ما بعد ‘أسطول الحرّية’.. ما بعد ميثاق الدم البارد
برنار هنري ـ ليفي، ‘الفيلسوف’ كما يحلو له تسمية نفسه، وكما اعتادت وصفه وسائل الإعلام في فرنسا، كتب يشرح أسبابه ‘الفلسفية’ في استمرار موقفه الداعم لدولة إسرائيل (هو الآن يتحدّث عن ‘دولة اليهود’!)، بالرغم من أنّ الهجوم على ‘أسطول الحرية’ كان، في نظره، عملاً ‘غبياً’. الجيش الإسرائيلي كان قادراً على اقتياد السفينة إلى ميناء عسقلان بشكل سلمي، يقول ‘الفيلسوف’، تماماً كما حدث بعدئذ مع السفينة السابعة، صباح السبت التالي، دون ‘الوقوع في الفخّ التكتيكي والدعائي’ الذي نصبه لإسرائيل عدد من الإستفزازيين’.
وبهذا، أي بعد تسجيل غباء الهجوم وليس أيّ جرم آخر إنساني أو قانوني او أخلاقي، ينتفض ‘الفيلسوف’ ضدّ أولئك الذين تهافتوا على استغلال ‘نفاق أسطول الحرية’ وإدانة إسرائيل، من منطلق ‘سوء الطوية ضدّ الدولة اليهودية’، وكأنهم كانوا ينتظرون ‘ذريعة’، أو ‘عثرة ترتكبها الدولة اليهودية’. وهو لا يلقي اللوم على جهات عربية أو تركية أو إسلامية، بل على فرنسيين من أمثال لوران جوفران، مدير تحرير يومية ‘ليبيراسيون’، ودومنيك دوفيلبان، رئيس الوزراء الفرنسي السابق، والكاتب السويدي هننغ مانكيل، لأنهم في عداد الأطراف التي تزيّف حقائق حصار غزّة، وتتناسى تواجد منظمات إسلامية ‘متطرفة’ و’إرهابية’ على ظهر السفن التي شكّلت ‘أسطول الحرية’.
في مثال ثانٍ يعتمد محاكمة مماثلة، كان شلومو بن عامي، وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق، قد صرّح للإذاعة الوطنية الإسبانية RNE، بأنّ الهجوم على ‘أسطول الحرية’ كان ‘خطأ’، وأنّ سياسة تطويق غزّة أثبتت فشلها، وأوقعت إسرائيل في ‘شبكة من القرارات الستراتيجية والعملياتية الرديئة’ التي أصابتها بالأذى، واستفادت منها ‘حماس’. ومع ذلك، لا يجادل بن عامي في أنّ العالم استغلّ ‘عثرة’ إسرائيل لإضعاف مصداقيتها في ناظر الرأي العام الدولي، و’استغلال القرارات البائسة’ التي اتخذتها وتتخذها حكومة بنيامين نتنياهو! في عبارة أخرى، حتى إذا ارتكبت إسرائيل الأخطاء، أياً كانت، فإنّ على العالم أن يتفهم تلك الخطأ، وأن يسامح عليها!
في مثال ثالث لا يعتمد المحاكمة ذاتها، وإنْ كان يبلغ خلاصة غير بعيدة عمّا يتوصل إليه هنري ـ ليفي وبن عامي، كتب الروائي الإسرائيلي دافيد غروسمان مقالة في التعليق على الهجوم الإسرائيلي، نُشرت في مواقع عديدة وتُرجمت إلى لغات شتى، بدأها هكذا: ‘لا تفسير يمكن أن يبرّر الجريمة التي ارتُكبت، ولا ذريعة تمحو الأعمال الغبية للحكومة والجيش’. لكنّ غروسمان، إذْ ينتهج بدوره منطق تثبيت ‘الغباء’ كسبب وحيد للجريمة، يسارع في الجملة التالية إلى الجزم بأنّ ‘إسرائيل لم ترسل جنودها لقتل المدنيين بالدم البارد، فهذا آخر ما كانت تريده’؛ وأنها استُدرجت إلى فخّ، نصبه الذين كانوا على ثقة بأنّ إسرائيل سوف تتصرّف على هذا النحو!
كذلك يتذكّر غروسمان أنّ الذين كانوا على ظهر السفينة ليسوا جميعهم من دعاة السلام ونشطاء العمل الإنساني، ويتوفر بينهم أناس يحملون ‘آراء إجرامية’ تحضّ على تدمير إسرائيل؛ وأنّ ‘جرائم’ قادة ‘حماس’ ماثلة للعيان، وخاصة منع الصليب الأحمر من زيارة الجندي الأسير جلعاد شاليط، فضلاً عن إطلاق آلاف الصواريخ من قطاع غزّة على بلدات وقرى إسرائيلية، وهذه كلّها ‘أفعال يتوجب التعامل معها بكلّ حزم’. وإذْ يأمل في أنّ ما جرى سوف يفضي إلى إعادة تقييم فكرة ‘الإغلاق’ بأسرها (وليس الحصار!)، و’تحرير الفلسطينيين من عذاباتهم’، فإنه يقرّ بأنّ ‘التجربة في هذه المنطقة المأساوية تعلّمنا أنّ العكس هو الذي سيحدث’.
والحال أنّ غروسمان (الذي، للتذكير، فقد ابنه أوري، 20 سنة، الضابط الاحتياط في سلاح المدرعات، أواخر أيام العدوان الإسرائيلي على لبنان، صيف 2006) لا يكفّ عن تنبيه الإسرائيليين إلى أنّ الأزمة التي تعيشها الدولة العبرية ‘أشدّ عمقاً مما كنّا نخشى في أيّ يوم، وفي كلّ منحى’. وهو لا يفوّت فرصة التواجد في ذكرى اغتيال رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين، وهذا في حدّ ذاته دليل على وطنيته الإسرائيلية؛ ولكنه مع ذلك يحتاج دائماً إلى تذكير مستمعيه بأنه ‘يحمل لهذه الأرض محبّة هائلة وطاغية ومركبة’؛ وأنه علماني التفكير، ولكنه مؤمن بأنّ قيام دولة إسرائيل كان ‘معجزة من نوع ما، سياسية ووطنية وإنسانية، وقعت لنا كأمّة’.
ويظلّ غروسمان بحاجة إلى تشديد كهذا، ملحمي ـ غنائي، واقعي ـ ميتافيزيقي، في آن معاً، لكي يبلغ سلسلة خلاصات كارثية من الطراز التالي:
ـ ‘هذا وطن جعل كارثتي الشخصية بمثابة ميثاق دموي’.
ـ ‘طيلة سنوات كثيرة، لم تفرّط إسرائيل في دماء أبنائها فحسب، بل فرّطت في المعجزة ذاتها، وفي فرص بناء دولة ديمقراطية ناجحة، تلتزم بالقِيَم اليهودية والكونية’.
ـ ‘كيف حلّ بنا هذا؟ متى فقدنا حتى الأمل في أننا سنكون ذات يوم قادرين على تأمين حياة مختلفة أفضل؟ وكيف حدث أننا نواصل التفرّج على حدة، كأننا نُوّمنا مغناطيسياً بفعل الجنون والوقاحة والعنف والعنصرية التي حاقت بوطننا؟’.
ـ ‘أحد أكثر نتائج الحرب الأخيرة صعوبة هو الإحساس المتعاظم بأنه لا يوجد ملك في إسرائيل، وأنّ قيادتنا جوفاء، قيادتنا السياسية والعسكرية جوفاء. لست أتحدّث عن أخطاء إدارة الحرب، أو انهيار الجبهة الداخلية، أو الفساد واسع النطاق. إنني أتحدث عن حقيقة أنّ الناس الذين يقودون إسرائيل اليوم عاجزون عن ربط الإسرائيليين بهويتهم، وبتلك المساحة والذاكرة التي تمنحنا الأمل والقوّة، وتضفي بعض المعنى على صراعنا اليائس الواهن من أجل البقاء’…
يهودي آخر، رابع، هو المؤرّخ الإسرائيلي يارون إزراحي، كان قد تابع روحية الرثاء ذاتها وأحصى الأثمان الباهظة لذلك الإنتقال العجيب الذي شهدته فكرة الدولة اليهودية: من المعجزة بحدّ السيف، إلى ما بعد الملحمة، ولكن… بالرصاص المطاطي! ففي كتابه ‘رصاص مطاطي: القوّة والضمير في إسرائيل الحديثة’، الذي صدر بالإنكليزية، اعتبر إزراحي أن استخدام الرصاص المطاطي في قمع الانتفاضة كان نقلة نوعية في الرواية الصهيونية الكلاسيكية، الأسطورية والملحمية والتربوية. وكان، أيضاً، عتبة تدشّن ‘انقطاع خيط الرواية الكبرى’ التي لمّت شمل أسرته اليهودية طيلة خمسة أجيال، منذ أواخر القرن التاسع عشر حين غادر أجداده أوكرانيا إلى فلسطين، وحتى أواخر القرن العشرين حين أدرك أنه يصارع قراراً مؤلماً بتجنيب ابنه آلام حلم صهيوني فادح الأثمان. ويكتب إزراحي: ‘في تلك الليلة من شهر كانون الثاني (يناير) عام 1988، حين شاهدت على شاشة التلفزة جندياً إسرائيلياً شاباً يجثو على ركبة واحدة ليسدد بندقيته إلى طفل فلسطيني لا يحمل سوى الحجارة، انتابني إحساس حادّ لا سابق له بالصدوع العميقة التي أخذت تتشكل داخل ملحمة عودتنا وتحريرنا في هذه الأرض، ولقد شعرت بفداحة الخسران، وبالتناقص الشديد في قوّة الرواية التي أدامت الحلم الصهيوني’. وهكذا فإنّ إزراحي يقرّ، مثل غروسمان، بأنّ محاولة اسرائيل مصالحة أزمة الضمير مع فحشاء استخدام القوّة لن تسفر عمّا هو أقلّ من هوّة فاغرة بين أجيال الجدّ والأب والابن، ولسوف تكون ‘معركة مرويات’ قابلة للتنازع الداخلي كلما وحيثما اقتضى الحال تخليص النفس الإسرائيلية من، أو تحصينها بوسيلة، ‘الملحمة الكبرى’ و’الحلم الصهيوني’ و’تاريخ الآخر’.
لم نقرأ، في حدود ما قرأنا، كيف أبصر إزراحي آلاف المشاهد البربرية التي أعقبت جثوّ الجندي الإسرائيلي على ركبة واحدة لتسديد بندقيته إلى طفل فلسطيني لا يحمل سوى الحجارة، وكيف حملق في مشهد اغتيال محمد الدرّة مثلاً، وأية مرثية كانت ستفيده في وصف مجازر طوباس وبني نعيم والشجاعية ورمل غزة وجنين، لكي لا نتحدّث عن قانا 1 وقانا 2؟ وهل يمكن لفئة قليلة من أمثال غروسمان وإزراحي أن يروا ذلك الجوهر الخبيث الذي يكمن في خلفية ما يجري من مجازر، أي استمرار الإبادة الجماعية المنظمة والتصفية العرقية للفلسطينيين، كما يساجل مؤرّخ إسرائيلي مثل إيلان بابيه، وآخر بريطاني مثل جوف سايمونز؟
يهودي خامس، هو المؤرّخ الأمريكي نورمان فنكلشتاين، سليل أسرة قضى بعض أفرادها ضحية الـ’هولوكوست’، طرح إشكالية الحكايات المتنازعة من خلال إعادة قراءة تراث المؤرّخين الجدد الإسرائيليين عموماً، وأعمال بيني موريس بصفة خاصة، بتهمة تقويض أسطورة اسرائيلية شائعة (هجرة الفلسطينيين إرادياً وليس تهجيرهم قسراً)، لا لشيء إلا لاستبدالها بأسطورة جديدة. موريس، حسب فنكلشتاين، يقيم في موقع رجل الوسط السعيد بين الرواية الإسرائيلية والرواية العربية، رغم أن استقصاءاته ينبغي أن تضعه قريباً من الرواية الأخيرة، بل في قلبها تماماً. كتاب فنكلشتاين، ‘الصورة والحقيقة في نزاع اسرائيل ـ فلسطين’، يقترح تشريحاً جذرياً لصورة النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، الشعبية الشائعة مثل تلك الأكاديمية النخبوية، ويناقش الجذور الأولى للصهيونية بوصفها شكلاً رومانتيكياً من النزعة القومية التي تفترض ـ مسبقاً وفي الجوهر ـ أنّ إفلاس الديمقراطية الليبرالية يُخلي الساحة تماماً لمزيج عنصري ـ ديمقراطي ـ أسطوري، في آن معاً. وهذا على وجه الدقّة ما تعيشه الدولة العبرية اليوم، في مسارات انحطاطها الحثيث نحو فاشية من نوع جديد، وعنصرية من طراز قديم ومستجدّ في آن.
ليس هذا رأي يهودي سادس، وأخير، هو شمعون بيريس، رئيس الكيان الصهيوني وأحد بطاركة ما يُسمّى بـ’اليسار الإسرائيلي’، الذي يستشيط غضباً ويعلن أنّ كرامته الشخصية تُطعن في الصميم كلما سمع مَن يقول إنّ الدولة العبرية تسعى إلى القتل بدم بارد. ‘نحن لسنا دولة مافيا تستخدم هذا النوع من الممارسات’. مَن نحن، إذاً؟ ‘الدولة الوحيدة في العالم التي تواجه انتحاريين لا يمكن وقفهم بواسطة شرطة أو جنود ما داموا مستعدين للموت’، يتابع حامل جائزة نوبل للسلام. يتناسى بيريس، بالطبع، عشرات الوقائع التي تؤكد الإنحطاط الوحشي اليومي لأفراد الجيش الإسرائيلي، على غرار تبرئة أحد الضباط من تهمة ارتكاب ‘عمل لا أخلاقي’، رغم أنّ جنوده أنفسهم سردوا فعلته تلك للتلفزة الإسرائيلية، على النحو التالي: الطفلة الفلسطينية إيمان الهمص (13 سنة) سقطت أرضاً بعد أن تعرّضت لإطلاق من نقطة مراقبة عسكرية إسرائيلية. لكنها كانت قد جُرحت فقط، حين تقدّم منها الضابط الإسرائيلي، قائد الفصيل، وأطلق طلقتين على رأسها من مدى قريب، ثمّ عاد من جديد إلى الطفلة، وغيّر سلاحه إلى التلقيم الآلي، وتجاهل اعتراضات زملائه التي تواصلت عبر جهاز الإتصال، وأفرغ كامل الذخيرة في جسدها!
هذا الضابط ـ الوحش، القاتل بالدم البارد، وجدته قيادة الجيش الإسرائيلي بريئاً، وبالتالي مضى، وانقضى تماماً كما يلوح، زمن كان فيه بعض الضمير الإسرائيلي يعترض على استخدام الرصاص المطاطي ضدّ أطفال الإنتفاضة. وأمّا اليوم فإنّ الضمير ذاته راقد في سبات عميق إزاء القتل العمد، ليس بالرصاص الحيّ فقط، وليس في أرجاء فلسطين المحتلة وحدها، وليس ضدّ الفلسطينيين وحدهم، بل في عرض البحر، ضدّ مدنيين من تركيا وأمريكا وأوروبا…
والويل للعالم إذا تجاسر وانتقد أو تعاطف، فكيف إذا أدان!
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.