زملاء

الليبرالية

سادت في العالم العربي تيارات إيديولوجية قوية على إثر الاحتكاك بالاستعمار والتفاعل الثقافي والسياسي مع الأفكار التنويرية والثورية. ويمكن، لهذا السبب، الحديث بسهولة عن تيارات اشتراكية وقومية وشيوعية ويسارية وإسلامية…

ومن الطبيعي أن تسود التيارات التي لها إيديولوجيات ذات مضمون اجتماعي وبعد وطني وقومي. ويعود السبب قبل كل شيء لمسألة التحرر التي فرضت نفسها كمسألة حاسمة لا يمكن التقدم آنذاك إلى الأمام دون أخذ موقف منها سلبا أو إيجابا.

إلا أن “الفكر الليبرالي” في العالم العربي ظل نخبويا ومهمشا، بل ظل تابعا في معظم الأحيان للحكومات القائمة رغم التعارض الصارخ ما بين مضامينه وأصوله ومبادئه من جهة، ومصالح الدول القائمة باعتبارها دولا تبعية للغرب الاستعماري.

ولقد تعرضت أطروحات وممارسات الليبراليين العرب، القدماء منهم والجدد، للنقد اللاذع، كما اتهموا بالعمالة إما لحكومات بلدانهم وإما للدول الأجنبية الغربية. فلقد اتهم طه حسين، على سبيل المثال، بالدعوة للتغريب ونصرة الخيار الغربي ورفض العقل العربي وتفضيل العقل المصري الفرعوني عليه. وينتمي طه حسين للجيل الثاني من الليبراليين العرب في بداية القرن العشرين إلى جانب قاسم أمين ومحمد حسن الزيات وتوفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل. ولقد سبق هؤلاء ممهدون انتصروا للحرية مع رغبة عميقة في الإصلاح الديني مثل محمد عبده، ورشيد رضا وعبد الرحمان الكواكبي، إضافة إلى آخرين مثل شبلي شميل وفرح أنطون.

يمكن إجمال الأفكار التي دافع عنها الليبراليون العرب في ما يلي: الحرية الشاملة في ميادين الفكر والدين والسياسة، المساواة ما بين الرجل والمرأة، ضرورة الإصلاح الديني بفصل الدين عن الدولة، حرية النقد ليشمل أيضا مجال المقدس والتراث، المطالبة بالديمقراطية.

ويمكن التساؤل عن أهمية هذه الأفكار إذا قورنت بأفكار الاشتراكيين مثلا التي تطالب بمجتمع بديل يتجاوز المجتمع الرأسمالي الطبقي الذي تحققت فيه الليبرالية؟ أو بفكر سياسي إسلامي يعد الناس بدولة مثالية على غرار دولة النبي والخلفاء…؟  وإذا أضفنا إلى ذلك اصطفاف الليبراليين العرب إلى جانب حكومات بلدانهم وتأييد الغرب وتبرير تدخلاته العسكرية واعتباره مفتاح حل مشاكل العرب… فإن النتيجة ستكون كارثية عليهم، إذ سيبدو الفكر الليبرالي ليس فقط نخبويا ومنفصلا عن الواقع وإنما سيبدو على وجه الخصوص عميلا للغرب.

فما علاقة هذه الوضعية بالفكر الليبرالي الأصلي؟ لم تستعمل كلمة “الليبرالية” بالفرنسية إلا سنة 1823 في القاموس الكوني للغة الفرنسي. ولقد تبلور الفكر الليبرالي ما بين القرن 17 والقرن 18 تحت تأثير فلسفة الأنوار وكانت إحدى الركائز لهذه الفلسفة المعارضة الصريحة للسلطة السياسية المطلقة.

ومن المنظرين الأساسيين لليبرالية “جون لوك” و”آدم سميث” و”مونتسكيو” و”جون ستيوارت ميل”.

تعرف الليبرالية بنقيضها أي الحكم المطلق ونظرية الحق الإلهي. لذلك نجد انه يتركز على مبادئ الحرية والمسؤولية الفردية.  فاللبراليون ينادون بضرورة تمتع الإنسان بالحقوق الأساسية غير القابلة للخرق، والحد من الضغوطات والإلزامات الاجتماعية التي تثقل كاهل الفرد سواء كان مصدرها الدولة أو المجتمع. فهذا الأخير يجب أن يقوم على ضمان حرية الأفراد في التعبير واحترام الحق في التعددية والتبادل الحر للأفكار. ولن يتحقق ذلك إلا إذا توفرت مجموعة من الشروط مثل المبادرة الخاصة والمنافسة الحرة واقتصاد السوق ووجود قوانين وسلطات مضادة لضمان تأطير هذه العملية.

ونجد لهذا التركيز على حرية الفرد سندا صريحا في “الإعلان عن حقوق الإنسان والمواطن” الصادر سنة 1789.

كيف يمكن إذن تفسير ضعف تأثير الليبراليين العرب إذا كانت الأفكار الليبرالية الأصلية قيمة ومؤثرة وذات مردودية لا غبار عليها في الغرب؟

يمكن أن نرجع ضعف تأثير الليبراليين العرب، رغم انطلاقهم من أفكار سليمة وقيمة، لغياب شروط تسمح لفكرهم الليبرالي بالتفاعل الإيجابي مع الواقع الفكري المهيمن. ذلك أن الدعوة إلى الحرية الفردية ونقد سلطة التراث وتحكيم العقل… هي أفكار تعتبر هدامة ومخربة في نظر أنصار التقليد وضحاياه.

لكن الخطأ القاتل الذي قزم الليبراليين العرب ماضيا وحاضرا هو ارتباطهم بحكومات لا مصداقية لها، حكومات تسهر على إعادة إنتاج الفقر وتعميق تخلف التخلف.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق