محمد سامي الكيال : نقد أيديولوجيا «الربيع العربي»
هي الخيبة ما أصاب تلك المنظومة المتكاملة من الأفكار والأحلام والتصورات التي رافقت الحراك الاجتماعي الكبير الذي هزّ العديد من المجتمعات العربية، وعُرف إعلامياً بـ»الربيع العربي». فأيديولوجيا «التغيير» و»الشارع» و»الحرية» و»المدنية»، كما سادت إعلامياً بقوة منذ ما يقارب العامين، انكسرت بشدة أمام واقع الثورات والحركة الاجتماعية، حتى بات الواقع الملموس هجيناً مُحبطاً بالنسبة للمثال الأيديولوجي، وغرق حالمو الماضي، الذين كان العالم كله يكاد لا يتسع لأحلامهم، بالتشاؤم والإحباط، بعد أن سقطت الصورة الرومانسية التي تشكلت في وجدانهم في معادلات المجتمع والتاريخ والسياسة، تلك المعادلات التي ربما لم تكن الصورة الرومانسية قابلة للحياة والوجود إلا على أساس إخفائها وإقصائها عن المشهد!
في الواقع «سقطت» الثورات العربية أيديولوجياً بعد أن فشلت بالوصول إلى ما يقارب «المثال» الذي رُسم لها، ولكنها استمرت بقوة وزخم شديدين اجتماعياً وسياسياً، وهي الآن تمضي في طريقها من دون أن تأبه كثيراً بخيبة الخائبين، فبات واضحاً أنها هي من اسقط الأيديولوجيا لحساب التاريخ… السؤال الذي يطرح نفسه بقوةٍ الآن: هل كانت أيديولوجيا «الربيع العربي» أيديولوجيا قابلة فعلاً للحياة، ولشحن الحراك الاجتماعي بما يلزمه من أفكار وتصورات؟ أم هي سقط متاع فكري غير محكم، كان من المحتّم أن تحطمه الثورات أثناء تقدمها وتطورها؟
في البداية علينا أن نحدد ماهية أيديولوجيا «الربيع العربي»، كي نمهّد للإجابة على هذه التساؤلات؛ يمكننا أن نلاحظ أساساً أن هذه الأيديولوجيا ليست أيديولوجيا مكتوبة، فما نُظِّر عن الثورات العربية كتابياً لا يرقى من حيث الكم والنوع إلى مستوى تأسيس أيديولوجيا متكاملة، كما أن مستوى تلقي الناس للأيديولوجيا المكتوبة في أيامنا لا يمكن أن يؤسس لخلق فكر قابل لتغطية حراك اجتماعي واسع. أيديولوجيا الربيع العربي بالأساس هي أيديولوجيا «إعلامية»، صيغت وروجت وانتشرت عبر وسائل الإعلام (الفضائيات الإخبارية أساساً)، وكان المادة الأساسية لها هي الصورة وليس الكلمة. الصورة الإعلامية المتقنة هي التي صاغت مجموعة متكاملة من الأفكار والرؤى والتصورات والمفاهيم والقيم عن «المجتمع» و»الثورة» و»الدولة» و»المؤسسات» و»الشعب»… ولعل الصورة- المثال الأيديولوجي الأصفى كان مشهد ميدان التحرير المصري، الذي يجتمع فيه مئات الآلاف من الناس من مختلف المنابت والفئات الاجتماعية بشكل سلمي وحضاري، يطالبون بالتغيير، من دون أن يقوموا بأي محاولة لكسر المنظومة المؤسساتية-الحياتية القائمة، بل وربما بمحاولة دائبة لعدم خرق القانون السائد بأي شكل من الأشكال؛ هنا نرى «الأمة» بأكملها تجتمع من دون تمييز بين فئاتها، لتغير «النظام» مع المحافظة على كيان «الدولة» و»مؤسساتها» والتمسك بهما، ولذلك استحقت تلك «الأمة» بنظر الكثيرين أن تحقق طموحها «الحضاري»، وبدعم من إحدى مؤسسات «الدولة الوطنية»، ونعني المؤسسة العسكرية!
كانت صورة جميلة سقطت سريعاً أمام تطورات الواقع المصري نفسه، إلا أنها تستحق أن ننقب فيها كثيراً للوصول إلى عمق المفاهيم التي تطرحها، والتي هي أساس أيديولوجيا الربيع العربي المجهضة، كما من المهم أن نقارنها بالصورة التي خلفتها أطول الثورات العربية وربما آخرها، أي الثورة السورية، الثورة التي اختفت فيها الصورة الواضحة للميدان الجامع لحساب صورة مشوشة عن زقاق ضيق يختفي فيه التنوع لحساب لون اجتماعي يكاد يكون وحيداً: مهمشون يملأون الأزقة براياتهم وأسلحتهم، يسقطون كل استقرار وكل قانون، ولا يبدأ التغيير لديهم إلا بتدمير السائد وتحطيمه.
