محمد الهلالي : انحطاط المفاهيم
لم يكن جيل دولوز فيلسوفا كباقي الفلاسفة الآخرين، لأن حياته كانت تجسيدا لحرية الفكر والتزام المثقف، ولذلك وصف ميشيل فوكو القرن العشرين بأنه “دولوزي”، نسبة إلى الأثر الذي تركه دولوز في الفكر البشري.
تولد المفاهيم وتموت مثل البشر، أي أنها لا تلتقط في الأزقة خلافا لما كان بعض البلاغيين العرب يقولونه عن المعاني، لأن ذلك سيعني الجمود والتكرار وانعدام تقدم المعرفة. بل إن أحد كبار فلاسفة القرن العشرين استخلص في آخر حياته الفكرية أن صناعة المفاهيم هي من اختصاص الفلسفة. لذلك وضع حدا فاصلا بين الكلمات العامة الفضفاضة التي لا تقول أي شيء في الوقت الذي تدعي فيه أنها تقول كل شيء من جهة، والمفاهيم الغنية بمضامينها الجديدة وإحالاتها المتعددة وبدورها الريادي في اقتحام المجهول ومقارعة الموجود من جهة أخرى. ولقد شن جيل دولوز جام غضبه على مجموعة من المثقفين الفرنسيين الذين يتعاطون للفلسفة كنوع من الخطابة أو الجدل العمومي والذين أصبحوا يعرفون بالفلاسفة الجدد.
لم يكن جيل دولوز فيلسوفا كباقي الفلاسفة الآخرين، لأن حياته كانت تجسيدا لحرية الفكر والتزام المثقف، ولذلك وصف ميشيل فوكو القرن العشرين بأنه “دولوزي”، نسبة إلى الأثر الذي تركه دولوز في الفكر البشري.
وإذا عدنا إلى تاريخ الفلسفة سنرى أن مفهوم السياسة احتل قلب ومركز فلسفة سقراط وأفلاطون، وهو لم يكن موضوعا عموميا تمزقه الآراء والأهواء، بل كان مفهوما مركزيا سواء في محاورة “السياسي” أو “الجمهورية” أو “القوانين”. وكان يقترن بالانسجام والاعتدال وسيادة العقل والعدالة المنصفة.
وسيستمر هذا التقليد في الفلسفة إلى اليوم في الغرب، أي مرورا بأرسطو وحتى “جاك دريدا” في التفاتته الشهيرة إلى فكر “كارل ماركس” في مؤلفه “أشباح ماركس”، أي أطياف ماركس التي ستظل مرفرفة ومقلقة للعالم بأسره.
كانت الفلسفة هي مصدر المفاهيم والتصورات الكبرى في مجال الحقل السياسي، ولا يمكن التطرق لمفهوم السياسية أو الديمقراطية أو الحرية أو المشروعية أو العقد الاجتماعي أو العنف أو احتكار العنف المادي والرمزي أو الإجماع أو الحق والواجب أو التوتاليتارية… بدون الرجوع لمرجعية هذه المفاهيم الفلسفية أي لجون لوك وتوماس هوبز وباروخ سبينوزا وجون جاك روسو وحنا أرنت…
هذا فيما يخص الغرب، أما فيما يخصنا نحن مستهلكي السلع والمفاهيم، فإن هذه الأخيرة بمجرد ما تصل “سوق التداول الرمزي” تفقد أصالتها، ومرجعيتها، وتتعرض لمسخ عظيم ولتشويه أعظم، وهو ما ينتج عنه انحطاط لها يفقدها الفعالية والإجرائية والمصداقية.
يوجد منظور سلبي وسالب لكل معنى إيجابي كوني، وهو ليس خطأ في الفهم أو سوء تفاهم، وإنما هو “بنية مرجعية مستقبلة” تعكس عبر آليات إقصاء متعددة كل معنى أصيل يملك القدرة على الفعل في الفكر والواقع وتغييرهما وتوجيههما نحو وضع أفضل. ولهذه “البنية المرجعية المستقبلة” اسم وهو “الخصوصية”.
وتعني الخصوصية بكل بساطة أننا نملك فكرا جاهزا مكتملا صالحا، ولسنا بحاجة لأي فكر آخر رغم أننا نتخبط في أوحال فكرنا وفي عفن واقعنا ونزداد انغماسا في التخلف الروحي وتعفنا في العلاقات الاجتماعية، بالرغم من تزايد عدد العمارات الشاهقة وعدد السيارات الفخمة والمساكن البحرية الرائعة، نزداد تعفنا بمقياس الحضارة، أي أن الأرقام لا تعكس إلا هامشا مركزيا من نمط العيش المقلد والمؤقت.
فالديمقراطية عندنا لا تعني فصل السلط ولا تعني المساواة الفعلية في الحقوق والواجبات بين الحاكم والمحكوم، ولا تعني سيادة الإرادة العامة، ولا تعني سيادة الدستور، ولا تعني حتى وجود المواطن الذي عليه أن يكون متعلما تعلما مدنيا يجعله يعرف من هو المواطن…
والحرية لا تعني مجموعة الحقوق المتمفصلة مع الواجبات والتي تضمن للإنسان بغض النظر عن معتقداته الدينية وعرقه وجنسه ولونه ووظيفته الاجتماعية الكرامة والسلامة البدنية والحماية ضد جميع أنواع الانتهاكات…
وحقوق الإنسان لا تعني أن الإنسان هو نفسه في كل مكان، وأنه لا يمكن حرمان هذا الإنسان من أي حق من حقوق الإنسان لأنه ولد في باكستان أو في المغرب، أو لأنه وجد في مجتمع يدين بالمذهب الحنبلي أو المالكي…
إن “الخصوصية” هي مجرد غطاء إيديولوجي شديد التعقيد يعبر من جهة عن رفض المضامين الفعلية الكونية للديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، ويعبر من جهة ثانية على أن الشعب لا زال بعيدا كل البعد عن الوعي بذاته وبضرورة انتقاله إلى “المواطنة”، وأنه غارق في تقليدانية موروثة ويتم الحرص على إعادة إنتاج جزء كبير منها، ويعني من جهة ثالثة أن الدولة لا تعمل إلا على ضمان مصالح الفئة المتنفذة فيها، وأنها هي نفسها تقليدانية في آخر المطاف، بحيث أن مظاهر العصرنة لا تدل إلا على سطحية التحرر وشكلانية الحداثة، ويدل من جهة رابعة على أن المثقفين لا وجود لهم كالتزام حضاري ضد الخلف والعبث بالكرامة، وأن المشتغلين بحقل الفكر ليسوا إلا كتابا ومبدعين، بالمعنى الذاتي والنرجسي لهذين الصفتين…
وليس غريبا أن نجد مثلا الراحل عبد الكبير الخطيبي يتحول إلى الأدب، أي الشعر والرواية… في حين انحجب مكونه العلمي المشع الذي جعل منه صاحب “النقد المزدوج” و”الاسم العربي الجريح”… كما نجد أن المفكر الوحيد الذي يمكن وصفه بالاستراتيجي والمثقف، عبد الله العروي، قد انجذب، ولأسباب أخرى، إلى الرواية، لأنها المجال الوحيد الذي يعبر فيه عن “ذاتية موضوعية”، بما أن مجال منافسة الغرب في العلوم والفلسفة هو مجرد خيال أو وهم…
يتضح مما سبق أن الخصوصية هي البركة العكرة التي تدفن فيها المفاهيم الأساسية التي تعتبر أساس الممارسة الجيدة والسليمة، هذه الخصوصية التي تقتل كل فكر جديد أثبتت صلاحيته في مجالات وأماكن عدة.
محمدالهلالي : شاعر مغربي وزميل مشروع مشترك منذ مجلة” كراس ” وإلى الآن