نحن واليهود
من بين أهم مميزات عصرنا كونه عصر حروب امتلاك الخبر وهو الأمر الذي يعني أن الحرب بالوسائل التقليدية السياسية والعسكرية ترتكز على سلاح فتاك هو “امتلاك المعلومة” والسيطرة على إنتاجها وبثها. وخطورة هذا الأمر تكمن في أن المالكين لوسائل الإعلام يمكنهم عبر استراتيجيات طويلة المدى “صناعة العقول التي يريدون”.
في هذا السياق يمكن فهم شراء اليهودي روبرت مردوخ، الذي يعتبر من أكبر مالكي شبكات ووسائل الإعلامية التقليدية والمعاصرة، لما يقرب 10 في المائة من أسهم “روتانا” السعودية بمبلغ قدر بسبعين مليون دولار.
ومردوخ هذا يسيطر على 40 في المائة من الصحافة البريطانية من بينها “التايمز” و”الصن” مركزا على الجنس والفضائح وأخيار الفنانين وأخبار المجتمع المخملي، أي أخبار المترفين وليالي اللهو والبذخ. ويملك مردوخ 175 جريدة عبر العالم من بينها ” نيويورك بوست” و”ذو وول ستريت جورنال” الأمريكيتين. وهو مؤيد لإسرائيل إعلاميا واستثمارا، كما أن كل صحفه ومحطاته التلفزيونية دعمت غزو العراق وأيدت المحافظين الجدد.
وفي نفس الوقت تروج إسرائيل مشروعا يهدف إلى تهويد القدس الشرقية وإلحاق بعض مآثرها الإسلامية بالتراث اليهودي.
لقد فرضت المسألة اليهودية نفسها على المفكرين والسياسيين من مختلف الاتجاهات منذ زمن بعيد، مثل ماركس وسارتر وبلانشو. كما أن “المسألة اليهودية” كانت في قلب الصهيونية ولازمتها منذ البداية إلى الآن، فلا نجد صوتا قويا ينتمي لليهود يعادي فعلا إسرائيل، بل إن إسرائيل متماهية مع “اليهودية كمسألة تاريخية ودينية” ومرتكزة عليها، مما يجعل الفصل العملي بينهما أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا. بالرغم من ضرورة الفصل المنهجي بين اليهود كأفراد نادرين معاديين للصهيونية وبين الصهاينة الذين يدعمون إسرائيل، إلا أن هذا الأمر لا يغير شيئا من طبيعة المشكلة. فصلب الموضوع هو الهوية اليهودية في ارتباطها بالدين اليهودي واللغة والعبرية والوطن اليهودي الذي هو عند الصهيونية أرض إسرائيل من الفرات إلى النيل. كما أن الواقع يشهد أن اليهود التحقوا بدولة إسرائيل من كل أنحاء العالم، بما في ذلك من البلدان العربية الإسلامية، كما أن اليهود المقيمين في البلدان التي يحملون جنسيتها يؤيدون دولة إسرائيل. وأكبر دليل على ذلك مردوخ نفسه الذي يشكل قوة ضغط إعلامية تساهم في صناعة الأحداث السياسية، واللوبي الصهيوني في أمريكا والمنظمة الصهيونية الفرنسية المسماة “العصبة الدولية لمناهضة العنصرية ومعادة السامية”، والتي قامت بجرجرة الفيلسوف روجي غارودي المعتنق للإسلام في المحاكم بسبب كتابه “الأساطير المؤسسة للصهيونية” الذي يصحح فيه عدد اليهود ضحايا النازية ويتهم الصهيونية بالمبالغة في عدد الضحايا وتزوير الوثائق التاريخية.
لا يمكن التأريخ للصراع ما بين العرب واليهود انطلاقا من وعد بلفور واحتلال العصابات الصهيونية لأرض فلسطين، بل يمكن الرجوع إلى جذور هذا الصراع في “المدينة” إبان تأسيس الدولة الإسلامية ودور اليهود السلبي تجاه الإسلام كدين جديد نظروا إليه من منطلقات التوراة بحكم التشابه الكبير بين الدينين.
لا يواجه الفلسطينيون خصوصا والعرب والمسلمون عموما إسرائيل كدولة صغيرة مستوطنة ومغتصبة لأرض وحقوق شعب بأكمله باسم قراءة استعمارية للتاريخ، أساسها الحق في الأرض باسم الدين، بل يواجهون عصابات أخطبوطية لها امتدادات في جميع أنحاء العالم.
لن يستطيع العرب والمسلمون فك الصهيونية عن اليهودية. فلليهود تأثير كبير على المستوى العالمي، وهو تأثير إيجابي من ناحية البحث والاختراع والمعرفة، ولكنه سلبي بالنسبة لحقوق الشعب الفلسطيني حين ينخرط المفكرون اليهود واللوبيات اليهودية من مواقعهم للدفاع عن إسرائيل.
ويكفي أن ننظر إلى بعض المفكرين اليهود البارزين ليتبين حجمهم العددي والكيفي مقارنة بمفكري العالم، ولنعرف حجم النفوذ المالي والسياسي للمسالة اليهودية، وليتضح لنا ضعف “المسألة العربية”.
فمن بين المفكرين اليهود الذين أصبحوا جزءا من الثقافة العالمية ويدرسون في جميع مقرات العالم: ابن ميمون، سبينوزا، ماركس، هوسرل، فرويد، ليفناس، اينشتين، تروتسكي، إدغار موران، حنا أرنت، سارا كوفمان، كافكا، هرمان كوهن، ولتر بنيامين، مارتن بوبر، إرنست بلوخ، هانز جوناس، ليو ستراوس، برنار هنري ليفي، فينلينكروت، أندري شوراقي، هنري برغسون، ألبير كوهن، مونتيني، أوجين إيونيسكو، ألبير ميمي، أرتير ميللر، ألبرتو مورافيا، بوريس باسترناك، جورج بيريك، بروست، ترستان تزارا، بريخت، جورج لوكاش، إميل دوركايم، مارسيل موس، ليفي برول، كلود ليفي ستروس، جورج سيمل، نوربرت إلياس، تيودور أدورنو، ماكس هوركايمر…
قال سارتر: “اليهودي هو إتنولوجي تلقائيا”، أي أن لليهودي انطلاقا من ثقافته الخاصة مؤهلات لكي يصبح بارعا في مجال الدراسات الاجتماعية. وهو ما يعني أن هذا المجال برع في العديد من اليهود. فمؤسس علم الاجتماع هو إميل دوركايم، واسمه الكامل هو دافيد إميل دوركايم، ولما سئل كلود ليفي ستروس عن هذا الأمر قال: “أعترف بوجود عدد كبير من المنتمين لليهودية بالولادة في مجال الإتنولوجيا والسوسيولوجيا”.
لا يتعلق الأمر في المسألة اليهودية بالقول أن هناك عصابة صهيونية مقيتة احتلت أرضا وتسعى بأبشع الطرق لاقتلاع شعب بأكمله من أرضه، بل يجب أيضا النظر إلى “ضعف العرب والمسلمين” فكريا وعلميا وعجزهم عن اختراق مجال المعرفة على الصعيد العالمي، وبالتالي استحالة التأثير الإيجابي لتغيير موازين القوى لصالح الفلسطينيين.
اليهود هم آخرنا. وهم منذ بداية تشكل الثقافة الإسلامية السؤال الذي يواجه هويتنا وغيريتنا وهم أيضا الدليل الواضح والمباشر على عجزنا. لقد قدمت فئات كثيرة من العرب والمسلمين والمسيحيين تضحيات كبرى لنصرة فلسطين، لكن هذه النضالات ارتطمت دوما بالجدار الضخم الذي شكلته المسألة اليهودية، كما استغلتها الصهيونية، في الثقافة العالمية.
لقد كان “إيلي وييزل” الحائز على جائزة نوبل للسلام سنة 1986 هو من اخترع مصطلح “الهولوكوست” الذي ذاع صيته وأصبح يعتمد في جميع قواميس الغرب، فمن سيستطيع اختراع مصطلح يعبر عن “محرقة غزة” أو “مذبحة شعب فلسطين” ليعتمد في القواميس العربية والغربية فقط؟
محمد الهلالي
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.