شذا المداد: عندما يعيش نشطاء المدنية السوريين في محرقة … قانون من العصر الحجري، وعلاقة مع السلطة قوامها الريبة!
البحث كما وردنا على اميل المنظمة وبعد تعقبنا للمصدر وجدنا نسخة عنه منشور على حلقات في موقع” كلنا شركاء” نعاود نشره نظرا لتطرقه لإشكاليات تعتبر في غاية من الحساسية آملين مناقشته من قبل منظمات ونشطاء المجتمع المدني . مع أخذ العلم اننا لم نخضعه لأي تحرير وقد أبرزنا عناوين فرعيه له . نشطاء الرأي
- تهماً جاءت على لسان وزير الإعلام الأسبق عدنان عمران التي طالت ناشطون في لجان إحياء المجتمع المدني بوصفهم:( هؤلاء مرتبطون وموّجهون من السفارات الأجنبية)
- نظمت لجنة دعم قضايا المرأة بحثاً لسبر واقع المرأة المطلقة في سوريا(قانونياً ـ اجتماعياً ـ إنسانياً) لم يجرؤ أصحابه على نشر نتائجه ومناقشتها لأنه لا يمكن أن تتصف بالدقة ـ على حد قولهم ـ
- هذا حال المنظمات غير الحكومية في سوريا كلما تنجو من عقبة تواجهها أخرى أكثر قسوة، فلو هي رخصّت وقوننت نشاطها، نجدها تغرق في صراعات وخلافات بين أعضاءها أو تواجه مشكلات مع السلطات الحاكمة
- للسلطة حسابات خاصة فهي تتحكم من خلال المال بمسار عمل الجمعيات المدنية، هذا مشروع السلطة، كما يصفه مسؤول في منظمة حقوقية، ويبقى للمنظمة حقّ تقرير مصيرها،إما الدعم مع الرضوخ لسياسات الحكومة
- “يمكن التعاطف مع دعاة المجتمع المدني بنقطة وحيدة تتعلق بغياب التمويل، والاتفاق مع أي منهم حيال عدم وجود جهة تموّل عملهم ونشاطهم، وربما بعد قليل سأوافق على مضض أنّ قلة الإمكانات ونقص التمويل عقبة كبيرة تجثم فوق صدر المنظمات وتحول دون نشاط حقيقي وفّعال، ويذهب د. عمار إلى وصف العمل الحالي بالتافه والهزيل لأنه غير مموّل:” ما هو الطابع (الفلوسي) لعملنا، يقولون بأننا نموّل من السفارات الأجنبية وما شابه، أين مظاهر التمويل؟ هل أقمنا حفلة في صالة (عالبال) وهل حجزنا في نادي الصحفيين ووزعنا الحقائب (لا نملك ثمن طباعة بطاقات شخصية، طبعها لنا أحدهم..قبلنا الأيادي من أجل ترجمة تقرير حتى لجئنا لأصدقائنا في الدول العربية وترجمته فصارت الناس تبصق علينا). لا يوجد عندنا مكتب، فنجتمع في مقهى الهافانا، حتى في المنزل لا يمكننا الاجتماع خوفاً من مشكلات “
عندما يعيش نشطاء المدنية السوريين في محرقة … قانون من العصر الحجري، وعلاقة مع السلطة قوامها الريبة!
شذا المداد:بدا للوهلة الأولى أنّ ما سمح به الرئيس بشار الأسد يختلف عما كان في عهد والده، يختلف قليلاً عما عهده السوريون على مدار عقود مضت، فبعد وصول الابن إلى سدة الرئاسة طرحت علناً قضايا (ديمقراطية ـ تعددية ـ تنوير ـ مدنية ـ حقوق إنسان..) مصطلحات كنا حتى وقت قريب نعتقد أنها خاصية المجتمعات الغربية ولا تمتّ لنا ـ كسوريين ـ بصلة، ويمكن القول أنّ خطاب التطوير والتحديث كشف النقاب عن إمكانية الاعتماد على مجتمع مدني من شأنه إحداث النقلة النوعية المنشودة.
لاقت مفردات خطاب القسم مطلع (2000) ترجمتها العملية، فتحدثت القيادة السياسية رسمياً ولأول مرة عن إصلاح سياسي ترافق بالإفراج عن ستمائة معتقل من تنظيمات مختلفة، تعدّى ذلك إلى إغلاق سجن المزة سيء السمعة، وتلا هذا القرار التاريخي عدةّ تدابير رسمت الخطوط العريضة لـ “سورية جديدة” يفترض أن تسمح بنشاط مدني يقوم على الاعتراف بالآخر كوجود سياسي.
لم يدم المشهد طويلاً..فبعد أقل من سنة، حدث ما دفع إلى طرح تساؤلات بعثت القلق: هل وُئد ربيع دمشق؟ تبع ذلك تصعيد بالغ الخطورة، فقد أغلقت المنتديات (بما فيها الثقافية) ونشطت الاعتقالات التعسفية وكثرت الملاحقات، لترّجح الكفة مجدداً لصالح القبضة الأمنية، وذهب الرئيس الشاب بتصريحاته إلى أبعد من ذلك.. إلى حدّ وصف فيه دُعاة المدنية بالخياليين، ففي لقاء أجراه معه الصحفي عبد الرحمن الراشد قال: ” إنّ الذين يدعون إلى المجتمع المدني هم أناس خياليون يخرجون أنفسهم من تاريخهم ومن الحاضر والماضي” .
استمرت السلطة بتوجيه ضرباتها لهؤلاء الدعاة والتضييق على عملهم، وكان لتضييقها تأثيراً مزدوجاً: فهي من جهة أحبطت محاولات إرساء دعائم المدنية (مجتمعاً ـ قوانين ـ مؤسسات) ومن جهة أخرى أدخلت النشطاء في أزمة فغابت رؤيتهم وتسربت المشكلات والخلافات لتستقر في قلب نشاطهم، وسمعنا من يقول: ( ظهرت “أوساخٌ” في أوساط المجتمع المدني السوري وتحول دعاته إلى تجار).
فهل يعيش المجتمع المدني واقعاً ساد قبل خطاب القسم؟ من وراء فشله ووأده في المهد: هل فعلت ذلك السلطة بأدواتها القديمة والمعتادة؟ أم أنّ القائمين على أمره سعوا بطرق شتى إلى زرع التناحر في صفوفه؟ فشهدنا ربيعاً دمشقياً مُخجلاً.
• قانون حجري
تزامنت الحكاية مع المؤتمر القطري العاشر للحزب عندما رأت القيادة السياسية في البلاد ضرورة الانفتاح على المجتمع المدني وإشراك فئات منه في عملية التنمية الشاملة، فكان شعار “التشاركية” الذي سمح للعديد من الجمعيات المدنية بإبراز مشروعاتها كورقة عمل، اصطدمت في بادئ الأمر بقانون جمعيات لا تتلاءم مجمل مواده مع ما حصل من تطور مجتمعي، ورغم الوعود بإلغاء تعليماته التنفيذية التي اعترفت الحكومة بأنها عرقلة حقيقية لعمل المجتمع المدني برمته، وقررتّ في مؤتمر (دور المجتمع الأهلي في التنمية) دراسة القانون وتطويره، ولكن هيهات..انتظرنا التغيير دون جدوى، ليسّجل أول فشل يطال الجمعيات المدنية أولاً والحكومة ثانياً، فلم تفلح المحاولات الجادة والحثيثة والنداءات المستمرة في صياغة قانون آخر يتلافى ثغرات القانون النافذ، فبحسب المحامية أ.حنان نجمة: ” شكلت لجان لدراسة قانون الجمعيات كنت واحدة من أعضائها ولكن لم تستمر في عملها “.
بقي الحال في إطار الأخذ والردّ إلى أن تحوّل قانون الجمعيات النافذ إلى “شماعة” تبرر فشل البعض في تحقيق أي خطوة إيجابية، يقول مدير مرصد نساء سوريا بسام القاضي: ” ثلاث حجج يستخدمونها لتفسير أي موقف قد يحرجهم: القانون ـ أجهزة الأمن ـ غياب التمويل، وكلها مجرّد ذرائع فالجمعيات لا تريد أن تعمل”.
كيف ذلك؟ تتساءل عضو رابطة النساء السوريات الناشطة سوسن زكزك ” هل يريدون أن نعمل في ظلّ قانون متخلف يضع العصي في الدواليب، الله يرحم أيام الخمسينات حينها كنا مجرّد أن نسجّل الأوراق اللازمة للإشهار ونأخذ إشعاراً بذلك، يعني بأنك رخصت! أما اليوم فنحتاج إلى شتّى الموافقات الأمنية، تصوّري! غير مسموح حتى بتشكيل منظمات نسائية أو شبابية أو جمعيات تعنى بشؤون الأطفال”
إنّ غياب الإطار القانوني وعدم مأسسة عمل منظمات المجتمع المدني، يمكنّ الجهات الرسمية من تصعيد الضغط ضدّ أي جمعية وقتما تشاء، على سبيل المثال وجّهت وزارة الشؤون الاجتماعية لرابطة النساء السوريات العديد من الإنذارات بعدم العمل مع الجمعيات المرخصة (جمعية تطوير دور المرأة) وهو مطلب حكمته مزاجية الوزارة المعنية وأهواءها فقد سمحت لهم بالتنسيق مع الاتحاد العام النسائي أثناء إعداد تقرير بكين في العام 1995، كما دعتهم للمشاركة “كرابطة” لإعداد إستراتيجية ما بعد بكين واعتمدتها الحكومة! تضيف زكزك: “سياسة وزارة العمل هي التي لا تسمح لنا بالتعاون مع الجهات الرسمية وترعبنا بقانونها، فكيف يقال أننا لا نريد أن نعمل”.
لا يختلف اثنان حول أنّ المشكلة في قصور قانون الجمعيات من ناحية، وسياسة الدكتورة ديالا الحج عارف من ناحية أخرى، ويعاني أكثر من ناشط مدني جراء ذلك، تقول رئيسة تجّمع سوريات الإسلامي أسماء كفتارو: ” نعمل وفق قانون وضعه جهلة بالمجتمع السوري لذلك لا نتائج واضحة لعمل المجتمع المدني، ثمّ نسمعهم يقولون انظروا إلى ما فعله المدنيون في المغرب وتونس! فنقول لهم: أيضاً انظروا إلى الهيئات في المغرب وابحثوا في من كان وراء تطوير القوانين فيه وقارنوا حالهم بحالنا “.
بالمقابل يبيّن تقرير الهيئة السورية لشؤون الأسرة المقدّم في بكين(15) أنّ وزارة الشؤون الاجتماعية رخّصت لعمل العديد من الجمعيات الأهلية (جمعية تطوير دور المرأة ـ فردوس ـ بداية ـ مسار ـ نقطة حليب ـ المبرة النسائية) وكان لها شأناً كبيراً في المجتمع.
يأتي هذا في وقت تُتهم فيه الوزارة بدعمها لجمعيات متطرّفة ومتشددة الطرح حتى أنها لا تؤمن ضمن أهدافها المعلنة بحقوق المرأة، تقول كفتارو: (أنتمي لعائلة اشتهرت بالاعتدال وبالأطروحات التنويرية، والدكتورة عارف تحارب تلك الجماعات وتشجّع أخرى متزمتة ولا نعرف مغزى الشراكة بينهما).
