صبحي حديدي : مراجعات ‘الربيع العربي’ أو كيف يحنّ الاستشراق إلى الاستبداد
آخر صرعاته، لأنه والحقّ يُقال صاحب صرعات من صنوف لا يتجاسر عليها سواه، هي تشخيصه الفريد لطبيعة أنظمة عربية سقطت أو يُستكمل سقوطها (زين العابدين بن علي، في تونس؛ وحسني مبارك، في مصر؛ ومعمّر القذافي، في ليبيا)، وأخرى تصارع قبيل السقوط (بشار الأسد، في سورية): تلك أنظمة لم تكن دكتاتورية تماماً، خلاصة القول عنده؛ ورغم التشابه مع أوروبا سنة 1848 (حين اجتاحت الثورات جميع بلدان القارّة عملياً، ما عدا إنكلترا)، فإنّ العالم هناك، في الشرق الأوسط، ما يزال بعيداً عن التبدّل والتحوّل. وتلك حال لا تحول، مع ذلك، دون انجذاب الرجل إلى تعبير ‘الربيع العربي’، ليس بسبب دلالاته ذات الرنين الاستشراقي الخلاب، فحسب؛ بل كذلك لأنّ المعنى هنا يظلّ غائماً فضفاضاً، يدغدغ هوى المستشرق، مثلما يعفيه من شرّ استقراء الواقع الملموس.
صاحب هذه التشخيص هو المؤرخ البريطاني بول جونسون، مؤلف لائحة تزيد عن 50 كتاباً في مواضيع شتى، تضمّ كتابين ضخمين عن الحياة الفكرية المعاصرة، ومجلدات أشدّ ضخامة تؤرّخ للمسيحية واليهودية وإنكلترا وإرلندا، وأخرى تروي سيرة إليزابيث الأولى والبابا يوحنا الثالث والعشرين، فضلاً عن حضارات الأرض المقدسة، وتاريخ العالم بأسره. وفي أقلّ من عشر سنوات كان قد أصدر المؤلفات التالية التي تحتوي على مفردة ‘تاريخ’ في عناوينها: تاريخ المسيحية، تاريخ العالم الحديث، تاريخ الشعب الإنكليزي، تاريخ اليهود، تاريخ الأزمنة الحديثة… ولضرب أمثلة على بعض ‘المحتوى الدسم’ لتلك المجلدات، وبعض الصرعات الأخرى استطراداً، هنا منتخبات من كتابه عن تاريخ اليهود: ‘استعباد الفراعنة لليهود كان استبطاناً بعيداً، لا يقلّ خبثاً، لبرامج السخرة التي وضعها هتلر لليهود’؛ ‘بدون اختراع السكك الحديدية، يصعب أن نتخيّل وقوع الهلوكوست’؛ ‘الغرف الخمس في أوشفتز كانت مجهزة بشكل يتيح إفناء 60 ألف رجل وامرأة وطفل، كلّ 24 ساعة’؛
وجونسون مثال ساطع على الدوران، بزاوية تامة، من صفوف اليسار إلى صفوف اليمين، وقد أتمّ عمادته على يد أمثال ريشارد نكسون ومارغريت ثاتشر، خلال عقود السبعينيات. السيرورة بدأت حين انتقل من دوائر اليسار المعتدل الملتفة حول حزب العمال البريطاني، إلى دوائر اليمين الرجعي في حزب المحافظين (حين يتواجد في بريطانيا) والمحافظين الجمهوريين الجدد (حين يتواجد في أمريكا). وما يسرده في أعماله ليس تاريخاً بأي معنى علمي جدير بالاحترام، بل سلسلة اجتهادات خرافية، وأقنعة إيديولوجية، واستيهامات افتراضية تفتقر تماماً إلى أبسط قواعد المنطق السليم (كما في الجزم حول الطاقة الاستيعابية لغرف الغاز).
وليس الأمر أنه لا يرى ما يجري في العالم من حوله، ولكنه يفضّل النظر إلى الحاضر والمستقبل اعتماداً على ‘قاعدة مركزية في التراث اليهودي ـ المسيحي، تقول بوجوب أن يحصي المرء نِعَمَه’، كما يقول؛ وأوّلها عنده أنّ الغرب خرج ظافراً من هذا القرن المرعب و’الأكثر خطورة في تاريخ البشرية’. لقد بلغ به الكبر عتيّاً، 84 سنة، وهذا عمر يسمح له باستذكار ثلاثة أحداث رهيبة كادت تدني العالم المتحضّر من شفير الهلاك والفناء: 1940، حين حاول ‘النظام النازي وإيديولوجيته الفرنكنشتاينية’ السيطرة على القارّة الأوروبية وبعض آسيا وأفريقيا؛ و1946، حين أوشك الأمريكيون على سحب قوّاتهم من أوروبا، تاركين العالم لقمة سائغة أمام ستالين؛ وأعوام السبعينيات، حين بدت ‘فضيحة ووترغيت’ وكأنها تجرّد الجبار الأمريكي الأعظم من جميع هياكله القيادية والأخلاقية.
أمّا في ما يخصّ التسعينيات والعقد الأوّل من الألفية الثالثة، فإنّ جونسون واصل البحث عن إمبريالية ضائعة، لا مخرج للإنسانية إلا باستعادتها: ‘لقد حان الوقت للكفّ عن نواح القرن العشرين، والشروع بتدبّر السُبُل الكفيلة بضمان استقرار كوني ورفاهية واسعة. الخطوة الأولى هي إعادة تأسيس الإمبريالية الغربية’. مات الآن نظام العوالم الثلاثة، كما أخبرنا، ونحن اليوم نعيش نظام العالم الأوّل، والوحيد الذي يشهد انتقال قيم الغرب وطرائق عيشه إلى جميع أرجاء المعمورة، انتقال النار في الهشيم. ونحن بحاجة إلى إرساء هذا العالم الوحيد على سبعة أعمدة (ولا بدّ من هذا الرقم، لكي نتذكّر لورنس العرب وكتابه المأثور)، هي حكمة القرن الراهن.
الأمم المتحدة هي أولى الأعمدة، ولقد كان الغرب محظوظاً حين أسفرت الحرب الباردة عن انضمام روسيا إلى العالم المتمدن، واسترداد مجلس الأمن بدوره كذراع طويلة للقوى الغربية الجبارة. ولكي يكون أداء الأمم المتحدة لائقاً بأخلاقيات العالم الأوّل، ثمة هذه الشروط: وضع عملية ‘عاصفة الصحراء’ نصب أعين مجلس الأمن الدولي، كلما رنّ ناقوس على وجه البسيطة؛ وضمّ اليابان إلى الدول دائمة العضوية، لكي يكتمل عقد الجبابرة؛ وتطبيق إجراءات تكفل وضع دول العالم الثالث على هامش المنظمة الدولية، لكي لا يتكرر خطأ الرئيس الأمريكي هاري ترومان في منح الجمعية العامة حقّ اتخاذ القرارات، أو خطأ زميله دوايت أيزنهاور الذي سمح لشخص مثل داغ همرشولد بإدانة فرنسا وبريطانيا جرّاء حرب السويس!
وإذا كان من واجب الولايات المتحدة أن تتولى دور الشرطي الكوني، يتابع جونسون، فإنّ من حقها على مجلس الأمن الدولي أن يتحوّل إلى ما يشبه المخفر الساهر على تطبيق القانون. ذلك يفضي إلى العمود الثاني، أي تحويل الأمن الجماعي من قوّة سلبية تتحرك وفق مبدأ ردّ الفعل، إلى ‘كلب حراسة’ يقظ، قادر على التقاط رائحة الجريمة والحيلولة دون وقوعها؛ وهنالك، بالتالي، ضرورة لتعديل ميثاق الأمم المتحدة بحيث يمتلك مجلس الأمن أواليات تدخّل ديناميكية.
العمود الثالث يتفرّع عن الثاني، ويتصل بحقّ التدخل، وطرد ‘الأوهام الطوباوية’ و’الإيديولوجيات المضلِّلة’ حول ‘خرافة الاستقلال الوطني’، ثمّ أوهام انتصار ‘الثورات’ الراهنة على ‘الدكتاتوريات’ في العالم العربي. عشرات الدول في آسيا وأفريقيا لا تفقه حرفاً واحداً في أبجدية إدارة الدولة والمجتمع، يقول جونسون، وينبغي عدم التردد في استئناف العمل باتفاقية فرساي ونظام الإنتداب (الذي يرى جونسون أنه كان ناجحاً في كلّ مكان… باستثناء فلسطين، حيث ارتكب البريطانيون جملة أخطاء بحقّ ‘الحركة الصهيونية الديمقراطية’). ولأنّ مجلس الأمن الدولي هو مخفر الجبابرة، فإن جونسون ينيط به مهمة ‘إحياء الحيوية الإمبريالية، واستعادة المعنى النبيل لكلمة الاستعمار’.
العمود الرابع هو العمل الحثيث لاستيعاب الصين، وإعادة توجيهها في أقنية إيجابية وبنّاءة (رغم الماركسية والتوتاليتارية، كما يقول)، وذلك لضمان القدر الأقصى من الانسجام في علاقات القوّة، ولدرء خطر الشرق. الصين عنده هي ‘صدّام حسين مضروباً بأربعين ضعفاً’، ولكنها تتحرّك ضمن معادلة جيو ـ ستراتيجية واقتصادية مكمّلة لحركة الغرب، وموازية لحركة اليابان والتنانين الآسيوية الصغيرة في أندونيسيا وتايوان وسنغافورة وكوريا.
وإدخال الصين في إيقاع الاقتصاد الدولي عنصر ضروري للعمود الخامس المركّب: المجموعة الأوروبية، اتفاقية ماستريخت، ‘الاتفاقية العامة حول التعرفة والتجارة’، معدّلات صرف العملة، وما إليها. ومنذ ابتداء هذا القرن الجديد، سوف تتكوّن كتلة شرائية هائلة من خمسة مليارات وربع المليار (هي مجموع سكان الصين والهند والباكستان وأندونيسيا وبنغلادش وفييتنام)، وستُفتح أسواق هائلة لا مفرّ من تقاسمها بين الكتل الثلاث الأوروبية والأمريكية والآسيوية، والصين بهذا المعنى مفتاح محوري في صناعة التقاسم، وفي ‘ضبطه’ و’حراسته’.
ضغط العامل الديمغرافي يقود جونسون إلى العمود السادس، أي تربية البشرية وفق القواعد الليبرالية الغربية، وتعليمها سبل الدخول السلمي في نظام العالم الواحد الوحيد، تفادياً لتحوّلها إلى قنبلة سكانية موقوتة، وحاضنة خصبة للتيارات الراديكالية والأصولية والإثنية. هذه ‘القوى السوداء’، كما يسمّيها، يمكن أن تنضمّ بسهولة إلى حال الجهل المقنّع في أوروبا وأمريكا الشمالية، بحيث تتحوّل الأجيال الجديدة إلى ‘أفواج رعاع’ لا مواطنين صالحين. ليس لانتفاضات العرب أي دور تربوي تطهيري هنا، إذْ يبدو العكس هو الصحيح في ناظر الرجل. وهذه مسألة ثقافية، تجعله يرى في جياع الصومال وأفريقيا تجسيداً لهدر الموارد، وليس فظائع الجوع والعطش والموت. العمود السابع في حكمة القرن الواحد والعشرين هو الحفاظ على الموارد وحسن استغلالها وتطويرها، وهي هنا تتجاوز الثروات الطبيعية إلى الدماغ والإبداع والمخيّلة والذوق والحساسية. ذلك يدفعه إلى أن يلاحظ، بقلق جلي، كيف أخذت جوائز نوبل تذهب إلى أبناء ماليزيا وكوريا وتشيلي وتركيا وسنغافورة والهند ومصر والكاريبي…
ليس غريباً، والحال هذه، أن تحظى أفكار جونسون بالترحاب الشديد في أوساط المحافل اليمينية المتشددة، والرجعية، وأن يعطيها المحافظون الجدد في الولايات المتحدة مكانة الصدارة، وأن يمنحه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن ‘قلادة الحرّية’ الرئاسية (كان جونسون قد وصف الأخير بـ’خليفة ثاتشر’، ووصم بوش الأب بـ’رئيس الاستكانة’). ويُسجَّل له أنه كان في طليعة ناصحي رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، حين تولى المنصب في الولاية الأولى سنة 1997: ‘أخبرته أن يبقى ملتصقاً بالأمريكيين، فهم حلفاؤنا، ونحن مثل أسرة واحدة، وليذهب الأوروبيون إلى الجحيم، فلا تثق بهم، وخاصة فرنسا’!
وفي الحصيلة، إذا جاز للمرء أن يركن إلى المنطق البسيط حتى في غياهب هذه التناقضات غير المنطقية، كيف يبدو جونسون غير سعيد تماماً، أو غير مستبشر، أو متشكك، أو ‘مراجِع’ في التوصيف الألطف، لواقع انتفاضات العرب التي انطلقت لتوّها، او التي تعد بالانطلاق في كلّ حين، ما دامت أهدافها الأولى هي تحرير الإنسان العربي من نير الاستبداد؟ وإذا لم تكن أنظمة بن علي ومبارك والقذافي والأسد ‘دكتاتورية تماماً’، حسب جونسون، فكيف إذاً، وأين، تكون الدكتاتوريات كاملة تامة، على وجه البسيطة؟ ومتى يجوز استدخال انتفاضات العرب، أياً كانت تحفظات جونسون عليها، في أيّ من دهاليز أعمدة الحكمة السبعة، التي اختطها للكون والإنسانية؟ وهل الخيار الوحيد، لكي يتغيّر هذا العالم العربي أو يتحوّل، هو ‘استعادة المعنى النبيل لكلمة الاستعمار’، كما يحثّنا المؤرّخ الأريب؟
ليس من باب العبث أن تُطرح هذه الأسئلة، أو يُعاد طرحها كلما ظهرت ‘مراجعة’ جديدة تنمّ عن حنين استشراقي فاضح إلى تلك الكليشيهات العتيقة الأثيرة، حتى إذا كان بعضها يعيد تأهيل الاستبداد تحت مسمّيات شتى. وكما يتوجّب التذكير في كلّ مناسبة مماثلة، فإنّ سيرورات ‘هذا العالم العربي الجديد’، حسب التعبير الأخر الذي شاع بدوره اسوة بـ’الربيع العربي’، هزّت أركان المعارف الغربية عن العرب، والشرق عموماً، وكانت هذه راسخة قبلئذ، مكينة وثابتة مسلّماً بها، تقتات على تنميطات ‘الذهن العربي’ و’السيكولوجية العربية’ و’الروح الشرقية’؛ وكلّ ما يقترن بهذه من صفات الركود والجمود واللاتاريخ والسرمدية، فضلاً عن مقاومة التغيير، ورفض الديمقراطية…
وليس يسيراً أن تفلح انتفاضات العرب في قلب مفاهيم الاستشراق، رأساً على عقب، ثمّ تحظى باستحسان أمثال برنارد لويس، دافيد روثكوف، دانييل بايبس، وبول جونسون.
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس