زملاء

الربيع العربي واحتمالات الربيع الكردي!

يمثل الأكراد قضية مشتركة لأربع دول رئيسية في المنطقة هى العراق وتركيا وسوريا وإيران، بما يجعل القضية الكردية ليست “قضية دولة” وإنما “قضية إقليم”، ولكن ما تأثيرات الثورات العربية على القضية الكردية وتجاذباتها الإقليمية في تشكيل الخريطة الجيواستراتيجية للمنطقة وخاصة فيما بتعلق بالأكراد، وهل هناك احتمالات لولادة ربيع كردي من مخاض الربيع العربي الحالي.. سؤال وليس فزاعة يطرحها فقط نظام الأسد ويستوجب الكثير على معارضته وعلى ترسيم المرحلة الانتقالية في سوريا بعده، هذا ما تناقشه هذه الدراسة التي كتبها الباحث محمد عبد القادر المتخصص في النظام الإقليمي وأوضاع الأقليات في العالم العرببي، خصيصا ل معهد العربية للدراسات والتدريب.

الدراسة:
بالتوازي مع بدايات ترقيم الأيام الأخيرة لنظام حزب البعث في سوريا، كانت بدايات “ربيع” جديد تتصاعد مظاهره في منطقة الشرق الأوسط. ذلك بعدما أخذت القضية الكردية منحى آخر عقب حدوث ثلاث تطورات متزامنة، تمثل أولها في مطالبة أكراد سوريا بتشكيل إقليم يتمتع بـ”اللامركزية السياسية” في شمال البلاد. وثانيها ارتبط بتوالي تهديدات القيادات الكردية في إقليم كردستان العراق بإعلان دولتهم مستقلة. وثالثها تعلق باشتداد حدة المواجهات العسكرية بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني PKK من جانب، وتصاعد وتيرة المواجهة السياسية والإعلامية بين تركيا والأحزاب والتيارات الكردية السورية قرب الحدود الجنوبية لتركيا من جانب أخر.

هذا الوضع بينما بشر بـ”ربيع كردي” واحتمالات تحول القضية الكردية لتغدو مركز تفاعلات الإقليم خلال السنوات القادمة، فإنه أنذر في ذات الوقت بخريف الاستقرار الإقليمي وتحول مجمل التفاعلات وخرائط التحالفات الإقليمية القديمة، لتتشكل بيئة أمنية مغايرة تتسم بصراعات أكثر حدة. يرتبط بذلك عدد من المحددات الأساسية أهمها أن يمثل الأكراد يمثلون قضية مشتركة لأربع دول رئيسية في المنطقة هى العراق وتركيا وسوريا وإيران، بما يجعل القضية الكردية ليست “قضية دولة” وإنما “قضية إقليم”.

هذا بالإضافة إلى أن الأكراد الذين يناهز تعدادهم الأربعين مليون يثيرون قضايا متشابهة في هذه الدول، سواء على الصعيد السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، هذا فضلا عن تطلعهم لتأسيس دولة مستقلة خاصة بهم في منطقة تتضمن زهاء 95 في المائة من تعدادهم عبر العالم. وفي هذا الإطار يتم توظيف تغيرات السياق المحلي والإقليمي وأنماط التفاعلات بين دول المنطقة، وتذبذب وضعية القضية الكردية في إطار هذه التفاعلات كتحولها بفعل الأزمة السورية من دافع للتعاون إلى أداة للصراع، وذلك من أجل تحقيق أكبر قدر من المكاسب، والتي باتت تتمثل حاليا حسب أغلب الأحزاب الكردية في انتقال عدوى الثورات الشعبية للمناطق الكردية لتشهد بدورها “الربيع الكردي”.

أولا- أسباب تصاعد الأزمة الكردية:
العديد من العوامل المتشابكة صاغت في مجملها مشهدا إقليميا مضطربا فيما يخص القضية الكردية، وذلك لعدد من الأسباب نوردها فيما يلي:

1- الثورة السورية وصعود القضية الكردية:
أعادت الثورة السورية تشكيل سياسات الأكراد في المنطقة وأبرزت طبيعة الطموح الكردي، وأظهرت أكراد سوريا كفاعل مستقل يضع عدد من الأهداف والضوابط كأساس لأية علاقة متينة مع أحزاب وتيارات المعارضة، وفي هذا السياق تركزت المطالب الكردية في شمال سوريا على ضرورة الاعتراف المسبق بالحقوق القومية الخاصة بـ”الشعب الكردي”، وعدم النص في أي دستور مستقبلي على أن سوريا جزء من الأمة العربية، وإلغاء كافة المشاريع العنصرية المطبقة بحق “الشعب الكردي” وتعويض المتضررين منه وفق المواثيق الدولية في دولة يتمتع الأكراد فيها بـ”لا مركزية سياسية”. وقد تأسس الموقف الكردي في السياق هذا على عدد من المحددات الأساسية:

– ما تعرض له الأكراد من تمايز قومي، لاسيما بعد استلام حزب البعث الحكم عام 1963، حيث منع الأكراد من التحدث والتعلم باللغة الكردية. هذا بالإضافة إلى تهميش المناطق الكردية وحرمان مئات الآلاف من الحصول على الجنسية السورية، كما تعرض الأكراد في سوريا الأسد لأحداث عنف كبرى ترتب عليها سقوط عدد كبير من الضحايا.

– اضطراب العلاقة بين المجلس الوطني السوري ونظيره الكردي الذي استطاع أن يضم أغلب الأحزاب الكردية، والتي تعتبر بدورها أن المجلس الوطني السوري بات خاضعا لسلطة حركة الإخوان المسلمين المسيطر عليها وفق قناعتهم من قبل تركيا. وقد تصاعدت حدة التوتر بين المجلسين عقب التصريحات التي أطلقها الرئيس السابق للمجلس الوطني السوري برهان غليون حين رفض اعتماد الفيدرالية في سوريا، وأشار إلى أن المجلس الوطني يقر بكافة حقوق الأكراد كمجموعة إثنية منفصلة في إطار سوريا موحدة . وعلى الرغم من إجراء العديد من اللقاءات بين برهان غليون وعبد الحكيم بشار رئيس المجلس الكردي، غير أن جميعها وصل لطريق مسدود.

وينظر الأكراد للمجلس الوطني السوري حتى بعد انتخاب الكردي عبد الباسط سيدا رئيسا له، باعتباره يتكون من خليط غير متجانس من الشخصيات التي تفتقر إلى الخبرة السياسية، وباعتباره يثير إشكالية الصراع بين كتلتين أحدهما إسلامية والأخرى علمانية، هذا فضلا عن اتساع الفجوة بينه وبين لجان التنسيق المحلية. كما ينظر إليه باعتباره يتبنى تجربة المجلس الوطني الليبي في بيئة مغايرة، وفي ظل معطيات سياسية وجغرافية وعسكرية شديدة التباين.

– اختلاف مرجعيات وتوجهات الأحزاب الكردية في سوريا، وفي هذا الإطار يبرز فاعلان أساسيان على الساحة الكردية: أولهما المجلس الوطني الكردي، والذي يضم معظم الأحزاب الكردية، والتي كان أغلبها منضويا في تجمع “إعلان دمشق” للتغيير الديمقراطي (2005). وثانيهما حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي PYD، والذي يمثل الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني. وبينما يحظى الأول بحضور واسع في محافظة مثل الحسكة الشرقية، فإن الثاني له حضور أكبر في منطقة العفرين الشمالية الغربية من البلاد. فيما يتقاسما النفوذ في بقية مناطق التمركز الكردي.

وفيما يطالب المجلس الكردي بضرورة إسقاط النظام السوري، فإن حزب الاتحاد الكردستاني أقرب إلى “هيئة التنسيق الوطنية المعارضة”، حيث يطالب بالتغير السلمي للنظام. وهو في ذلك يرتبط بتوجهات حزب العمال الكردستاني، بينما ترتبط مواقف المجلس الكردي بمواقف الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني في شمال العراق.

وعلى الرغم من أن الأكراد تقدر أعدادهم في سوريا بزهاء 2 مليون مواطن وفق أغلب التقديرات، إلا أن طموحاتهم في تأسيس إقليم مستقل فيما يعرف بـ”كردستان الغربية” تتعلق بالتمركز في محافظات استراتيجية وإن كانت غير متصلة، إلا أنها تمتد على الشريط الحدود بين كل من تركيا وسوريا والعراق، وتمتلك احتياطيات نفط كبيرة نسبيا. ولعل ذلك ما يطرح إشكاليات مركبة حول مستقبل التفاعلات الإقليمية بشأن القضية الكردية في ظل الأزمة السورية.

2- اضطراب العلاقة بين الحكومة المركزية وحكومة شمال العراق:

تفجرت الأزمة الداخلية في العراق بين رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وزعيم الإقليم الشمالي مسعود بارزاني، على خلفية سعى الأخير لسحب الثقة من المالكي لنقضه الاتفاق الذي بمقتضاه تشكل التحالف الشيعي – الكردي والذي دفع بالمالكي كرئيس للوزراء لدورة ثانية. وذلك في ظل رفضه تطبيق المادة 140 من الدستور العراقي وإجراء الإحصاء السكاني وحسم مصير المناطق المتنازع عليها.

هذا بالإضافة لرفض بارزاني الاتهامات التي يواجهها المالكي لحكومة الإقليم بشأن تهريب النفط، وبتجاوز الصلاحيات الدستورية، وذلك بعد توقيع عقود للتنقيب عن النفط والغاز مع العديد من الشركات العالمية مثل “اكسون موبيل” و”شيفرون” و”توتال”. وقد ترتب على ذلك تصاعد حدة المواجهة بين الطرفين، لاسيما أن هذه التوترات جاءت على خلفية تطورين أساسيين: أولهما، تمثل في وقف إقليم كردستان العراق تصدير نفطه منذ الأول من إبريل الماضي بدعوى عدم تسديد الحكومة المركزية للمبالغ المالية المستحقة للشركات النفطية العاملة في الإقليم.

وثانيها، ارتبط بالاتفاق الموقع بين كل من حكومة إقليم شمال العراق من جانب وتركيا من جانب آخر، ويقضي باستيراد تركيا للنفط من الإقليم والبدء في الاستعدادات اللازمة لاستيراد الغاز، وهو ما أفضي إلى توترات غير مسبوقة في العلاقة بين الحكومة العراقية ونظيرتها التركية، على نحو دفع المتحدث باسم الحكومة العراقية على الدباغ في منصف يوليو الماضي إلى القول: “لدينا خلافات حول موضوع النفط وهذه القضية داخلية.. ولا يجوز لتركيا أن تتدخل فيها لان هذا ليس عمل دولة مسئولة” .

ومثلما عكست هذه التطورات من ناحية طبيعة الصراعات الدائرة بين العراق وتركيا والتي باتت تتجلى في استضافة الأخيرة لنائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي، والذي تتهمه بغداد بالوقوف خلف عدد من العمليات الإرهابية، فإنها كشفت من ناحية أخرى طبيعة الصراع الدائر داخل العراق بسبب تباين السياسات حيال الأزمة السورية، ذلك أنه بينما يدعم المالكي النظام البعثي في سوريا، فإن بارزاني يدعم مطالب المعارضة الخاصة بإسقاط النظام.

هذا الوضع دفع المالكي لإدراك أن الأكراد لا يتحركون كجزء من الدولة العراقية، وإنما كدولة مستقلة، على نحو يجعلهم يعارضون أي مظهر من مظاهر تعزيز قوة المالكي سواء من خلال سيطرته على أغلب الأجهزة الأمنية، أو عبر حصوله على طائرات F16 خشية استعمالها ضدهم. هذا فيما استقبل إقليم شمال العراق زهاء 7 آلاف لاجئ كردي تخوف المالكي من إقامتهم في المناطق المتنازع عليها، خصوصا كركوك والموصل.

وقد ترتب على ذلك أن حاولت الحكومة المركزية السيطرة على الحدود مع سوريا، لاسيما بعد إعلان الجيش السوري الحر السيطرة على عدد من المناطق والمدن المحاذية للحدود العراقية، على نحو كاد أن يفضي إلى مواجهة عسكرية بين الجيش العراقي والبشمركة الكردية. وذلك حين حاولت قوات الفوج الثاني للواء 38 التي جاءت من الفرقة العاشرة بمدينة الناصرية جنوب العراق أن تتقدم نحو سحيلة وقرية القاهرة التي تتبع ناحية الزمار، وهى ضمن نطاق المناطق المتنازع عليها، ولكن قوات البشمركة تصدت لها ومنعت القوات العراقية من الوصول لهذه المنطقة.

هذا في وقت تزايد فيه قلق بعض الأحزاب الكردية بسبب السياسات التي تمارس إزاء العناصر الكردية في الجيش العراقي بفعل تعرضهم للتهميش والإقصاء. هذه العوامل مجتمعة عززت الصراع بين الطرفين، بما ينذر باحتمالات تحول المواجهة السياسية إلى صراع ذي طبيعة عسكرية. ذلك في ظل تزايد تحركات الجيش العراقي وانطلاق طائرات الاستطلاع فوق مناطق تمركز قوات البشمركة، هذا فضلا عن تخندق الطرفين في مواجهة بعضهما البعض استعدادا لأية تطورات محتملة، وهو ما دفع لجنة التنسيق الأمريكية التي حلت محل القوات التي كانت تفصل بين الجانبين، لمحاولة التهدئة والتنسيق بينهما لحماية الحدود وللحيلولة دون وقوع مواجهات متبادلة.

3- تصاعد المواجهة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني:

ارتبط تصاعد المواجهة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني بفشل جولات المفاوضات السرية التي أجريت منذ عام 2010 بين الطرفين، والتي هدف منها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان التوصل لتسوية تاريخية تنهي المواجهات المشتعلة منذ عام 1984، وتسببت في مقتل أكثر من عشرين ألف نسمة. وقد كانت أحد أسباب فشل هذه الجولات التحولات الحاصلة على الأرض بعد الدعم الكبير الذي تلقاه الحزب من النظام السوري للضغط على تركيا، حيث سمح للحزب بالتحرك واستمرار عملية تجنيد مزيد من العناصر بحرية داخل المدن الكردية، كما سمح لحزب الاتحاد الكردستاني الفرع السوري للحزب، بإدارة عدد من المدن الكردية التي انسحبت منها القوات السورية بدافع التركيز في العمليات العسكرية الدائرة في مدينتي حلب ودمشق.

أفضى هذا الوضع إلى تكثيف حزب العمال عملياته العسكرية حيال الأراضي التركية انطلاقا من الحدود السورية، بما أثمر عن تزايد الخسائر التركية على المستويين البشري والمادي. وينطلق حزب العمال الكردستاني في مواقفه حيال تركيا وعملياته المكثفة إزاء أراضيها من تخوفه من أن يفضي سقوط نظام بشار الأسد لتعزيز الدور التركي في سوريا، بما يدفعه لمحاولة استغلال الفراغ الأمني مبكرا لإلحاق أكبر قدر من الخسائر البشرية والمادية بتركيا، على نحو يعزز مواقعه في أية مفاوضات مستقبلية بين الطرفين.

هذا في وقت ترتاب فيه تركيا لطبيعة الدعم الذي يلقاه الحزب من قبل الأكراد في شمال سوريا، لاسيما أن ثلث مقاتليه من أكراد سوريا، كما تتخوف تركيا من تصاعد المطالب الكردية بتشكيل إقليم مستقل في سوريا. وتخشى كذلك من تداعيات هذه التطورات على الوضع السياسي في تركيا، بسبب صلات القربى التي تربط الأكراد في سوريا مع أقرانهم في تركيا، وفي ظل خطوط التماس الممتدة بين المدن الكردية في كل من العراق وسوريا وتركيا وإيران، وهو وضع كان من نتائج سايكس بيكو في بدايات القرن الماضي والتي لم تراع اعتبارات الانتشار القومي على جانبي الحدود بين هذه الدول، وهى الدول التي تحولت القضية الكردية بينها بفعل الثورة السورية من موضوع للتعاون إلى أداة للصراع.

4- الدعم الخارجي لنوازع الاستقلال الكردي:

ثمة اهتمام دولي من قبل العديد من الجماعات داخل الكونجرس الأمريكي، وفي بعض البلدان الأوروبية بدعم العلاقات مع الأقليات الكردية في بلدان المنطقة. وتعتبر هذه الجماعات أن للأكراد دورا أساسيا سيتعاظم في منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات المقبلة، وفي هذا الإطار ثمة روابط تتنامى بين أكراد سوريا والإدارة الأمريكية. وقد أشارت عدد من التقارير الغربية إلى أن واشنطن تبغي إسقاط نظام الأسد عبر توفير كافة أشكال الدعم الكردي لمواقف وسياسات المعارضة السورية، على أن يتوازى ذلك مع إقرار اللامركزية في مرحلة ما بعد الأسد، وعبر تعهد واشنطن للأحزاب الكردية بوضع كافة مطالبهم ضمن برامج أحزاب المعارضة، وفي الدستور الجديد وفق الخبرة المستقاة من التجربة العراقية.

هذا فيما أشارت بعض التقارير الصحفية في يونيو الماضي إلى أن السفير الأمريكي في دمشق روبرت فورد، وهو أحد أعضاء خلية الأزمة الأمريكية بشأن الثورة السورية، قد أكد في رسالة بعث بها للمعارضة الكردية أن باستطاعتها أن تجد الإطار السياسي الخاص بها ضمن قوى المعارضة السورية، من دون أن يعني ذلك ضرورة الانضمام للمجلس الوطني السوري . هذا فيما دعت الجالية الكردية بالخارج المجتمع الدولي من أجل تعميق العمل على إقامة منطقة آمنة في شمال سوريا لحماية الأكراد والأقليات الدينية، على أن تكون خالية من أي وجود عسكري إقليمي، مطالبين بإقامة شريط حدودي وبعمق 5 كم لحماية السكان المدنيين.

العوامل السابقة مجتمعة ساهمت في تأجيج القضية لكردية على نحو جعل منها موضوعا للصراع الإقليمي من شأنه أن يسيطر على مجمل التفاعلات الإقليمية خلال الفترة المقبلة بين كافة الأطراف المعنية بتطوراته وتوتراته.

ثانيا- القضية الكردية وأنماط التفاعلات الإقليمية:

أثر تصاعد القضية الكردية على طبيعة التفاعلات الإقليمية، حيث وظفت هذه القضية في إطار العلاقات المشتركة ووفق أنماط متباينة.

• “ورقة ضغط” .. الأكراد والعلاقات السورية – التركية:

لعبت سوريا دورا أساسيا في تطور عمليات حزب العمال الكردستاني حيال الأراضي والمصالح التركية، فبين عامي 1984 و1998 كانت سوريا الداعم الأكبر لمقاتلي الحزب وزعيمه عبد الله أوجلان، هذا إلى أن تحسنت العلاقات بين البلدين بوصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة. بيد أن مواقف الأخير من الثورة السورية قد دفعها إلى إعادة تبني مقاربتها القديمة حيال الحزب الكردستاني. ذلك من خلال غض الطرف عن فتح الحزب لعدد من المراكز التابعة له في عدد من المدن السورية. كما صدرت تصريحات من القيادة السورية تطالب تركيا بالإفراج عن عبد الله أوجلان. وقد تمثل التطور الأهم في هذا السياق في السماح للحزب بالتحرك بحرية على امتداد الحدود التركية مع مدن سوريا الكردية، والتي تمتد لمسافة تقدر بزهاء 400 كم. وقد اتجهت سوريا لتبني هذه الإستراتيجية كـ”ورقة ضغط” ضد تركيا وفق عدد من المحددات الأساسية، أهمها:

– أنها بحاجة إلى القوات السورية التي كانت موجودة في المدن الشمالية، وذلك لمواجهة تصاعد عمليات الجيش السوري الحر في المدن السورية الكبرى، لاسيما في العاصمة دمشق.
– معاقبة أردوغان على دعمه للمعارضة السورية وفتح مقرات لها داخل المدن التركية، ولتوفيره الدعم المادي والاستخباراتي والعسكري للجيش السوري الحر.
– إثناء المعارضة الكردية عن الانخراط في الاحتجاجات الشعبية الهادفة إلى إسقاط النظام السوري، والحيلولة دون توحد المعارضة الكردية مع بقية أطياف المعارضة السورية.
– التلويح لبعض دول الإقليم وبعض القوى الدولية أن النظام السوري لا يستبعد خيار تقسيم سوريا إلى ثلاث دويلات (علوية- سنية- كردية) كخيار أخير للبقاء حال استمرار الضغط السياسي والاقتصادي والعسكري عليه.

• “وسيلة للتفاهم”.. العلاقات التركية بإقليم شمال العراق:
في ظل تزايد مساحات التوتر والتباعد بين حكومة إقليم شمال العراق من جانب ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي من جانب آخر، لأسباب مختلفة تتعلق بسياسات الحكومة المركزية حيال القضايا الخاصة بالإقليم الشمالي، وفي ظل تباين المواقف حيال الثورة السورية. تبلور تقارب تركي مع أكراد العراق، وعلى وجه الخصوص مع الحزب الديمقراطي لكردستاني بقيادة مسعود بارزاني، انعكس ذلك في عدد من الزيارات المتبادلة عالية المستوى. وقد كان أخرها زيارة وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو إلى مدينة كركوك المتنازع عليها في إطار زيارته لإقليم شمال العراق في الثاني من أغسطس الماضي، بما سبب توتر غير مسبوق في العلاقات مع حكومة المالكي.

وعلى الرغم من أن حسابات أنقرة تختلف كليا عن حسابات بارزاني، غير أن الأخير استطاع أن يقنع أنقرة بأنه بات المفتاح المركزي للتعاطي مع تطورات القضية الكردية بالطرق السلمية. وترى أنقرة في هذا الإطار أن انفلات الأوضاع الأمنية والسياسية في سوريا دون أن تتمتع تركيا بالقدرة على التأثير في مسار التفاعلات السياسية في شمال سوريا، من شأنه أن يفضي إلى نشوء واقع كردي جديد، ليس في سوريا حسب وإنما في المنطقة برمتها. ذلك أن وضعا كهذا سيكون من تداعياته أن تحاط تركيا بشريط كردي يمتد من إيران لشمال العراق فسوريا وصولا لساحل المتوسط، لتبقى حدود تركيا الأكبر تمتد بمحاذاة مناطق ومدن كردية.

إستراتيجية بارزاني لجعل المسألة الكردية في سوريا وسيلة لتعميق التعاون بين الطرفين في مواجهة محور “المالكي – نجاد – الأسد”، كانت قد دفعت أردوغان إلى التصريح خلال زيارته لأربيل في مارس الماضي بأن “زمن إنكار الوجود الكردي قد انتهى” . ليؤكد بذلك أن تركيا باتت بدورها تستهدف مواجهة المحور المناهض لها بسبب مواقفها من الثورة السورية والمحيط بها جغرافيا على نحو مباشر، وذلك من خلال محور “تركيا- بارزاني- القائمة العراقية”، ومن خلال استضافة طارق الهاشمي نائب الرئيس العراق في تركيا، وتنسيق السياسات التركية حيال الثورة السورية مع الجامعة العربية، والعديد من الدول الخليجية على رأسها المملكة العربية السعودية. هذا في وقت يسعى فيه بارزاني للاستفادة من عوامل التفكك وحالة السيولة التي باتت تسيطر على المشهد الإقليمي من أجل تعزيز المكاسب السياسية التي تضمن رسوخ “المشروع الكردي” في معادلة التفاعلات والتحولات الإقليمية.

• “الصراع بالوكالة” ..العلاقات التركية مع إيران وسوريا والعراق:
الصراع بالوكالة يعد السمة الأساسية للتفاعلات الصراعية بين كل من تركيا وسوريا وإيران والعراق، فقد دعمت سوريا وإيران حزب العمال الكردستاني على مدى عقود خالية ضد الحكومات التركية التي اعتبرتها أنها موالية للغرب. وقد حاولت سوريا أن تجعل من حزب العمال وسيلة لجلب أنقرة إلى طاولة المفاوضات فيما يخص مطالبها بشأن لواء الإسكندرونة وتقاسم مياه نهر الفرات. هذا فيما دعمت إيران “الحزب” لتقويض النظام العلماني الديمقراطي في تركيا، هذا فيما وظفت إيران الأكراد أيضا كوسيلة للضغط على نظام صدام حسن في العراق.

وفي ظل العلاقات الودية التي جمعت القيادات الكردية مع تركيا قبل سقوط نظام صدام حسين، فقد دعم الحزب الديمقراطي الكردستاني تركيا في مواجهتها مع حزب العمال، هذا فيما سمحت تركيا للحزبين الكرديين الرئيسين في العراق (الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني) بفتح مكاتب لهما في أنقرة ومنحت قيادتيهما جوازات سفر دبلوماسية لتسهيل سفرهما للخارج.

هذا فيما تخلت سوريا عن دعم حزب العمال بعد تحسن العلاقات مع تركيا بعد توقيع “اتفاق آضنة” عام 1998 ووصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا. وقد تخلت إيران بدورها عن دعم الحزب ذاته بعد الموقف التركي الرافض لفتح جبهة شمالية لغزو العراق عبر الأراضي التركية في عام 2003، وذلك في إطار إستراتيجية إيران الهادفة إلى توثيق العلاقات مع أنقرة بعد أن أقلقها وقتذاك الوجود الأمريكي العسكري على جانبي حدودها في كل من العراق وأفغانستان. وقد ترتب على ذلك أن قامتا الدولتين بتأسيس لجنة مشتركة لتبادل المعلومات حول الحزب وقامتا بالتزامن بعمليات عسكرية تستهدف مواقع الحزب، على نحو دفعه إلى تأسيس فرع إيراني أطلق عليه “حزب الحياة الحرة الكردستاني”.

بيد أن خارطة التحالفات تبدلت بعد إقدام الحزب الديمقراطي على توثيق علاقاته بعد سقوط صدام مع الولايات المتحدة على حساب العلاقات مع تركيا، هذا بينما اتجه حزب الاتحاد الكردستاني لتوثيق العلاقات طهران. هذا في الوقت الذي اتجه فيه الحزب الديمقراطي لمد اتصالاته عبر الحدود المشتركة لبناء شبكات مع أكراد سوريا.

معهد العربية للدراسات والتدريب

اظهر المزيد

نشــــطاء الـرأي

نشــــــــطاء الـــرأي : كيان رمزي وخط إنساني لحرية الإنتقاد الثقافي و الفكري والسياسي ، بدعم مالي مستقل Organization for peace and liberty – OPL : www.opl-now.org

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: الموقع لا يسمح بالنسخ ، من فضلك انسخ رابط المقال وارسلة لمن يرغب
إغلاق
إغلاق