ويبدو أنّ لوزارة العمل سياسة خاصة مع الناشطات في مجال الدفاع عن حقوق المرأة فهي تخضعهم لجملة إجراءات يعتبر مجرّد تجاوزها أمر يصعب تحقيقه، وتسلط سيفها وتحكم قبضتها على أي جمعية لا ترضيها، فجمعية المبادرة الاجتماعية التي باركت السيدة أسماء الأسد نشاطها بوضع رصيد لها في البنك (500ألف ليرة سورية) ببساطة جاءت الدكتورة ديالا وألغت ترخيصهم، وتعتقد رئيسة الجمعية الناشطة سوسن رسلان بأنّ الوزيرة ـ شخصياً ـ حاربتهم لأنها لا تريد لأحد أن يعمل: ” هاجمتنا بحجة الترخيص وأعاقت عملنا الذي كان أفضل قبل الترخيص حيث استجاب مجلس الشعب لطلب جمعيتنا برفع سن الحضانة من ( 9ـ11) إلى (12 للذكرـ 13 للأنثى)، هل خافت الوزيرة من نشاطنا في الشارع خاصة بعد تجاوب المئات مع حملتنا..ففوجئنا بحل الجمعية لأسباب إدارية دون الرجوع إلى مجلس الإدارة، لا يحدث هذا إلا عندنا “.
قالت وزيرة العمل لإدارة جمعية المبادرة بأنّ المصلحة العامة تقتضي ذلك، المصلحة التي تجسدت في تصريح الوزيرة: (لن تعمل سوسن رسلان في هذا البلد طالما أنا وزيرة!) وتضيف رسلان: منعتنا حتى من التسمية كنا جمعية المبادرة النسائية ولم توافق متذرعة بوجود اتحاد نسائي! انظري إلى درجة الذكاء هنا!
والسؤال: ماذا لو قررت وزارة العمل في القادم من الأيام منح الجمعيات غير الحكومية ما يضفي الشرعية على عملها، هل ستنتهي المشكلة وينقضي الأمر، أم سيحدث كما يعتقد المحامي خليل معتوق: ” قانون الجمعيات مترهل هذا صحيح، إنما لو عزمت الحكومة على ترخيص تلك الجمعيات والمنظمات لأغلقت غالبيتها لأنها غير مستوفاة الشروط القانونية البعض لا يوجد لديه نظام داخلي ولا أعضاء.. ولا مجلس إدارة أو مكتب”.
نقطة مهمة تبدو غائبة عن ذهنية أصحاب الجمعيات غير الحكومية، التي لا تقوم على هيكلية إدارية صحيحة ووفق بنية مؤسساتية حقيقية، ما جعلها أقرب إلى دكاكين..ويرفض ناشط في المنظمة الكردية للدفاع عن حقوق الإنسان والحريات العامة في سوريا أ. محمد خليل مقارنتها بنظيراتها في العالم الغربي: ” نشاط منظمات المجتمع المدني هنا بسيط ومتواضع قائم على جهود فردية ولا يجوز بأي حال معاملتها كمنظمات دولية ناشطة كالآمنستي التي تملك 65مكتباً في أنحاء العالم”.
تقف وزيرة العمل بالمرصاد في وجه نشاط المجتمع المدني كأنها تمارس دوراً مرسوماً لها، فالمنظمة الوطنية لحقوق الإنسان قالت بأنها على استعداد للترخيص فما كان من الوزيرة إلا ردّ يكرس مهزلة حقيقية بحسب ما يقول رئيسها الدكتور عمار القُربي: ” جاءنا الردّ بأنه لا داع لمنظمة حقوق إنسان فنقابة المحامين تقوم مقامها ورفض الترخيص لأنها غير مرخصة !”
وتبدي د.مية الرحبي رئيسة لجنة “معا” لدعم قضايا المرأة، أسفاً كبيراً يشوبه بعض العتب جراء تصرفات الوزارة التي لم ترخص جمعيتها منذ ثلاث سنوات، في حين تسمح للمدعومات (مالياً وأمنياً) بالعمل كيفما شئن وسط مساندة كبرى كما هو الحال مع جمعية تطوير دور المرأة.
• العلاقة مع السلطة الحاكمة:
منذ الانطلاقة الأولى والضعف يعتري جسم مؤسسات المجتمع المدني، فعندما تتخوّف السلطة من إطلاق تسمية ” المجتمع المدني” على هؤلاء الدعاة، لجان ومنظمات وجمعيات، وتكرّس في أدبياتها مصطلحات غامضة الطابع (منظمات غير حكومية ـ مجتمع أهلي ـ تشاركي..) حتى أنها رفعت مؤخراً شعاراً كـ ” دور المجتمع الأهلي في التنمية ” دون أن تتوجه بدعوة واحدة لأي طرف من دعاة المجتمع المدني، ونجدها على الدوام تلتف حول صيغة التعامل معهم، فمرة تطالب بعضهم بالترخيص وإلا ستضطر آسفة إلى الإغلاق دون بيان الأسباب (منتدى الأتاسي) ومرة نجدها تسّهل إجراءات الترخيص لآخرين (مرصد نساء سوريا) فماذا يعني ذلك؟ غير أنها لا تريد علاقة جادة وصحيحة يحدد القانون مسارها؟ ويعني أيضاً تراجعها عما عقدت العزم عليه من انفتاح واعتراف بالآخر كوجود، فبحسب كفتارو أنّ الحكومة وافقت في البداية على التعاون مع تجمعهّم (غير المرخص) ثمّ ما لبثت أن عرقلت التعاون وجمدّته في فترات لاحقة: ” تغيّرت السلطة معنا فقد بدأنا كمجتمع مدني من خلال الهيئة السورية لشؤون الأسرة وبعد فترة طالبونا بالترخيص واصطدمنا مع الحكومة التي لم تعد تعترف بنا علماً أننا لا نعمل خارج سياق سياستها وتوجيهاتها”
إنّ مأساة المجتمع المدني تكمن في التعامل الحكومي غير الناضج مع المنظمات غير الحكومية ـ كما تصفه كفتارو ـ فنتجت علاقة عدائية إلى حدّ لا يوصف: “وزارة الأوقاف تعتبرنا أعداء وخصوماً لها، فتؤلب تياراً دينياً متطرفاً ضدنا نحن سمعنا ما قالته الدكتورة بثينة شعبان بهذا الصدد (إننا أمام مدّ ديني وعلينا الحذر).
تربط الحكومة والجمعيات المدنية علاقة قوامها الريبة والغموض، فلم نعرف بعد مآرب السلطة ودوافعها وآلية تفكيرها حيال تلك الجمعيات، ولا يمكن أيضاً تحديد مطالب ثابتة يرفعها دعاة المدنية كبرنامج عمل، كما لم يسبق وأن سمعنا مقترحات تبحث تصويب العلاقة أو إعادة نظر فيها، فقط نسمع من يصفها بالسيئة وتصل أحياناً إلى حرب يجبر طرف فيها على رفع راية بيضاء، كما حدث مع جمعية المبادرة الاجتماعية التي كان للسلطات طريقتها الخاصة في كسب المعركة، تقول رسلان: “هاجمنا رجال دين..نعم إمام جامع الدرويشية عبد العزيز الخطيب الرفاعي، خطب ضدنا في الجوامع وعلى المنابر لدرجة تحدّث فيها عن أخلاقياتنا واستدعتنا الوزيرة ووجهت لنا إنذاراً بإيقاف النشاط حتى أنها أنكرت أنها أعطتنا الموافقة بالعمل، بحجة أنها تتعرض لضغوطات من قبل الإسلاميين”..
فأين أهمية الدعم الحكومي الذي يصدعّون رؤوسنا به؟ تتساءل رسلان لتجيب بنفسها على التساؤل: قال لي الإمام الرفاعي: أنتم لا مكان لكم هنا.. فالشارع لنا نحن المشايخ!”
بدت السلطة وكأنها لا تتقبل دور المنظمات المدنية بصدر رحب ويعتقد د.عمار القربي أنّ السلطة تحاول تفشيل عمل المنظمات وزرع بذور الخلاف والانشقاق، ومن يساعدها في المهمة دعاة المدنية أنفسهم بتصرفاتهم غير المسؤولة وعدم إحاطتهم الشاملة بآلية العمل ما دفع بتلك العلاقة إلى مستويات متدنية، ولطالما لم تستطع تلك المنظمات الوصول إلى صيغة عمل مشتركة فكيف ينبغي للعلاقة مع السلطة أن تنجح، وبرأي القاضي أنه لا يجوز أن نّحمل السلطة كامل المسؤولية حيال تأزم وضع المجتمع المدني وتراجع دوره.
فيما يعتبر آخرون العمل في الشأن العام بمثابة حقل ألغام ربما يهدّد لقمة عيش المرء لكونه محكوم بمزاجية السلطة وأهوائها، فما هو مسموح اليوم قد يقع في خانة غير المسموح في أي لحظة، تقول زكزك: ” أنا ارفع القبعة لكل من يعمل في حقل المجتمع المدني..إنه حقل متفجرات يهدد حياتك، فما حصل مع جمعية المبادرة الاجتماعية عندما واجهت الموت من (الشارع الديني) أكبر مثال..إمام جامع يشتم الناشطات في مجال حقوق المرأة ولم تحرك السلطة ساكناً”.
ترتكب السلطة الحاكمة أبشع أخطائها عندما تحاول خلق علاقة ملتبسة مع أصحاب المنظمات والجمعيات المدنية، ولا ندري ما مبرر خوفها منهم طالما تؤكد سياساتهم على الدوام بوجوب التغيير السلمي وتنادي مفردات خطابهم بالحوار الجاد والمثمر، فهل الإجراءات الاحترازية المتبعة من جانب السلطة مشروعة؟ لماذا لا تحاول كسبهم لصالحها وهي التي جسدت دبلوماسية تؤكد المثل الشائع: (كلبٌ ينبح معنا خير من آخر يعوي ضدنا) إذن..لماذا لا تعترف بهم ـ على الأقل ضمنياًـ وسترى بأنها هي المستفيد الأول، فمرة سُئل وزير سوري في مؤتمر دولي: لماذا تعتقلون المدافعين عن حقوق الإنسان في سوريا، فألتفت الوزير إلى يمينه وقال: أسألوا الدكتور القُربي إنه ناشط في منظمات حقوق الإنسان وهو بيننا!
من الواضح أنّ السلطة لا تزال تمارس المزيد من التضييق، فقد تعرّض النشاط المدني في العام 2001 لضربة أولى تجسدت باعتقالات لنشطاء من ما سمي حينئذ بربيع دمشق، وشهدنا ضربة ثانية أتت باعتقال أربعة عشر ناشطاً في حلب اجتمعوا لمناقشة مسودة قانون أحزاب، ثمّ وجهت الضربة الثالثة الأكثر بطشاً إثر اعتقال ناشطين في إعلان (دمشق بيروت – بيروت دمشق) وتمت محاكمتهم، تلاها ضربة أخيرة وقاضية تمثلت بالقضاء على قيادات إعلان دمشق، وامتلأت السجون مجدداً، لتستمر الملاحقات بالجملة وصدرت أطول قائمة “منع سفر” حملت أسماء مئات المدنيين.
وتجلّت ذروة الخوف لديها أثناء قيامها بإغلاق المنتدى الثقافي لحقوق الإنسان في سوريا الكائن في منطقة صحنايا، تحديداً في منزل خليل معتوق، حيث طوقت قوى الأمن المكان ونشرت الذعر، رغم أنّه عبارة عن مجموعة مثقفين اجتمعوا لتأسيس هيئة سورية مستقلة ليس لها علاقة بأي حزب سياسي، أعلنوا في أكثر من مناسبة عدم تأييدهم أو معارضتهم لأي حكومة في البلاد، وكذلك بالنسبة لآراء السجناء معتقلي الرأي، أعلنوا عدم التأييد أو المعارضة!
وهنا يظهر الحديث عن إمكانية التنسيق بين أجهزة السلطة ومنظمات المجتمع المدني أو مع القائمين عليه سخفاً لاسيما أنّ الأولى لم تظهر نية سليمة تجاه أحد، واعترى نهجها تقصيراً حاداً تتحمل بسببه مسؤولية تراجع دور المجتمع المدني، حتى أنها لم تقم وزناً لأي عرف دولي من شأنه إعطاء زخم لحقوق الإنسان في سوريا، ففي إحدى المرات قال قاض شرعي للمحامي خليل معتوق رداً على سؤاله حول رغبة شخص مسلم بأنه يريد أن يعتنق الديانة المسيحية لكون أنّ بلدنا سوريا قد صادقت على العهد الدولي للحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية الذي يكفل حرية الاعتقاد وكذلك الدستور السوري وحسب المادة (35) والتي تنصّ بأنّ حرية الاعتقاد مصونة وتحترم الدولة جميع الأديان، فأجابني: (بلا معاهدات دولية بلا”…” الشريعة الإسلامية أولاً).
وأكثر من ذلك أُحبطت محاولات نفض الغبار عن العمل النقابي الجاد يقول أ. معتوق: ” أغلب النقابات لا تعمل لصالح أعضائها، فما فعلته نقابة المحامين مع مهند الحسني لا يندرج في إطار العمل النقابي السليم، ويسأل: هل وصلنا إلى درجة لا أستطيع فيها أنا كمحامي الدفاع عن حقوق الإنسان، أليست مهزلة العمل المدني في سوريا؟”
يبدو أنّ أ. معتوق لم يطلع على عمل النقابات من زمن، ليست نقابة المحامين تفعل هذا بأعضائها فحسب، وما يجري في اتحاد الصحفيين خير مثال، قد تجد صحفي مفصول من عمله دون أن تبدي مجرد رأيها في الموقف، بل تشارك في صياغة قرار الفصل!.
ويلخّص معتوق إشكالية العلاقة مع السلطة بأنها تكمن في نهجها السائد(كل من ليس معها فهو ضدها) فالأخيرة لا تتوانى عن توجيه تهم جاهزة للنشطاء المدنين: “وُجهت تهم لأعضاء في حزب العمل الشيوعي بمقاومة النظام الاشتراكي، تصوري! هل بالإمكان الآن توجيه تهمة مشابهة للسيد النائب الاقتصادي: بمناهضة الاشتراكية ومخالفة مواد الدستور! بما يقوم به من انتقال إلى اقتصاد سوق حر.
وهنا يُطرح سؤال بمنتهى الأهمية: هل دعاة المدنية بحاجة إلى مثل تلك العلاقة؟ فبحسب القُربي ليس هاجسهم الوحيد توطيد العلاقة مع أجهزة ودوائر الأمن السوري، فإذا كان عمل منظمات حقوق الإنسان ـ مثلاً ـ ليس عملاً سياسياً لكونها تقف على مسافة واحدة من السلطة والمعارضة وتهتم برصد الانتهاكات الحاصلة من قبل أي جهة، ومرجعيتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية، ولم تكن يوماً السلطة مرجعيتها، ولا تسعى أصلاً للوصول إلى الحكم ولا يهم من يتسلم الحكم.. فأولويتها نشر ثقافة المواطنة والدفاع عن الحقوق المنتهكة، فأين تجسّدت المصلحة المباشرة مع السلطة أو أجهزتها؟
يتهم دعاة المدنية بالعمل تحت أمرة السلطة وعدم القدرة على الخروج من عباءتها، اتهام يخلو إلى حدّ ما من الدقة، ويوقع ظلماً كبيراً بهم كنشطاء يقروّن استقلاليتهم التامة، ولو أجرينا تحليلاً منطقياً كما يفعل الدكتور القربي: كيف سأفسر اعتقال المحامي مهند الحسني الذي ليس له أي نشاط سياسي سوى أنه حقوقي وناشط في مجال حقوق الإنسان، وكيف سأفسر اعتقال المحامي هيثم المالح وهو على أبواب الثمانين، وأيضاً اعتقال المحامي أنور البني بناءً على عمله كناشط لحقوق الإنسان وليس في الشأن السياسي، وغيره عشرات الأمثلة على اعتقالات ومحاكمات لا تفسّر إلا على هذا النحو: (عمل مدني مقيد)، وربما يحقّ للقربي اعتبار كلّ كلام عن علاقة بين القائمين على أمر المجتمع المدني وأجهزة الأمن مجرّد فكاهة يطلقها عقل تخريبي، ولا يوجد أي علاقة حسنة مع السلطة! فعلاً هذا سخف!”
يؤكد على استقلالية منظمات المجتمع المدني استقلالية تامة المحامي محمد خليل وينفي وجود أي ارتباط لها سواء بالأحزاب الكردية أو أجهزة الأمن حتى أنها لا تعبر عن أهداف أي جهة سوى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: ” ما الجدوى من تلك العلاقة لطالما يوجد ثلاثمائة معتقل كردي في السجون ولا يعرف مصيرهم حتى الآن وهناك خمس دعاوى أمام القضاء العسكري والعشرات ممنوعين من السفر وما إلى ذلك من تشديد القبضة الأمنية “.
مشهد يدعو للتشاؤم فعلاً، التشاؤم من علاقة قائمة على الريبة، ولا نلمس مؤشرات إعادة إصلاحها، لولا بارقة أمل لمعت في الأفق قبل أشهر قليلة، وذلك في مؤتمر التنمية الأخير، عندما طرح “المجتمع المدني” كاسم وشريك وفي كلمة السيدة أسماء الأسد، ما وصفه البعض بالتقدم المفيد على صعيد تصحيح علاقة مع حكومة مازالت تصّر على عدم الاعتراف، ولا يعرف ما إذا سيتبع الموقف المبدئي المعلن إجراءات جادة بإعادة إحياء المجتمع المدني من جديد بعد التأكد من وأده، وما إذا كانت الحكومة ستكفّ في القريب العاجل عن شهر سلاحها الأبيض في وجه دعاة المدنية، سيما أنّهم لا يقدمون على فتح صفحة جديدة تخلو من الضغينة.
- شأنهم شأن الحكومة.. لا يقبلون النقد ولا يتوانون عن مهاجمة بعضهم
علاقة المنظمات المدنية مع بعضها:
اعتقدنا أن الجليد قد ذاب فعلاً وانتابتنا فرحة عارمة صنعتها شعارات التشاركية مع المنظمات غير الرسمية التي تحمل صفة المدنية، وبدأ التعويل حيال أهمية تلك المنظمات، وقلت ـ كما قال كثيرون ـ إنّها بدء مرحلة جديدة تطوي صفحات الماضي البغيض، وتحمسّنا لرؤية مشروعهم البديل.
سرعان ما خابت ظنوننا وبدأ الذهن بالعودة إلى مطلع الثمانينات الموحشة فداعبت مخيلتنا كلمة (لماذا)، حتى استفحل سؤال ما الذي جرى.؟
أولاً، لا يعمل هؤلاء يداً واحدة بما يشكل جبهة في وجه تداعيات السياسة الحكومية إن هي أخطأت.. تضاعفت خيبة أملنا عندما كان الجواب الأكثر تلاؤماً: لأنهم ـ على ما يبدو ـ لا يأبهون، هؤلاء لا يأبهون بنا! يعيشون حالة صراع دائم ولم يكن يوماً الشأن العام همهّم الأول وهاجسهم الثابت والوحيد، والأمثلة على ذلك “حدّث ولا حرج” فعندما تأسست اللجنة الوطنية لمقاطعة البضائع الأمريكية والصهيونية وتمّ اختيار م. لمى قنوت (عن حركة الاشتراكيين العرب) عضو في رئاسة اللجنة، لم يرق هذا الاختيار للدكتورة مية الرحبي، فارتأت الانسحاب لتؤسس لجنة منشقة عن الأولى تحت مسمى” اللجنة الأهلية لمقاطعة البضائع الأمريكية” انتسب إليها أعضاء كثر كعبد القادر نيال ود. نبيل سكر وحميد مرعي وحمزة برقاوي، ووقفت الرحبي مواجهة مع المجموعة الأولى، ويحدثنا عضو سابق في اللجنة بأسف شديد عن تململ الرحبي من حضور الاجتماعات ومتابعتها متذرعة بحجج شتى، ليضيع العمل المشترك هباءً منثوراً ويبقى التوق إلى البروز الإعلامي وصخبه سيد الموقف.
من المؤسف أن تتشكل صورة القائمين على أمر المجتمع المدني في إطار تسوده الخلافات والانقسامات، يزيد من سوداوية الصورة تعارض اللجان والجمعيات بعضها البعض ما أفقدها الفعالية والتأثير على سياسات السلطة، وبالتالي انتقل زمام المبادرة لغيرها واكتمل مشهد التشرذم، وما يدل على فقدان المبادرة أني سألت أ. حنان نجمة: لماذا لا تملكون مشروعاً بديلاً عما تطرحه الحكومة من مشروعات سلفية على حدّ وصفكم لمسودة قانون الأحوال الأخير؟ أنتم تكتفون فقط بالشجب والتنديد! فقالت إنها كلفت في مطلع العام 2006 بوضع قانون أسرة جديد بالتعاون مع لجنة تضم نخب مشهود لها، وفوجئت بإيقاف العمل ولم تستكمل المسودة حتى اللحظة.
ومن الطبيعي أن يضيّع دعاتنا لغة الحوار ليحلّ مكانها لغة المساومات والتنازلات والتسويات، ففي المعركة الدائرة بين الحكومة وأقطاب المجتمع المدني التي أشعل فتيلها النسخة الأولى من قانون الأحوال الشخصية الجديد حدث الكثير من الأخطاء. نسي الأخوة المدنيون المعركة برمتها ليقعوا في مصيدة الصراعات والمهاترات، ووجدناهم يفندون الأسئلة: من الذي يعمل؟ ومن هو الذي أسقط المسودة! من واجه الحكومة بشجاعة ومن وقف وراء باب بيته يخاف الخروج، مثلاً يعتبر مرصد نساء سوريا الفضل له في قيادة الحملة التي أسقطت النسخة الأولى(الطالبانية) من مشروع قانون الأحوال الشخصية، يرى آخرون عدم تنسيق المرصد معهم وضعف نشاطه، فيرّد القاضي: ” بذلت جهود استثنائية بمشاركة واسعة النطاق من آلاف الشباب والشابات السوريات، وتمكننا في 37 يوماً من إسقاط هذا المشروع ما دفع رئاسة مجلس الوزراء إلى التصريح علنا برفض المشروع شكلاً ومضموناً وهو ما شكل نقلة نوعية بكل معنى الكلمة في العمل المدني السوري، وكشف أن إمكانية العمل في سورية هي أوسع بكثير مما يجري التهويل بشأنه”
في حين ترى ” زكزك” بأنّ من أسقط المسودة اللعينة ـ كما تصفهاـ جهود رابطة النساء السوريات وتوحدهم في تجمّع واحد: “اشتغلنا شغل غير طبيعي! وزعنا المسودة على بسام وغيره.. بعدما وصلتنا عن طريق وزيرنا الشيوعي في الجبهة، والأب أنطون مصلح يعرف ذلك ويعرف الفرق بين عملنا وعمل مرصد نساء سوريا”
وتعلق زكزك بسخريّة: ” أين كان بسام عندما قمنا بأول بحث عن قوانين التمييز ضد المرأة وأرسلت المذكرات والدراسات إلى وزارة العدل”
برز خلاف حاد بين ناشطات تجّمع سوريات ومدير مرصد نساء سوريا، يتهم فيه بسام القاضي بأنه الذي رفض الدعوى إلى حوار مغلق لحلّ الخلاف، تقول زكزك: ” يريد بسام نشر فضائحنا إلى العلن! ورفضنا لأنه ليس شأناً اجتماعياً بسام هو من أثار موضوع أن تلك الجمعيات النسائية لا تعمل، وأسأله: كيف نعمل ونحتاج إلى موافقة لحضور نشاط تقيمه الهيئة السورية لشؤون الأسرة، كيف نعمل في ظلّ حصار معلن هددت فيه جمعية تطوير دور المرأة لتنسيقها معنا! ” ثمّ لماذا يهاجمنا وهو من رفض التوقيع على كل المذكرات التي رفعت لإسقاط المسودة الأولى؟”
حرب كلامية بين القائمين على تّجمع سوريات والمرصد لا يمكن إيقافها إلا بالاستماع إلى تحليلات الدكتورة مية بأنّ الطوائف المسيحية هي من أسقطت المسودة الأولى” ببساطة لم يكن لاعتراض المنظمات المدنية والمعركة التي شنتها على الحكومة أيّ أهمية تذكر..”
حقاً إنه سؤال وجيه: أيّ دور لكم في ذلك؟ هل صحيح أنّ التجمّع المدني الكبير ” تجمع سوريات ” استطاع إثبات وجوده وكسب احترام الجميع ـ حكومة وشعب ـ لوقفهم المشروع بناءً على الضجة التي خلقها المجتمع المدني بلجانه ومنظماته وأعضائه وتحركاته ما اعتبر إنجازاً لصالحهم، فأسماء كفتارو تختلف مع من يقول أنّ المجتمع المدني ليس له دور يذكر في إثارة حراك اجتماعي: ” إذا كنا لم نصنع الحراك الذي أسقط مسودتي قانون الأحوال الشخصية الجديد فمن الذي قام بذلك إذاً؟ وزارة الأوقاف أم وزارة الشؤون أم أعضاء مجلس الشعب؟ نريد إجابة واضحة!
يصّر” تجمّع سوريات” على أنهم أوقفوا المشروع في المرة الأولى والثانية: فكان لهم يومياً لا يقل عن أربع مقالات كبيرة على الانترنت أجبروا فيها السلطة على تغيير موقفها من المسودة ثمّ تعليقها، وهل هناك عمل أرقى من نشر تقرير في صحيفة رسمية (البعث) مع أنه منع عليها الحديث؟
هذا جزء من نشاط مدني مميّز، تؤكده كفتارو: ” كل هذه الزيارات المكوكية التي قمنا بها وإرسال مذكرات إلى السيد الرئيس والسيدة والدته والسيدة عقيلته واللقاءات مع وزير العدل والداخلية و د. بثينة شعبان ود. نجاح العطار وأ. كوليت الخوري وأعضاء مجلس الشعب – مفني الجمهورية – اتحاد النسائي ، ونتهم بالتقاعس! تعلق كفتارو: “حرام عليكم الرأفة بنا وبصورتنا هؤلاء استمعوا إلينا – إذا لم يكن لنا وجود فهؤلاء كان يجب ألا يستقبلونا من الأساس، لكلمتنا وزن ولتحركنا صدى”.
عمل ” تجمّع سوريات” بسياسة التشبيك والتعاون واستطاعوا أن يكونوا قلباً واحداً على مدار أربع سنوات وتوصوا إلى رؤى مشتركة مع أنه كل واحدة تنتمي إلى طائفة وإلى دين مختلف، لكن السلطة لا تريد للنجاح أن يكتب لهم، فبحسب زكزك: ” هم يؤلبونا على بعضنا..خلافنا مع بسام في بداية المعركة تمحور حيال أين يجب أن تذهب تلك المذكرات، كان لنا رأينا وله رأيه”.
ولا ندري لما الخلاف هذا إذا كان الموت واحد وإن تعددت أسبابه، بمعنى آخر لم يتغيّر شيئاً سواء على صعيد تطوير القوانين أو على صعيد إحداث مؤسسات، منذ العام(1996) ورابطة النساء السوريات تدرس قوانين الأحوال الشخصية، وعقدت أول محاضرة في مركز ثقافي أبو رمانة تكلموا عن وجوب تغيير القانون النافذ، لاسيما قوانين التمييز عند الطائفة المسيحية حينها لم يكن أحد في سوريا يجرؤ على فتح حديث كهذا، ومع ذلك وضعت المطالب في الأدراج.
مسألة عدم الاعتراف بجهود المنظمات وممارسة بخس الحقوق تبقى بحثاً آخر، وهي ممارسات دائمة يقدم عليها دعاة المدنية، فإذا كان للرابطة دور حقيقي في إحداث نقلة نوعية فلما لا يذكر ذلك، خاصة أنهم لم يحتكروا الحقيقة لأنفسهم ويحيدوا غيرهم جانباً ولم يتوانوا عن تقديم النصح للجميع تقول زكزك: ” اسألي سوسن رسلان والدكتورة الرحبي من الذي اقترح عليهنّ تشكيل جمعية؟ نحن أول من نشر مفهوم “الجندر” ودربنا كوادر، يوجد عدد كبير من الناشطات في مجال المرأة لم يسمعن بمفهوم النوع الاجتماعي، وأنا ذهبت لإلقاء محاضرات واسألي مية وندى العلي، ثمّ بعد ذلك يقال لنا بأننا نرفض تعاون الآخر ونختلف معه!”.
إن كان الأمر كذلك فعلاً، فلماذا نجح مرصد نساء سوريا في بناء شبكات واسعة ضمن نطاق عمله، وأخفق في بناء علاقات قوية ومستقرة مع الجمعيات العاملة في قضايا المرأة في سورية، وجمعيات حقوق الإنسان، وكان إخفاقاً شديداً في الوقت الذي كانت أغلب تجارب التشبيك مع الجمعيات والمنظمات خارج سورية فعالة ومستقرة، مثل التشبيك مع الحركة النسوية العربية لمساعدة ضحايا الاعتداءات الجنسية “السوار”، في حيفا، ورابطة المرأة العربية في فيينا- النمسا، وبوابة المرأة في البحرين، ويرى القاضي: ” وصلت علاقات المرصد مع أغلب الجمعيات العاملة في قضايا المرأة إلى مستوى الصفر بل تحولت إلى شكل من العداء “تحت الطاولة” في الفترة الأخيرة مع بعض الجمعيات التي اعتبرت فتح ملف المجتمع المدني علناً هو عمل موجه ضدها ويخدم “أجهزة الأمن” حسب تعبيرها العلني وغير المنشور.
لنسمع من يدحض كل تلك الترُهات على حدّ وصف القربي: ” من الذي قال أن المنظمات العاملة في المجتمع المدني تكره بعضها ولا تعمل يداً بيد ولا يوجد تنسيق مشترك وهم بالأمس اتفقوا على تأسيس المنبر السوري للمنظمات غير الحكومية وتحالفوا لمناهضة عقوبة الإعدام، نحن نتعاون مع الجميع..عشرات البيانات الوقعة من منظمات حقوق الإنسان تشهد بذلك، نحن متفقون وكل يوم نجلس في المقهى مع بعضنا (كمنظمة الوطنية والمرصد السوري والرابطة السورية لحقوق الإنسان) فأين مظاهر الانشقاق؟
يقّر القربي بوجود خلافات داخلية بين المنظمات وهو أمر طبيعي ولكنها في نهاية الأمر تعمل خطاً واحداً يؤمن بالتعددية والتنوع، كما حال المجلس السياسي الكردي المؤلف من تسعة أحزاب كردية عاشت صراعات بين بعضها البعض ووصلت درجة التخوين بين أعضائها إلى حبل المشنقة وعادوا واتفقوا مجدداً على العمل سوية، وإعلان انسحاب أحدهم لا يعني بالضرورة انشقاق داخلي فخليل معتوق مثلاً عندما انسحب من عضوية المنظمة الوطنية لحقوق الإنسان لم ينسحب بسبب عدم رغبته بالعمل المشترك والتنسيق معنا..
بالمقابل، نقرأ وبين أيدينا إعلان انسحاب معتوق من المنظمة الوطنية لحقوق الإنسان بعد شهرين من تأسيسها مبرراً قراره: ” بعد تجربتي في العمل المؤسساتي في المنظمة توصلت إلى قناعة بأنّ نشاطي كمحام مستقل ومدافع عن حقوق الإنسان كان أكثر جدوى وفائدة من عملي في المنظمة، وبناء على اللغط الذي أثارته موجة الاتهامات والاتهامات المضادة التي هيمنت مؤخراً على العمل الحقوقي والدفاع عن حقوق الإنسان فقد آثرت الانسحاب”.
وهنا كيف يفسّر لنا د. القربي انسحاب أربعة من العناصر الفاعلة ضمن المنظمة محتجين على عدم الجدوى من عمل المنظمات بسبب العراقيل الأمنية والسياسية، وأي اتفاق يتحدث عنه القربي في الوقت الذي يشير فيه المحامي عبد الرحيم غمازة إلى خلافات منهجية داخل المنظمة دفعته وآخرين(حبيب عيسى وثائر الخطيب) إلى الاستقالة.
وليس هذا حال المنظمة الوطنية فحسب حيث شهدت أوساط المنظمة الكردية للدفاع عن حقوق الإنسان والحريات في سوريا انقساماً حاداً تجلى في انسحاب بعض من أعضائها كالمحامي عبد الله إمام الذي فضل استقلاليته على عضويته في مجلس أمناء “داد” يقول: انسحبت أثر تلمسي بعض التصرفات غير المقبولة من أعضاء المنظمة فأنا لا أقبل أن تكون منظمة الدفاع عن الحقوق والحريات وسطاً للقمع وعدم قبول النقد الموجه، كما نشطت فيها مظاهر مخيفة كأن يرسل ممثل عن المنظمة لحضور مؤتمر في الخارج بعيد كل البعد عن أهدافها وعملها حتى هندامه غير مناسب”
وليست هذه الحادثة الأولى والوحيدة، بالإمكان سماع كل يوم خبر عن خلاف داخلي في منظمة ما، وليست مشكلتنا في طبيعة الخلافات بقدر ما تكمن في آثار وتبعية الخلافات الداخلية، فكيف سيتم قبول التعامل مع منظمات تعيش حالة تشرذم، فمرة تحمّس مجموعة من زملائنا الصحفيين أرادوا الانضواء تحت لواء لجنة من لجان العمل المدني، أي لجنة لا على التعيين، فتوقعوا أن يأتي المدنيون برؤى معاصرة ويقلبون الطاولة على الجميع بأطروحات تلبي تطلعات المجتمع، وتحمل نظرة مساندة لمسيرة التطوير والتحديث وتكون رافداً لها، أطفئ حماسهم المتقد ما همس به بسام القاضي عن الفساد الذي ينخر مؤسسات المجتمع المدني (حتى تلك التي أعمل فيها أنا بسام) وبأنها لا تتوانى عن اختلاق شماعة تعلق عليها فشلها، فتارة تنظر إلى الضغط الأمني كعامل يحول دون نشاط مؤثر، ومرة تلعن وزارة العمل وتشتم قانون الجمعيات الرديء..فتراوح بمكانها بشكل يثير الشفقة..
يرفض العاملون في الحقل المدني النقد الموّجه إليهم شأنهم شأن الحكومة، ولا يتوانون عن مهاجمة بعضهم البعض في كلّ مناسبة، فإذا ما فتحنا حديثاً يتناول أهمية الحراك المجتمعي المثار مؤخراً حيال جرائم الشرف وضرورة تعديل بعض مواد القانون، ستسمع من يدعي أنه أول من أجبر الحكومة على مناقشة هذا الجانب الذي اعتبر خطاً أحمر لسنوات، فبحسب مدير مرصد نساء سوريا” خاض المرصد تجربة جديدة كلياً حفلت بالعقبات أثناء الحملة المناهضة لجرائم الشرف، خاصة أنّ المشكلة المطروحة كانت غائبة كلياً عن ذهن الناس بمن في ذلك الجمعيات المعنية وأثمر هذا العمل اضطرار الحكومة السورية إلى عقد الملتقى الوطني الأول حول جرائم الشرف (10/2008) والذي تبنى بشكل واضح وصريح المطالبات التي أطلقها المرصد، خاصة لجهة إلغاء المادة 548 من قانون العقوبات، وتعديل المادة 192 من القانون نفسه. كما أثمرت تعديل المادة 548 (7/2009) بالمرسوم رقم 37 لعام 2009″ وستستمع من يتمسك برأي مختلف تماماً تقول ” زكزك” بأنهم كرابطة موجودون منذ أوائل الخمسينات وتعمل على تكريس الحقوق الاجتماعية وتحقيق المساواة للمرأة وناهضوا جرائم الشرف منذ عام 1990 وأي حديث في هذا الميدان هم أسسوا له: ” كنا أول جمعية في سورية تحدثت عن العنف ضد المرأة وشاركنا بجلسة في بيروت وشكلنا لجنة مؤازرة من أهم مثقفي البلد (محمد شحرور – محمد قداح – حسن .م. يوسف – سناء قندلفت ونبيل صالح) وسلطنا الضوء على موضوع العنف ضد المرأة وجرائم الشرف ولم نلق دعماً من أحد، أساساً لم يكن في سوريا أحد يعلم ببرنامج بكين يومها، لنا يعود الفضل بكل التغييرات التي طرأت على قوانين المرأة”.
بعد أيام سمعنا د. مية تشكك بأهمية تلك المؤسسات وترفض تسميتها مؤسسات مجتمع مدني، لطالما تعمل دونما حماية قانونية وتحت مظلة السلطة وفي ظلّ غياب الاستقلالية أولاً والدعم والتمويل ثانياً، وتصفها بأنها مجرد تجمعّات أهلية، جهودها مبعثرة، لدرجة أنها لم تتمكن معها من أن تشكّل عامل ضغط على القيادة في البلاد، بل أنّ الأخيرة لم تقم وزناً للجمعيات المدنية ولا تخشاها لأنها لا تملك أكثر من عقد ندوة هنا وكتابة مقالة هناك.
واليوم بالتحديد استيقظنا من حلم وردي، فوجدنا يمن أبو الحسن (مسؤولة في جمعية تطوير دور المرأة) تحمل بيدها إنذار وزارة العمل بعدم التعاون مع تجمّع “سوريات” لأنه غير مرخص، وبعدم التعاون مع الهيئة السورية لشؤون الأسرة كمنظمة رسمية!..يا لا الخجل من سياسة كهذه..
- واقع العمل.. البحث عن الإبرة في “كومة قشّ”
• واقع عمل:
لو فكر أحد بالانتماء إلى إحدى الجمعيات المدنية سيفكر مائة مرة قبل الإقدام على الخطوة، سيفكر مراراً بكلام القاضي عن الفساد في أروقتها، وبكلام الرحبي عن عدم الجدوى منها، وبما قاله صحفي “عتيق” عن تهمة ارتباطهم بأجهزة الأمن، وسيتساءل أي إضافة سيحقق إذ إنّ المؤسسات المدنية نسخة معدلة عن المؤسسة الحكومية بصيغتها المتخلفة وبنيتها المترهلة وربما يقرر في النهاية بأنّ الأخيرة أحسن حالاً فعلى الأقل لا تسودها انقسامات ولا تشهد انشقاقات حادة.
لكي لا نظلم هؤلاء، نعترف أنه ليس بالأمر السهل التوصل إلى نتائج عمل وسط ظروف غير صحية نمت فيها منظمات المجتمع المدني، فلا يمكن إثبات وجودها وكسب ثقة ومصداقية الشارع في ظلّ أجواء مسمومة، حتى لو ادعت بأنها تعبّر ـ ولو تعبيراً ـ عن تطلعاته ورغباته وأنها تراعي مصالحه واحتياجاته.
فسح المجال في مرحلة من المراحل أمام تلك المؤسسات للتوجّه إلى الشارع، في تلك الفترة الماضية يحقّ لنا تقييم أداء عملها والسؤال: لماذا عجز دعاة المدنية عن تحقيق أدنى درجة تواصل مع أبناء سوريا والبعض لم يسمع بوجود شريك آخر في عملية التنمية ـ كما قيل ـ ولم يتمكنوا حتى من حفظ اسم منظمة واحدة تزامن ظهورها مع ربيع التطوير، وما بقي في ذاكرتهم أسماء المؤسسات الحكومية والمنظمات الشعبية (اتحاد العمال والفلاحين ـ الاتحاد النسائي ـ شبيبة الثورة ـ الاتحاد الوطني لطلبة سوريا..) وترّدد اسم (الدردري والعطري خلال السنوات الخمس الماضية أكثر من أي اسم آخر في أنحاء سوريا).
ولو بحثنا فعلاً فيما أقدم عليه دعاة المدنية ووقفنا عند نتائج عملهم وسبرنا غور ما ذهبوا إليه في طرحهم، فأي إجابة سنصل إليها وأي نتيجة ستكون أمامنا، هل صحيح أنّ ما يجري من عمل مدني في سوريا أقل بأضعاف ما هو مسموح به، كيف لم تتمكن ـ على سبيل المثال ـ منظمات حقوق الإنسان من نشر ثقافة المواطنة في ذهنية السوريين كما لم تلق أهدافهم ترجمة عملية بحسب ما يقوله القاضي، هل فعلاً ممنوع أيضاً؟ وإن كان الأمر كذلك فمن يثبت لنا وجود تقاعس من جانب منظمات المجتمع المدني وكل ما يقال بهذا الخصوص هو مجرد هروب من مسؤولية العمل المدني، على حدّ قول د. القربي مؤكداً أنّهم يستحقون أوسمة تكرمّ عملهم في ظلّ الظروف البائسة المحيطة.
أسئلة تحتاج إلى إجابة شفافة، وبرسم دعاة المدنية وعليهم تقديمها، أين الجهود المبذولة على صعيد تطوير القوانين ولا تزال أهم مؤسستين في سوريا وهما وزارة العدل ونقابة المحامين لا يشاركان في صياغة قوانين، وهي أصعب عقبة واجهت العمل المدني برأي معتوق: (إذا وزير العدل لم يسمع بمسودة قانون الأحوال الشخصية الجديدة، فكيف لنا أن نطالب بقانون عصري، ثمّ هل طالبوا بصوت عالٍ برفع الوصاية الأمنية والحزبية عن منظمات العمل المدني حتى تتمكن من أن تنشط، كما كان يدور في أروقتهم وفي خلدهم).
يرفض البعض سؤاله في ذلك، والقول أنّ عملهم ليس له نتائج ولا يمكن تسميته بالعمل الحقيقي يصبح تجنياً وإنكاراً للواقع، ويعتقد القربي: ” أي عملّ مدني سيكون في ظلّ عدم الاعتراف بمنظمات حقوق الإنسان، وفرض منع السفر وفي ظل مواد قانون شنيعة واعتقالات تعسفية وحجب المواقع الالكترونية للمنظمات العاملة في هذا المجال، إضافة إلى منع أي نشاط ذا طابع جماهيري، وعدم السماح بالتواصل مع الآخرين، كيف تريدون نتائج العمل أن تكون؟ ولا يسمح لنا بزيارة السجون أو بفتح حسابات في البنوك، كيف ستقيمون عملنا”.
اقتصر دور منظمات المجتمع المدني الآن على مجرد وسيط إعلامي ينقل ما يحدث دون تبيان السبب حتى، وللأسف تراجعت دور المنظمات في الداخل لصالح اليأس والخوف وعدم الجدوى من العمل، لذلك يرفض القربي تحميل المسؤولية للقائمين على أمر المجتمع المدني: “هل نقول دعاة المجتمع المدني يتصفون بالتناقضات والصراعات والانشقاقات، أم ننظر إلى ما تفعله السلطة وما تزرعه في العقول وكيف تحاول تشويه صورتنا؟”
هل يُتهم المجتمع المدني بالتقصير لأنه غير مسموح لهم بالعمل أم لأنهم فشلوا في مدّ جسور الثقة مع الشارع؟ هذا هو السؤال المطروح حالياً، ولا يوجد إجابة له، فإذا كانت عائلة مهند الحسني قد اعتبرت حذف اسمه من النقابة عملاً جيداً ورفضت دفاع منظمة حقوق الإنسان عنه وكذلك عائلة القبطان السوري سامر الذين طالبوا بعدم إصدار بيان يشرح حالته و بألا يقوم أي طرف من غير الحكومة بأي إجراء، فهل يتحّمل القربي أو معتوق المسؤولية في ذلك؟
وفي حال اعتقل صحفي وحوّل إلى المحكمة، وهناك بدأ يصرخ بأن يخرج نشطاء حقوق الإنسان خارج القاعة وطالبهم بعدم الدفاع عنه: ( لولا ما تكلمتم أنتم جماعة حقوق الإنسان كان الإفراج مصيرنا) هل تكون المنظمات قّصرت بحق من تنتهك حقوقهم؟ أم أنّ المسؤول الحقيقي هو النظام الأمني..ولا مجال للشك في حقيقية ذلك.
يعزو القربي سبب تراجع الأداء لمنظمات حقوق الإنسان إلى الظرف الأمني، كما حدث في قضية اعتقال الصحفي معن عاقل: ” حملنا المسؤولية لقانون المطبوعات وخرجنا إلى الفضائيات العربية الأجنبية وقلنا لو حول إلى محكمة سنكون أول من ينصر ويدافع وليس بمقدورنا فعل أكثر، نعم نحن مقصّرون والذي لديه اقتراحات فليتفضل، كلنا آذان صاغية، هل نعتصم في الشارع لنصبح حركة جنونية؟”
وهنا ننوهّ لاقتراح أحدهم: قبل مطالبة القربي وغيره من جماعة حقوق الإنسان بالدفاع عن معتقل ما يجب أن يؤمن هو بقضيته، هو وزملائه، فالصحفيين الذين هاجموا منظمات حقوقية بعدم دفاعها عن الصحفي عاقل، هم نفسهم قاموا بتدمير أرشيفه الموضوع إلكترونياً في جريدة الثورة، مكان عمله! وهم من آجر فيه وبسيرته الشخصية والمهنية.
إنّ المشكلة تبدو أكبر من كل ما سبق..المشكلة الحقيقية فيما يشير إليه خليل معتوق بأنّه في ظلّ القبضة الأمنية تظهر “أوساخُ” كثيرة في ميدان العمل المدني، ولا نرى إلا فلاناً يخوّن فلاناً ونسمع عن جمعية تعمل ضد أخرى، فكانت الصراعات والخلافات هي أدوات العمل وبيئته وكان لتلك الخلافات آثار سلبية مسّت صلب عمل المنظمات المدنية الذي لم يعد واضحاً وبالكاد جهوده تذكر.
كأن يقتل سوري في لبنان دون احتجاج من أي جهة فلا يصدر بيان واحد، ويغتال رجل أمن في أحد الجوامع بحمص فلا ترى من يندد بتصريح واحد، ومنها منظمات حقوق إنسان..فلا يوجد أي اعتراض من جانبها، أليس صلب عملها رصد الانتهاكات! بالأمس اعتقل مواطن سوري يدعى خلف محمد الملقب “بالجربوع” ماذا فعلت المنظمات؟ لا شيء.. فقط يصدرون بياناً بشأن استعادة الجولان ورفض قرار الضم، (طبعاً لسنا ضدّ ذلك ولكن هل هذا أولويتهم) وكذلك بالنسبة للمصور علي طه المعتقل، هل عرفوا خلفية اعتقاله؟
يعتقد معتوق أنه في الآونة الأخيرة باتت المنظمات لا تتوانى عن المشاركة في تلفيق الاتهامات، كما حدث مع الصحفي معن عاقل واتهامه بجناية وروّجت منظمات حقوقية للتهمة.
تعيش جمعيات حقوق الإنسان منذ تأسيسها واقعاً مأساوياً ونشهد باستمرار انشقاق منظمة جديدة عن أخرى موجودة وتحمل ذات أهدافها، عدا عن المحسوبية كصفة تصبغ نشاط بعض منها، فناشطون كثر يدخلون فيها للبروظة ويسعون إلى الحصول على امتيازات السفر، وحادثة سفر الناشط نضال درويش نائب رئيس لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان إلى جنيف لحضور مؤتمر بدعوى من إحدى المعاهد وطلبه اللجوء هناك الأمر الذي منع المعهد من التعامل مع ناشطين سوريين، وكذلك مغادرة الناشط مسعود كاسو إلى لندن دون الرجوع إلى سوريا.
شاب العمل المدني مظاهر شاذة مثله مثل أي قطاع آخر في البلد تماماً، حتى أصبح عملها لا يقدم ولا يؤخر لدرجة أنّ البعض أرسل زوجته للسفر والسياحة، والبعض يجمع أبناء بلدته حوله، فتجد غالبية الأعضاء من محافظة واحدة، لأنها بنيت على أساس مناطقي فإذا كان رئيس مجلس الإدارة من “طرطوس ” مثلاً ترى أكثر الأعضاء من هناك.. كما أنها قامت على خلفية مؤسسيها السياسية، فخلط بذلك بين العمل المدني الحقوقي والعمل السياسي، مما ألحق الأذى بالنشاط المدني بناءً عليه، ويطالب معتوق بإعادة النظر بدور منظمات حقوق الإنسان وضرورة معالجة نفسها بموضوعية بهدف الإيمان بالعمل المدني بعيداً عن الامتيازات أو الأرباح؟ يقول: أنا كمحامي رافعتُ عن أحد الإسلاميين المتشددين وعندما سأل أحد القضاة المتهم: لماذا تريد أن تذهب إلى أفغانستان فقال:(إني سأفعل كذا وكذا.. بأخت المسيحيين الأمريكان!).
لا يمكن أخذ كلام أ. معتوق على محمل الجدّ خاصة بعد إنكار الدكتور القربي وجود انتهازيين ومستفيدين، ويرى من موقعه كرئيس منظمة تمثل صلب العمل المدني الصحيح بأن دعاة المدنية أيضاً هم شخصيات مثل رياض سيف و د. كمال اللبواني وحبيب صالح وفاتح جاموس قضوا عمرهم في السجن، ويسأل عن شكل الاستفادة هنا؟ فإذا كان القربي يزور فروع الأمن أكثر من الذهاب إلى وظيفته، فأين أوجه “البروظة” واستغلال صفة النشاط المدني وجميعهم أشخاص لوحقوا واعتقلوا”.
يستنكر القربي ما يسمعه عن تهم تلاحق النشطاء بأنهم يسعون للانضمام إلى صفوف المنظمات طلباً لأي امتياز كان، يقول:” أعطني شخصاً واحداً من ناشطي حقوق الإنسان سافر خلال هذه السنة للمشاركة في نشاط ما..طبعاً عدا حضور مؤتمر برتوكولي، أي حديث خلاف ذلك فهو يصدر عن شخص لا يمت لعمل منظمات حقوق الإنسان بصلة”.
ويرفض المحامي محمد خليل عضو في منظمة “داد” الحديث عن امتيازات من أي نوع كان حصلوا عليها جراء العمل في الشأن المدني والحقوقي: “نحن حولنا مكاتبنا إلى مقر للعمل وتقريباً عشرات الأعضاء من الناشطين الأكراد بما فيهم القيادات(سليمان أوسو ومشعل التمو ومحمد موسى) ممنوعين من السفر فعن أي امتيازات تتحدثون؟.
وفي هذا السياق يقترح عليّ أحد النشطاء سؤال القربي عن سبب زياراته المتكررة لفروع الأمن! بدوري سألت الأخير وجوابه: كنا قد طرحنا حواراً مع السلطة وجاهزون للحوار معها!
في الضفة الأخرى..يوجد من يرفض المساس بخلفية عمل المنظمات غير الحكومية أو التشكيك بنزاهة النتائج المتمخضة عنه، تقول زكزك: ” كنا أول من طالب مجلس الشعب بتعديل قانون الجمعيات، ورفعنا مذكرة إلى القصر الجمهوري لتغيير قانون الجنسية وهذا القصر أرسل مذكرة إلى وزارة العدل لبيان الرأي بناءً على طلبنا، وعندما نظمنا حملة الجنسية تواصلنا مع عشرات النساء المتضررات والمحرومات من كل أشكال الضمان بما فيها قسيمة المازوت واستطعنا كسب ثقة النساء السوريات، وزعنا مئات النسخ من اتفاقية السيداو التي صادقت الحكومة عليها في (2003) بناء على رغبتنا، ثم عملنا على رفع التحفظات وعرضناها على لجنة دينية (د. محمد حبش)، كنا بمثابة حكومة كاملة.
وفيما يتعلق بنتائج عمل الرابطة توضح: “نعمل الآن لإعداد مسودة قانون أحوال شخصية وطني، ولم نتفق بعد على صيغة محددة، لقد واجهتنا مشكلات وصعوبات ولا يعني بأننا لا نريد أن نعمل “كما نتهم” المسألة ليست كبسة زر..والسؤال: هل نغيّر أجزاء من القانون النافذ؟ أم نحتاج إلى قانون جديد برمته؟ البعض ينادي بقانون مدني وآخرون يريدونه وطنياً، لا نعرف بالضبط أين نبدأ وكيف نبدأ؟ وهذه إشكالية بحد ذاتها فكيف من الممكن اتهامنا بالتقصير وسط كل ما سبق؟
وتعترف رسلان في معرض حديثها عن واقع عمل جمعية المبادرة أنهم ـ للأسف ـ دعيوا كمجتمع مدني إلى تشاركية وهمية، فلم تشرك وزارة الشؤون سوى الجمعيات الخيرية والدينية ذات التوجه المتطرف: “ينظرون إلى التنمية الاجتماعية بأنّ المواطن ليس بحاجة إلا إلى المسكن والمشرب، بينما المشكلات الحقيقية في البلاد لا يريدون تسليط الضوء عليها”
وتتساءل: “في وزارة الشؤون الاجتماعية ينظمون مؤتمراً لبحث آليات الحدّ من عمالة الأطفال دون أي رصد للظاهرة، أو إجراء بحث عنها، ويأتون إلى الإعلام ليقولوا لدينا مشكلة في الإحصاءات والبيانات، في حين نحتاج إلى عشرات الموافقات من مجلس الوزراء حتى مختار الحيّ لإجراء استطلاع رأي..أو تنظيم استبيان”.
وتتفق رسلان ورأي غيرها بأنه لم يجر أي تغيير على قوانين المرأة، إنها بروظة أمام الدول المتقدمة لاسيما الاتحاد الأوربي، وتوضح: إذا كان وزير العدل قد قال لنا بالحرف الواحد: لا نريد في سوريا قانوناً مدنياً؟!
نظمت جمعية المبادرة الاجتماعية قبل تحولها البائس إلى لجنة بازاراً في فندق المريديان بدمشق جمعوا فيه مليون و100ألف ليرة سورية أرسلت لدعم الانتفاضة الثانية في العام 2002، كما اعتصموا في العام 2003 لمناهضة احتلال العراق، ونشطوا في كل التظاهرات والمسيرات التضامنية مع الشعب العراقي، وكل لهم صدى واسعاً في أنحاء العالم العربي كما تقول رسلان..الصدى الذي لم يعجب أحد في الداخل فتم لجمه..
فيما يرى البعض أنه بالإمكان لعب دور مختلف والاستفادة من نقاط قوة وإيجابية المناخ العام كما فعل مرصد نساء سوريا الذي لعب دوراً أساسياً في تجربته الأولى مع الحملات، فتمكن من نقل النقاش الذي كان دائراً في أواسط 2005 حول قانون الجمعيات السوري، نقله إلى المستوى الوطني، الأمر الذي نجم عنه حراك واسع النطاق في وقتها، وخلص إلى عدة نتائج كان أهمها ظهور مشروعين مدنيين بديلين لقانون الجمعيات الحالي.
لتعود كفتارو مجدداً وتمسك العصا من منتصفها:” فقدنا ثقة الشارع ولا نتمتع بالمصداقية لأنه (مبارح بدأنا) وتحدثّنا من أجل تغيير القوانين ويداً واحدة لا نصفق نحن نحتاج إلى دعم الهيئات والسلطات، إذا السلطة لا تريد أن تغيّر قانون الجمعيات هل نحاسب على ممارساتها؟
بأي حال، توّصل البعض من العاملين في المجتمع المدني إلى عمل واضح وبقي البعض الآخر لا يشكل أكثر من أسماء وهمية، وفي كل الأحوال يجب أن ندقق بأنّ المجتمع المدني ليس قوى معارضة أنه داعم لسياسات الحكومة التنموية، فالمجتمع المدني مثلاً هو الذي نظفّ مجرى نهر بردى مع أنه عمل مناط برئيس البلدية أو المحافظة ومن هنا يتوجب على الأطراف كافة أن تنطلق، إذا ما أرادت رفض قناعة مفادها: منظمات المجتمع المدني تبحث عن إبرة في كومة القش.
تمويل منظمات المجتمع المدني.. معاناة من تهمة التخوين
التمويل:
يمكن التعاطف مع دعاة المجتمع المدني بنقطة وحيدة تتعلق بغياب التمويل، والاتفاق مع أي منهم حيال عدم وجود جهة تموّل عملهم ونشاطهم، وربما بعد قليل سأوافق على مضض أنّ قلة الإمكانات ونقص التمويل عقبة كبيرة تجثم فوق صدر المنظمات وتحول دون نشاط حقيقي وفّعال، ويذهب د. عمار إلى وصف العمل الحالي بالتافه والهزيل لأنه غير مموّل:” ما هو الطابع (الفلوسي) لعملنا، يقولون بأننا نموّل من السفارات الأجنبية وما شابه، أين مظاهر التمويل؟ هل أقمنا حفلة في صالة (عالبال) وهل حجزنا في نادي الصحفيين ووزعنا الحقائب (لا نملك ثمن طباعة بطاقات شخصية، طبعها لنا أحدهم..قبلنا الأيادي من أجل ترجمة تقرير حتى لجئنا لأصدقائنا في الدول العربية وترجمته فصارت الناس تبصق علينا). لا يوجد عندنا مكتب، فنجتمع في مقهى الهافانا، حتى في المنزل لا يمكننا الاجتماع خوفاً من مشكلات، كما حدث مع أحد الناشطين عندما اتهمته فتاة بالتحرش الجنسي..
بالمناسبة، ما الذي فعله ممن لديه تمويل؟ هل نددّ مرصد نساء سوريا ـ مثلاً ـ باعتقال السيدة فداء الحوراني، أليست امرأة؟ ( يتساءل القربي باستغراب رافضاً كل ما يقال عن وجود تمويل للمنظمة الوطنية لحقوق الإنسان من أي جهة كانت).
وهو حال مرصد نساء سوريا الذي يقوم على جمع التبرعات من المتطوعين بعيداً عن أي تمويل من أحد بل أنّ إدارته ترفض أن يمول عملهم، ويبرر مديره ذلك بالقول: ” العمل المدني يجب ألا يمّول من أحد وألا يعمل بإمرة أحد هناك من عرض علينا تمويل ورفضنا وفضلنا العمل بأدوات بسيطة وغرفة صغيرة لأن الاستقلالية في العمل هي الأساس”.
فيما يعتقد آخر بعدم إمكانية استمرارية عمل نساء سوريا كمرصد حرّ، وفق هذه العقلية وإلا لما بدأ بفتح باب الإعلان الداعم، واللافت للنظر تغيير إدارته بعض نقاط كانت أساسية في عمله ولخصها بالتالي: بعد خمسة سنين من العمل التطوعي بدون أي دعم مالي من أي نوع، رفع مرصد نساء سورية الراية البيضاء جزئيا بفتح باب الإعلانات، وإن كان قد حاول تلطيف الجو قليلا بتسميتها الإعلانات الداعمة. لكن ذلك عبر بوضوح عن عمق الأزمة المالية.
وأعاد تأكيد ما كان قد قاله قبل خمس سنوات من أن التمويل لا يعني تبعية المنظمة تلقائيا. فما دامت هناك شفافية وعلنية لا توجد مشكلة في التمويل.
علماً أنّه لا يتمسك أي من أصحاب المنظمات بسرية التمويل، إن وجد..
موّلت السيدة أسماء جمعية المبادرة الاجتماعية بفتح رصيد في أحد البنوك وبعد حلّ الجمعية استمرت بجهد ودعم أفرادها، وتنوه رسلان بأنها ليست صنيعة جهة ما ولا يمول نشاطها المتراجع أصلاً.
وتتهم وزارة العمل رابطة النساء السوريات بالحصول على تمويل من الحزب الشيوعي السوري والعمل تحت مظلته، دون وجود نشاط هام ويحسب للرابطة، بينما تنفي زكزك (سكرتارية الحزب) التهم ” لم نستفد قرشاً واحداً من الحزب؟ ولو وجدت استفادة، لماذا لم نرخص حتى اللحظة، تمويلنا ليس منه إنما من الحفلات والتبرعات..
ويوجد خلاف بين الرابطة والحزب الشيوعي حول آليات العمل في الرابطة وأهدافها، ترى سياسة الحزب أنه ممنوع عليهم الحديث في السياسة ونقد النظام الحاكم أو الحديث عن سياساته ويميل بعض الشيوعيين إلى تحويل الرابطة إلى منظمة تعمل بإمرة الحزب وهي نقطة الخلاف الرئيسة مع الحزب والبعض يقول أنه يجب أن تحافظ الرابطة على طابعها المدني باستقلاليتها التامة”.
للسلطة حسابات خاصة فهي تتحكم من خلال المال بمسار عمل الجمعيات المدنية، هذا مشروع السلطة، كما يصفه مسؤول في منظمة حقوقية، ويبقى للمنظمة حقّ تقرير مصيرها،إما الدعم مع الرضوخ لسياسات الحكومة، وإما الاستقلالية..
هذا حال المنظمات غير الحكومية في سوريا كلما تنجو من عقبة تواجهها أخرى أكثر قسوة، فلو هي رخصّت وقوننت نشاطها، نجدها تغرق في صراعات وخلافات بين أعضاءها أو تواجه مشكلات مع السلطات الحاكمة، وإن نجت من تلك المحرقة وقعت في محرقة جديدة تتمثل في نقص الإمكانات المادية لتقضي الجمعية وقتها بحلّ أزماتها المتلاحقة وليس في خدمة الصالح العام، وتبذل جهدها في كسب معركة الإقصاء الموجهة ضدها وليس في ترجمة تطلعاتها وأهدافها العملية..
إنّ نشاط منظمات المجتمع المدني لا يثمر شيئاً لصالح المجتمع، فقد سرّ لي رجل دين من ريف حماه مرة بأنّهم قرروا مقاطعة لجنة من لجان العمل المدني لتنظيمها استبيان حول(أولويات تغيير القوانين) أساءت بعض أسئلته للمعتقد الديني، متهماً عملهم بالمنحّط وعرفت منه أنّها لجنة المبادرة الاجتماعية، التي لم تأخذ البحث على محمل الجدّ وحملت المسؤولية فيه للباحث الذي استخلص نتائج الاستطلاع، (د. كريم أبو حلاوة) والنتيجة الوحيدة هي كما نراها: المزيد من التعنت في مواد القانون، وفصول جديدة من الجهل المجتمعي تجاه المرأة وحقوقها.
وبالأمس نظمت لجنة دعم قضايا المرأة بحثاً لسبر واقع المرأة المطلقة في سوريا(قانونياً ـ اجتماعياً ـ إنسانياً) لم يجرؤ أصحابه على نشر نتائجه ومناقشتها لأنه لا يمكن أن تتصف بالدقة ـ على حد قولهم ـ وقد أجريت في ظل غياب الدعم والتمويل، بينما يصف رئيس أحد منظمات المجتمع المدني عملهم بعدم موضوعيته واحتوائه نقاط ضعف متعددّة علماً أنها ليست المرة الأولى التي يفشل فيها بحث اللجنة(العنف الأسري) ليؤكد مجدداً ترهل وضياع ما تقّدم عليه تلك اللجان وعلى رأسها من أثبتوا فعلاً جدارة في العمل ومصداقية في الطرح، حتى هؤلاء بالإمكان توجيه لهم أكثر من تساؤل حيال أهمية عملهم إذا ما قورن بمدى انسجامه مع احتياجات المجتمع ورغبات الشارع.
عملهم الذي يجهله إلى الآن معظمنا، وقبل أسبوع سألني أحد الصحفيين عن أهداف “مرصد نساء سوريا” وإن كانوا ينشرون في موقعهم أخباراً اقتصادية وتحليلات سياسية، وهم الذين أعلنوا منذ لا يقل عن خمس سنوات الخطوط العريضة لسياستهم بالدفاع عن حقوق المرأة واختصوا بقضاياها فقط! لذا قد نلمس شيئاً من الصحة في كلام معتوق عن أنّ البعض عمله واضح والبعض الآخر ليس إلا أسماء وهمية لم يسمع بهم أحد.
طالت الانتقادات ناشطي المجتمع المدني بكل أطيافه، وهناك من سارع إلى صبّ جام غضبه على نشاطهم في أكثر من مناسبة، وعلت ضدهم أصوات منددة، وكان أقسى نقد وجه لهم أنه لم يحدث أدنى تغيير في قوانين المرأة بما فيها اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضدّ المرأة “سيداو” التي صادقت عليها الحكومة في 3003 وما لبثت أن أفرغت من مضامينها، تقول د. الرحبي:” توقيع سورية على اتفاقية السيداو يلزم الدولة الموقعة بتغيير قوانينها وأنظمتها النافذة بما يتناسب مع الاتفاقية، ولكن عندما تتحفظ سورية على المادة الثانية من الاتفاقية والتي تتضمن (تجسيد مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الدساتير الوطنية والتشريعات والقوانين، وضمان الحماية القانونية لها من أي فعل تمييزي يصدر عن منظمة أو مؤسسة أو شخص، والعمل على تبديل القوانين والأنظمة والأعراف بما يتناسب مع ذلك) تكون قد أفرغت الاتفاقية من مضمونها، كما لم تجر الموائمة بين مواد الاتفاقية غير المتحفظ عليها والقوانين التي لا تتوافق معها.
الإقرار بعدم إحراز تقدم ما أمر يبعث في النفس القلق والتشاؤم في كلّ مرة، فلا الجمعيات العاملة في حقوق المرأة استطاعت تحسين وضع المرأة السورية ولا منظمات حقوق الإنسان دفعوا باتجاه إرساء دعائم الدولة الحديثة كما جاء في وثيقة التأسيس، ولا يمكن إلقاء لؤم على أي طرف، فكفتارو تبرر:(إذا وزيرة العمل تصّرح رسمياً بأنه ليس هناك عنف ضد المرأة في سورية فكيف سترخص لجمعيات تعمل من مجال حقوق المرأة) بصراحة سياسة وزارة الشؤون لا تتناسب مع الدين ولا روح الدين ولا مع رؤى السيد الرئيس والسيدة عقيلتهُ).
لكن ما الذي فعلته المنظمات والجمعيات التي حصلت على ترخيص، بل هي فشلت على صعيد تحقيق فعالية رغم أعدادها” هذا ما يقوله القاضي ويصّرح به على الدوام لنعود بعد ذلك إلى نقطة الخلاف الحقيقية.. الخلاف العتيق بين أصحاب الجمعيات..نعم، قانون الجمعيات معيق، إنما مسؤولية ترهل بنية المؤسسة المدنية وتراجع عملها ودورها يتحمله دعاة المجتمع المدني أكثر من السلطات، فالأخيرة لا ترخص العمل ولا تعترف به صحيحاً،
هناك من ينهي الخلاف على طريقته، فرسلان ترى بأنه يوجد دائماً من يقف في وجه السياسة الخاطئة، كما في المعركة الأخيرة التي خلقت إثر المسودة الأولى من قانون الأحوال: ” الحراك الحقيقي صنعه المدنيون النخبويّون ورجال الدين المسيحي، كنا في خندق واحد، النسخة الأولى من القانون كانت ضدّ المسلمين العلمانيين فأسقطوه وفي المسودة الثانية تصدى لهم الطوائف المسيحية”
ليس في كلّ مرة تنجح النخبة المثقفة في دحض مشروعات لا تأتي في صالح المجتمع، من وجهة نظرة دعاته ومثقفيه ورواده، وليس صحيحاً بأنّ الشرائح النخبوية التي تنتسب إلى المجتمع المدني تجعله أكثر أهمية، فماذا استطاعت “جمعية أصدقاء دمشق” أن تفعل حيال طرح الجهة الغربية من ضريح صلاح الدين للاستثمار، ماذا بوسعها فعله تجاه تحول الأوابد التاريخية والأثرية إلى فنادق ونزل سياحية، سوى الإذعان إلى سياسات عليا..ألم تضم الجمعية نخبة من المثقفين وينتسب إليها شريحة واسعة من المستقلين والمهتمين بالشأن العام، لا يعني ذاك شيئاً أمام جبروت القيادة..
في أشد المواقف تطرفاً ربما لا يفسد الخلاف في الموقف والتعدد في الرأي للود قضية، إلا في حالة المجتمع المدني في سوريا.. يقف بعض دعاة هذا المجتمع ليعلنوا أنهم هم دون غيرهم من يملك الحقيقة وكيفية الوصول إليها وهو أمر يعتقد د. طيب تيزيني في كتابه ” من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني أنه يحمل وشم الهزال المعرفي والانحطاط الثقافي والأخلاقي..فعلاً إنه انحطاط.. فقط تسمع من يّخون زميل له ناشط في الميدان نفسه بعد أن يجلسا معاً لساعات يتبادلان أطراف الحديث، وأكثر من يعاني من تهمة التخوين نشطاء حقوق الإنسان، تلاحقهم في كل حديث يفتح عن خلفية نشاطهم وممارساتهم لدرجة قد تدفع بعضهم بالانسحاب كما فعل الناشط دانيال سعود في رفضه الحديث عن أجواء متوترة ومكهربة على حدّ تعبيره.. وأما تدفعهم إلى الجلوس في المنازل بعيداً عن الأجواء المسمومة، وهو الاستحقاق الأخير المتوفر حالياً أمام الدكتور القربي: “كل يوم نسمع بمن يخوننا ويصفنا بالعمالة، أعطيك مثالاً: المحامي محمد رعدون يمتلك بوصلة جيدة وهو متحدّث بارع وممتاز عندما تكلم بجرأة قيل عنه: رعدون محمي والأمن يسمح له وعندما صرح على فضائية الجزيرة: أن هذه الدولة بنت كلب ولا تحترم نفسها والذي هرب من البلد عليه ألا يأتي فسيعتقل من على الحدود، قيل عنه بالحرف الواحد: (ما بيفهم ما يقول.. هل فقد عقله، كأنه يقول للأمن تعالوا واعتقلوني!).
يعيش دعاة المدنية في محرقة من الداخل والخارج، لو ذهبوا إلى المعتقل سيكونون في قمة الغباء ولو بقوا على حالهم يصبحون في ذروة العمالة ما الحل؟ يسأل القربي: ” في أحد المرات قلنا لفاتح جاموس أول خروجه بعد سبع عشرة سنة حدثنا عن طرفة حدثت معك في السجن: (قال أنه مرة سجنوه مع مجموعة من الإخوان المسلمين كنوع من العقوبة المضاعفة وكانوا يتكلمون مع بعض بالسياسة عندما أكون نائماًُ وعندما أصحو يسكتون! فتصوري هذا العقل هم سجناء وهو كذلك ولم يأخذ سكّ البراءة منهم).
بالله عليكم: هل يحاسب دعاتنا على نتائج عملهم وواقعهم وإشكالاته في ظلّ تلك الأجواء؟ هل نحاسبهم في وقت تسعى فيه السلطة باستمرار إلى تشويه صورة القائمين عليه برشقهم بأقسى التهم في مقدمتها: التخوين..
والمضحك في ما قاله صحفي بهذا الصدد: لا أريد العمل مع جمعية(فلان) فهم مفضوحين علناً! يوجد هناك من يبني علاقات مع الأمن ضمن الحدود!
إنما المبكي في أن تعشش الاتهامات عقلية دعاتنا أنفسهم فيتولون بذاتهم عملية إلصاق التهم والتشكيك بنزاهة بعضهم البعض، ونراهم يتعاملون معها خلافاً لأول مرة سمعوا بها تهماً جاءت على لسان وزير الإعلام الأسبق عدنان عمران التي طالت ناشطون في لجان إحياء المجتمع المدني بوصفهم:( هؤلاء مرتبطون وموّجهون من السفارات الأجنبية)، فتتالت المقالات القاسية ضده على صفحات النهار اللبنانية، أما الآن أخذت التهم قسطاً لا بأس به من وقت الدعاة الجدد وتحولت إلى شغلهم الشاغل، فالذي يسافر إلى جنيف (مثلاً) لأي نشاط كان هو محمي ومرضي عنه من جهات عليا! والذي تغدق عليه وسائل الإعلام العربية منها والأجنبية فهو بلا شك ورقة رابحة بيد دوائر الأمن! ومن يدافع عن صديق له معتقل يطالب بإحالته إلى القضاء لتبدأ عملية تراشق تهم مخجلة، مهندسها برأي أ. محمد خليل قوى الأمن التي تلجأ لإرهاب الداخل إما بالردع العام أو الخاص.
· جزأرة سورية
لابد أن نذّكر أننا نعيش مطلع ألفية جديدة، ننتقل إليها بعقلية قديمة ونحمل أرثاً مفعماً بالفساد قّوض دعائم الدولة السورية الحديثة، يكون فيها المجتمع المدني أحد أركانها، وغاب الحراك المجتمعي كضرورة لابد منها لدعم سلطة هذه الدولة بمراقبة أداء أجهزتها، والتعبير عن رأيه “الحراك المجتمعي” بكل الوسائل المشروعة في الدولة الديمقراطية التعددية، ربما الآن لم يعد بالإمكان صنع حراك على أي صعيد كان، وقد نترحم على أيام مضت، ونتنهد من الأعماق، ونضطر آسفين إلى إجراء مقارنة صعبة، مع ما تحدّث به السياسي مروان حبش، أحد قدامى البعثيين، حول تحرك حزب البعث العربي الاشتراكي – الحزب الأكثر انتشاراً في سورية- وجماهيره في الأول من حزيران 1956 في شوارع دمشق احتجاجاً على اتفاقية لتصدير القمح السوري إلى فرنسا أبّان حرب التحرير الجزائرية، وأدى هذا التحرك إلى تقديم فارس الخوري استقالة وزارته وإلغاء الاتفاقية..أين نحن من هذا كله؟
السؤال الأخير: لو نظرنا بعمق وأمانة إلى المراحل التي عاشتها لجان إحياء المدنية خلال عشر سنوات مضت وبالمقارنة والخطوط العريضة لسياسات السلطة وبحثنا في مفردات خطابها الإعلامي، بالكاد نتلمس خطوة جادة تسير باتجاه إرساء الدولة المدنية يتجسد بتبني خطاباً حداثوياً ديمقراطياً، كما أراده الدعاة، بل سنحصل على وثيقة مخيفة تسربت من مكتب الإعداد والتثقيف الحزبي في حزب البعث حول الموافقة المبدئية على وجود جماعة دينية تنبذ كل ما يطرح من تنوير.
وبالتالي من الصعوبة بمكان الحديث عن صيغة طرحت لتكريس توجه مدني، حتى في أكثر المواقف بدت فيها السلطة جادة في رغبتها بالانفتاح على الآخر بكل حيثياته.
كنا نسمع على لسان نائب الرئيس السابق عبد الحليم خدام برؤية مناقضة تماماً: أليست لدينا مؤسسات وطنية؟ نعم لدينا.. أليس عندنا نقابات؟ نعم عندنا.. البعثيون هم المسيطرون عليها والأكثرية فيها هذا صحيح.. فهل المطلوب من القيادة أن تفصل مليون ونصف المليون من أعضائه المليونين حتى يكون هناك مجتمعاً مدنياً؟ لن نسمح ” بجزأرة” سوريا، هذا بالضبط ما أرادت السلطة إيصاله في وقت تجاوز فيه النشاط المدني خطوات جريئة، اعتبرتها القيادة السياسية استهداف بلد ومحاولة تجزئة! وهي خلافاً لذلك تماماً.
ليقفز التساؤل مجدداً: لماذا تهاب السلطات السورية رؤية بسيطة عبرّ عنها مجموعة لا تتجاوز عشرين ناشطاً أو أكثر بقليل؟ وهي التي قالت وقتئذ وعلى لسان كبار مسؤوليها: لن نسمح بنسف ما هو قائم لأنه لا يملك أحد البديل ولا يملك أحد القدرة على النسف، إذن لماذا تلاحق من ليس لديه القدرة وهي تعرف ذلك حق المعرفة!! وكيف تحارب من لا يملك البديل الحقيقي؟ وهي تعتقد أنّه من المستحيل أن يشكل بضعة مثقفون مجتمعاً مدنياً؟ لماذا خافت ممن أراد حواراً بعد صمت مرعب وتغييراً سلمياً في مرحلة دعت هي للتغيير، فراحت تعمل بكل ما أوتيت من قوة على وأده، وتعاملت مع الطرح كعودة مبطنة إلى عهد الانقلابات!
حتماً يجوز لنا القول أن مثقفينا..دعاتنا.. تورطوا بحكاية المجتمع المدني هذه! لدرجة باتوا معها يعرفون اللعبة ويكرهونها فمنهم من رفع رايته البيضاء ومنهم من قرر المشاركة في حياكتها فترسّم مشهداً مليئاً بالتناقض لأنّ الجميع يعمل والجميع يتهم، ولا نعرف أهمية العمل ولا مصدر التهم.. لذا لا يسعنا إلا أن نوّجه لدعاة المدنية في سوريا نصيحة ألياس مرقص: كفاكم ممارسة السياسة حرباً.
المؤكد أنّ السوريين لو رموا وراء ظهورهم كل تلك الشعارات الزائفة، التي سمعوها ويسمعونها الآن، لتمكنوا من العيش الكريم في بلد عادي.