمنطق صارم يشرِّف بوريس كريتشيفسكي نفسه: “لا يعيش العامل في المعمل وحسب، ولكنه يعيش في المدينة أيضا”. ثم يشير إلى قضايا مجالس الدوما والمستشفيات والمدارس في المدن مطالبا بأن لا تغفل الجريدة العمالية قضايا المدن بوجه عام. وهذا مطلب طيب بحد ذاته، ولكنه يظهر بكل جلاء مبلغ التجريد الفارغ الذي كثيرا جدا ما يكتفون به عندما يتناولون الجرائد المحلية بالبحث. فأولا، إذا ما ظهرت الجرائد فعلا “في كل محلة تضم عددا كبيرا من العمال لحد ما”، وإذا ما حوت هذه الجرائد بابا عن حياة المدينة مفصلا كما تريد “سفوبودا”، فإن ذلك سيفضي حتما في ظروفنا الروسية إلى تفاهات حقيقية، إلى إضعاف إدراكنا لأهمية الهجوم الثوري الروسي العام على الحكم المطلق القيصري، إلى تقوية نبتات الاتجاه الشديدة الحيوية – تلك التي لم تجتث جذورها وإنما هي في أكبر الظن مستترة أو مكبوتة- هذا الاتجاه الذي اشتهر بالعبارة المشهورة عن الثوريين الذين يتكلمون كثيرا جدا عن البرلمان غير الموجود وقليلا جدا عن مجالس الدوما الموجودة في المدن (94). قلنا: حتما، لأننا أردنا أن نشدد بذلك على أن “سفوبودا” لا تريد هذا الأمر بالتأكيد، بل تريد العكس. ولكن النوايا الطيبة وحدها لا تكفي. فلكيما نشرح شؤون المدن من زاوية تتناسب مع عملنا بأكمله، ينبغي في البدء أن توضع هذه الزاوية بصورة تامة، وأن تحدد بصورة ثابتة لا بمجرد المحاكمات العقلية، بل بمجموعة من الأمثلة أيضا؛ ينبغي أن تكتسب متانة التقاليد. وما زلنا بعيدين جدا عن ذلك، في حين ينبغي البدء به، قبل أن يصبح في الإمكان الشروع بالتفكير أو بالكلام عن الصحافة المحلية الواسعة وثانيا، لكيما يحسن المرء حقا الكتابة عن شؤون المدن بصورة تسترعي الاهتمام، ينبغي له أن يعرف هذه الشؤون معرفة جيدة، لا عن طريق الكتب وحدها. وليس في روسيا كلها تقريبا، اشتراكيون-ديموقراطيون يعرفون هذه الأمور. فللكتابة عن شؤون المدن والدولة في الجريدة (لا في كراس شعبي) يتطلب الأمر معلومات جديدة، متنوعة، يجمعها ويدرسها شخص خبير. ولجمع ودراسة هذه المعلومات لا تكفي “الديموقراطية البدائية” في حلقة بدائية يقوم فيها الجميع بكل شيء ويتسلون فيها بلعبة الاستفتاءات. إن هذا يتطلب هيئة أركان من كتاب اختصاصيين، مراسلين اختصاصيين، جيشا من مراسلين اشتراكيين-ديموقراطيين يعقدون الصلات في كل ناحية ويحسنون التسلل إلى جميع “أسرار الدولة” على اختلافها (التي طالما يتباهى بها الموظف الروسي والتي يفشيها بفائق السهولة) والتغلغل في جميع “الكواليس”، جيشا من أناس تلزمهم “وظائفهم” بأن يكونوا في كل مكان ويعرفوا كل شيء. ونحن، حزب النضال ضد كل ظلم، اقتصادي وسياسي واجتماعي وقومي، يمكننا ويجب علينا أن نجد ونجمع ونعلم ونعبئ وندفع للقتال مثل هذا الجيش من الناس الذين يعلمون كل شيء. ولكن ينبغي لنا أن نقوم بذلك! هذا ولا يقتصر الأمر على أننا لم نخط أي خطوة في هذا الإتجاه في الأكثرية الساحقة من المناطق، ولكننا أيضا لا ندرك في معظم الأحيان ضرورة ذلك. فتشوا في صحافتنا الاشتراكية-الديموقراطية عن مقالات ورسائل حية، شيقة، رسائل تشهر بالخطير والتافه من أمورنا الديبلوماسية والعسكرية والدينية والبلدية والمالية الخ.، الخ.. لن تجدوا من ذلك غير النزر اليسير، أو لن تجدوا تقريبا أي شيء على الإطلاق.. ولذلك “أغتاظ جدا على الدوام عندما يأتيني شخص ويتحفني بما عنده من أشياء جميلة رائعة” عن ضرورة وجود جريدة “في كل محلة تضم عددا كبيرا من العمال لحد ما” تشهر بالمساوئ في حياة المعامل وحياة المدن وحياة الدولة‍! إن تفوق الجرائد المحلية على الجريدة المركزية إما أن يكون دليل الفقر أو دليل البذخ. فهو دليل الفقر، إذا كانت الحركة لم تعد بعد القوى اللازمة للإنتاج الضخم، وإذا كانت ما تزال تتسكع في الحرفية، وإذا كانت غارقة تقريبا في “توافه حياة المعامل”. وهو دليل البذخ، إذا كانت الحركة قد حققت بصورة تامة مهمة التشهير الشامل والتحريض الشامل، بشكل تنشأ معه ضرورة وجود عدد كبير من الجرائد المحلية إلى جانب الجريدة المركزية. فليقرر إذن كل بنفسه على أي شيء يدل تفوق الجرائد المحلية عندنا الآن. أما أنا فسأقتصر على تحري الدقة في صياغة استنتاجي، دفعا لسوء الفهم. حتى الآن تقصر معظم المنظمات المحلية عندنا تفكيرها كله تقريبا على الجرائد المحلية وحدها وتقصر نشاطها كله تقريبا على هذه الجرائد. هذا أمر غير طبيعي. ويجب أن يكون العكس: ينبغي أن يتجه تفكير معظم المنظمات المحلية أول ما يتجه إلى الجريدة الروسية العامة وأن توجه نشاطها إليها قبل غيرها. وما لم يحدث ذلك، سنظل عاجزين عن تنظيم أية جريدة تستطيع، ولو لحد ما، أن تخدم الحركة حقا بتحريض شامل في الصحف. وعندما يحدث ذلك نرى العلاقة الطبيعية بين الجريدة المركزية الضرورية والجرائد المحلية الضرورية تقوم من تلقاء نفسها.

******************

قد يبدو لأول وهلة أن الإستنتاج بصدد ضرورة نقل مركز الثقل من العمل المحلي إلى العمل في النطاق الروسي العام غير قابل للتطبيق فيما يتعلق بميدان النضال الاقتصادي المحض، لأن أعداء العمال المباشرين في هذه الحالة هم أصحاب الأعمال منفردين أو جماعات منهم غير مرتبطين بمنظمة تشبه ولو أقل الشبه منظمة عسكرية صرفا، متمركزة جدا، توجهها حتى في أصغر الأمور إرادة موحدة، كمنظمة الحكومة الروسية، عدونا المباشر في النضال السياسي. ولكن الأمر ليس كذلك. فالنضال الاقتصادي – وقد أشرنا إلى ذلك مرارا- هو نضال مهني، وهو لذلك يتطلب اتحاد العمال حسب المهن، لا تبعا لأماكن عملهم وحسب. وهذا الإتحاد حسب المهن يصبح أمرا لا مناص منه بمقدار ما يسرع أصحاب الأعمال عندنا إلى الإتحاد في مختلف أنواع الجمعيات والنقابات. وما تبعثرنا وطريقة عملنا الحرفي إلا عائق مباشر في طريق هذا الإتحاد الذي يتطلب منظمة ثوريين واحدة لعامة روسيا، قادرة على قيادة نقابات العمال في النطاق الروسي العام. لقد تكلمنا عن طراز التنظيم المرغوب فيه لهذا الغرض. ونكتفي الآن بإضافة بضع كلمات فيما يتعلق بمسألة صحافتنا. لا يشك أحد على ما نحسب بوجوب وجود باب للنضال المهني (الإقتصادي) في كل جريدة اشتراكية-ديموقراطية. ولكن نمو الحركة المهنية يحمل على التفكير بالصحافة المهنية أيضا. ويخيل إلينا مع ذلك أن مسألة الصحافة المهنية لا يمكن حتى أن تطرح الآن في روسيا إلا في حالات نادرة جدا: فهي دليل البذخ، في حين لا نجد في معظم الحالات خبزنا كفاية يومنا. فشكل الصحافة المهنية المناسب لظروف العمل السري والضروري اليوم ينبغي أن يكون عندنا الكراريس المهنية. ينبغي أن تجمع فيها وتصنف بصورة منتظمة المواد العلنية وغير العلنية عن ظروف العمل في مهنة بعينها، وعن اختلاف هذه الظروف في شتى مناطق روسيا، وعن المطالب الرئيسية لعمال مهنة من المهن، وعن نواقص القوانين التي تتعلق بهذه المهنة، وعن حالات نضال العمال الإقتصادي الهامة التي تحدث في هذه المهنة أو تلك وعن الأمور الجنينية ووضع منظمتهم المهنية الراهن، وحاجات هذه المنظمة، الخ.. أولا، إن هذه الكراريس تحرر صحافتنا الاشتراكية-الديموقراطية من كثرة من التفاصيل المهنية التي لا تهم غير عمال مهنة بعينها. وثانيا، تسجل هذه الكراريس نتائج خبرتنا في النضال المهني وتحفظ المواد المجموعة التي تضيع اليوم بالمعنى الحرفي للكلمة في العدد الكبير من المناشير ومن الرسائل غير المنتظمة، وتلخص هذه المواد. وثالثا، يمكن أن تكون نوعا من موجه للمحرضين، لأن ظروف العمل تتغير بصورة بطيئة نسبيا ولأن المطالب الأساسية لعمال مهنة معينة، ثابتة جدا (قارن مطالب عمال النسيج في منطقة موسكو في سنة 1885(97) وفي منطقة بطرسبورغ في سنة 1896). ومجموعة هذه المطالب والحاجات يمكن أن تكون، طيلة سنوات، دليلا رائعا للتحريض الاقتصادي في المناطق المتأخرة أو بين الفئات المتأخرة من العمال. إن أمثلة الإضرابات الناجحة في منطقة من المناطق والمعلومات عن وجود مستوى معيشة أعلى وظروف عمل أحسن في منطقة من المناطق تشجع العمال في المناطق الأخرى على مواصلة النضال. رابعا، إن الاشتراكية-الديموقراطية، إذ تبادر إلى تلخيص النضال المهني وتوثق بهذا الشكل الصلة بين الحركة المهنية الروسية وبين الاشتراكية، تعمل في الوقت نفسه على أن يشغل عملنا التريديونيوني حيزا غير صغير جدا وغير كبير جدا من مجمل عملنا الاشتراكي-الديموقراطي. والمحافظة على النسبة الصحيحة في ذلك أمر صعب يكاد يكون مستحيلا في بعض الأحيان إذا كانت المنظمة المحلية منقطعة عن المنظمات في المدن الأخرى (ومثال “رابوتشايا ميسل” يُظهر إلى أي درك فظيع من الإفراط في المسير في اتجاه التريديونيونية يمكن أن يؤدي ذلك). ولكن منظمة من الثوريين لعامة روسيا لا تحيد أبدا عن وجهة نظر الماركسية الثابتة وتقود النضال السياسي بأكمله ولها هيئة أركان من المحرضين المحترفين، لن تجد أية صعوبة في تحديد هذه النسبة الصحيحة.