المقارنة هنا مهمة لأنها توضح سقوط الأيديولوجيا- الصورة القديمة مع تقدم حركة الثورات، وتفسر لنا كثيراً من جوانب تهافتها، وربما تجعلنا نفهم أسباب الخيبة والمرارة التي وقعت فيها الكثير من «النخب» «الربيعية»، وخصوصاً في سورية! كما أنها تمكّننا من فهم تأثير تغيّر الحيز المكاني (من الميدان إلى الزقاق) في طبيعة الثورة وتوجهاتها. هو بحث في مضمارين: «الصورة» و»المكان» ودلالاتهما؛ الصورة كحامل للأيديولوجيا، والمكان كمؤشر على طبيعية الحراك الاجتماعي وعلاقته بالسلطة.
ميدان الدولة… أمة الميدان
إنها الأمة المصرية كما حلم بها سعد زغلول، في الميدان الذي يجمع بين سحر المتحف المصري وأهم مؤسسات الدولة التي تحمل رمز النسر الحكومي الصارم، هنا متسعٌ للجميع: للباشا والفلاح والعامل، وللشاب «المدني» (وهو الجديد الأبرز على المستوى الإعلامي)، فرغم كل الفساد والقهر ومحاولات التوريث، مازالت الدولة المصرية قادرة على احتضان «الأمة» وإعادة إنتاجها، ومازال لـ»المؤسسة» هيبتها وقدرتها على ضبط الأمور، ولولا ذلك لم يثق المصريون بالميدان، الحيز المكاني المؤسَّس والمصمَّم سلطوياً، ولم يغشوه شيباً وشباباً ليعتصموا به، رغم كل محاولات البلطجة التي قام بها النظام المتهاوي. وجاء العسكر ليحيطوا المشهد بعنايتهم ويثبتوا أن «المؤسسة» قادرة على حماية المجتمع من الفوضى والدمار.
غاية التغيير هي استبدال رأس الحكم الفاسد، وإيجاد قواعد أكثر ديموقراطية للتعبير السياسي وتداول السلطة، ضمن إطار الدولة المصرية القائم، بعد اجتثاث مواطن الفساد الكبرى منها. حامل التغيير هو «الشعب» بأكمله الذي تمت مطابقته مع الأمة. لا مجال هنا للحديث عن انقسام أو صراع اجتماعي، فـ»الجماعة الوطنية» تجد وحدتها في الدولة بعد دمقرطتها وتحريرها من النظام، لتصبح «دولة مدنية ديموقراطية». وهذه الدولة قادرة على تمرير كل خلاف اجتماعي داخل أقنيتها ومؤسساتها وإيجاد الحلول المناسبة له، طالما التزمت بمبادئها العليا في «الديموقراطية» و»المدنية» (أي معادلة الحرية والمواطنة). التغيير يجب أن يكون سلمياً بالضرورة، لأن الوسائل العنفية ستؤدي حتما إلى الفوضى وتفكك عرى «وحدة» المجتمع، كما أن التغيير العنيف سيؤدي أيضاً إلى تغير عنيف وجذري في حياة المجتمع وتوجهاته ونظامه وقيمه. وهو تأثير سلبي غير مرغوب به مادام المطلوب هو دمقرطة الدولة بالمجتمع، وتسيير المجتمع بالدولة لا أكثر.
الطموح إذاً هو الوصول إلى الشكل المثالي للدولة والمجتمع المطروح عالمياً، والمثال «الثوري» موجود وحاضر ومُنظّر له في كتيبات وكراريس الكترونية، تشبه «أدلّة المناضل» الذي كانت دور النشر السوفيتية تطبعها بكل اللغات. ولكن هذه المرة، المثال ليس الثورة البلشفية بل الثورات «الديموقراطية» التي يمتد تراثها من «ثورة القرنفل» البرتغالية، مروراً بـ»ثورات» دول أوربا الشرقية على الأنظمة الشمولية في أواخر الثمانينات، وصولاً إلى «الثورات البرتقالية» في العقد الأول من هذه الألفية.
في الواقع نجد في هذا التصور الأيديولوجي نظرةً سكونيةً وخارجيةً للمجتمع، تراه كـ»متحد وطني» -لا ندري كيف ومتى وأين نشأ، وعلى أية أسس يقوم، وإن كان وجوده بالأصل ممكناً في ظروفنا- انقساماته الأفقية والعمودية ليست أساسية في فهمه وتعريفه (وكل ما يشجع على الانقسام الاجتماعي مرفوض في عرف هذه الأيديولوجيا)، ولا تسيّره قواعد الصراع بين الفئات والقوى الاجتماعية، تاريخه وسياسته هما تاريخ وسياسة المجموع بوصفه جمهرة من الأفراد، وليس تاريخ وسياسية الكتل الاجتماعية المتحركة ضمن بنى اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية ديناميكية. هو التفكير الليبرالي العتيق ذاته بعد ترصيعه بمقولات «سوبر حداثية» عن مؤثرات «كونية» تحملها ثورة المعلومات المعلومة، في عصر باتت فيه «الديموقراطية» هي عقل العالم الذي تجاوز أخيراً هفواته الشمولية. الدولة هنا بمؤسساتها هي الحاضن والناظم لهذا المجتمع، والضامن الأساسي لبقائه واستمراره. هي ذاتها دولة كانط «المدنية» التي تؤمن التطور الأخلاقي والعقلي لكافة مواطنيها عبر مبدأي الحرية والمواطنة، وإن كانت هذه الدولة المنشودة ستكشف فيما بعد عن وجهها النيوليبرالي المتوحش، الذي لا علاقة له البتة بالأخلاق الكانطية! لا بأس، فهذا هو التوجه العالمي حالياً، ويبقى لبعض «اليساريين» المؤمنين بهذه الأيدولوجيا الحلم بنموذج برازيلي أو هندي لبلدانهم!
الميدان هو مكان تتجسد فيه السلطة والدولة بأبهى صورهما، عندما تذهب إلى الميدان فأنت تقصد الحيز العام الذي تملؤه الدولة-الأمة، وعندما تعتصم فيه بأدب مصراً على «التغيير السلمي» فأنت تنشد تغيراً في الدولة وليس تغيير الدولة، وبالتالي فأنت لا تريد تغييرا جذرياً في مجتمعك الذي تحكمه وتحدده الدولة، هكذا فقط يمكن للباشا أن يقف بود إلى جانب الفلاح، لأن «التغيير» سيحافظ عليهما باشا وفلاحاً، أي سيحافظ على وجودهما الاجتماعي كما هو. المشكلة فقط في شكل النظام السياسي… حسنٌ، لقد غيرنا النظام، ولكن لاشيء تغيّر فعلياً، فما زالت الدولة هي الدولة والمجتمع هو المجتمع، والأنكى من ذلك أن «الشعب» قد ثبُتَ أنه ليس «واحداً»، فهناك من ناسبه ما حدث ودعم القوى القديمة-الجديدة التي استلمت السلطة، وهناك من بقي مسحوقاً يرى أن أسيادنا في الجاهلية هم أسيادنا في الإسلام! والصراع يزداد اندلاعاً، و»الأمة المصرية» بدأت بالتفكك بين تناحرات فئات الشعب الذي لم يعد واحداً… القوى الأكثر وفاءاً لرومانسيات الثورة، اضطرت للانكفاء من ميدان «الأمة» إلى الاشتباكات في الشوارع الرئيسية، ولكنها ما زالت تؤمن بأيديولوجيا ربيع الميادين، وتنشد البقاء في قلب الأمة والدولة: الميادين والشوارع الرئيسية، وفيةً وحريصةً على تقاليد «ديمقراطية» الدولة… ربما ليست هي قوى التغيير الحقيقي، فتلك تختمر الآن في أزقة العشوائيات والأرياف المصرية، حيث قد يبدأ «شعب» مصر الأكثر تهميشاً الثورة المصرية الفعلية، فإذا كانت أيديولوجيا «الربيع» تناسب مصالح الفئات الوسطى وما يعلوها من فئات اجتماعية، التي تقدس «الدولة» و»الاستقرار» وفكرة «الأمة» و»الشعب الواحد»، وترغب بـ»التغيير» الذي بات حتمياً، ويناسبها أن تصبح أفكار «الربيع» دوغما مقدسة للثورات، بدعم من سطوة الإعلام، كي يحافظ الحراك الاجتماعي على «اتزانه» و»أخلاقياته»، فإن للمهمشين أساليب ورؤى ومصالح أخرى في التغيير، الذي يصبح على أيديهم دائماً جذرياً وحقيقياً.
ثورة الزقاق… شعب الأزقة
إلى سوريا، ذات البنية الاجتماعية والسلطوية شديدة التعقيد، انتقلت أيديولوجيا الربيع العربي، وكانت صورة الميدان المصري حاضرة بقوة في وجدان وعقول الجيل الأول من «النخب» الثورية: المهمة الأساسية هي ملء الساحات بجموع المواطنين الذين وحدتهم شعارات «الكرامة» و»الحرية»، وحذار ثم حذار من حديث الفرقة والانقسام، فالمجتمع السوري مجتمع «مُلغّم» بكل معنى الكلمة، وانفجاره قد يودي بكامل «الكيان الوطني». هل يمكن للدولة السورية، وهي دولة «الطغمة» بكل معنى الكلمة، التي تفتقد المؤسسة لحساب علاقات قوة مافيوية، أن تلعب دور الحاضن لنشأة أمة سورية جديدة؟ ألا يعني شعار «إسقاط النظام» الدعوة لإسقاط الدولة وانهيار كامل النظام الاجتماعي، الذي صاغه النظام على صورته ومثاله؟ حاولت «النخب» السورية أن تتمسك بأيديولوجيا الربيع العربي رغم كل هذه الأسئلة الممضة، ومن هنا يمكننا أن نفهم «الوعي الشقي» الذي عاشته طيلة الثورة، وما زالت تعيشه حتى يومنا هذا، حلم التغيير «السلمي الديموقراطي» لم يجد «الحيز العام» الذي يمكن أن يتحقق فيه وبه، فلا دولة ولا مؤسسة ولا مدينة في سورية بالشكل الذي تفترضه أيديولوجيا الربيع، و»الأمة» غير متبلورة حتى من الناحية الصورية. الناس لم يصلوا للميادين، ليس فقط بسبب عنف النظام (وهم قد وصلوها في حمص وحماة على كل حال) بل لأنه لا ميدان جامع للدولة- الأمة الممأسسة في سوريا. الميادين هي ميادين السلطة الطغموية وتقبع تحت سلطة العنف العاري للنظام. والمدينة السورية بساحاتها وشوارعها الرئيسية مصممة على مقاس النظام- السلطة، وكذلك «المجتمع المدني»، أي الفئة الوسطى المدينية المقولبة سلطوياً من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى الأخلاقية. الثورة لم تكن ممكنة في الحيز المكاني السلطوي، وموطنها الحتمي سيكون بعيداً عنه، في أزقة العشوائيات والأرياف البعيدة عن قبضة السلطة، أو بالأصح البعيدة عن كامل «الحضارة» التي تفترضها أيديولوجيا الربيع العربي «المدنية». انتصار الثورة يتطلب حتماً إسقاط النظام- الدولة، وتدمير النظام الاجتماعي المشتق منه، وتحطيم كل المؤسسات والبنى القائمة… المدينة بحيزها العام لا يمكن أن تثور وتنتفض من الداخل لتطهير الدولة- الأمة من الشوائب العالقة بها، بل ستُحتل احتلالاً من قبل القادمين من الأزقة ليسقط حيز السلطة- النظام تحت أقدام الثورة، التغيير سيكون عنيفاً وجذرياً وقاسياً حتماً، والمجتمع لن يستطيع الحفاظ على «وحدته»، التي لم تكن لتقوم لولا السلطة، بل ستمزقه الثورة بعنف بين فئات اجتماعية متناحرة… إذاً، إذا كانت إيديولوجيا «الربيع العربي» مجرد حلم رومانسي غير محكم اجتماعياً وسياسياً في مصر، فهي في سورية ليست أكثر من ميتافيزيقيا مثيرة للشفقة.
الصورة (التي لم تصبح بعد أيديولوجيا) التي خلفتها الثورة السورية هي صورة المهمشين الذين حرروا أزقتهم من ربقة السلطة وملأوها بصراخهم وتجمعاتهم ومقاتليهم. ومن الصعب أن يجد المؤمن بأيديولوجيا «الربيع العربي» فتوى «مدنية» تمكنه من تقبّل هذه الصورة، فأين الميدان والمدنية؟ ماذا حل بحلم «التغيير السلمي الديموقراطي» الذي سيحفظ الدولة والمجتمع، ويؤسس منهما «الدولة المدنية الديموقراطية»؟!
إذا حلّلنا الصورة السورية، فسنجد أن الثورة ليست ثورة الشعب- الأمة، بل هي ثورة «فئوية» بكل معنى الكلمة، ثورة مهمشين مكانها وموطنها لا يحضر إلا في جغرافيا التهميش: الأزقة الضيقة. ربما كانت هذه الفئة هي الفئة الأكبر بين السوريين، فالتهميش السوري ليس فقط تهميشاً اقتصادياً، بل هو تهميش اجتماعي وسياسي وثقافي وتنموي ومناطقي، هو كل تقاطعات منظومة الهيمنة والتحكم السلطوية التي تستلب السوريين أفراداً وجماعات ومجتمعات أهلية، وتمنعهم من إطلاق قدراتهم وتحديد حياتهم. قد لا يكون سكان الأزقة جياعاً وفقراء بالضرورة، ولكنهم مهمشون ومستلبون حتماً… هم ملح هذه الأرض، والثورة ثورتهم وحدهم. والبلد غرق وسيغرق في موجة كبرى من الصراع الاجتماعي الطاحن بين الفئات الاجتماعية المتضاربة المواقع والمصالح. ومع تقدم الثورة وتفاقم الصراع، ستستلم زمام المبادرة بشكل متزايد الفئات الأكثر تهميشاً وتجذراً في دعوى التغيير.
الثورة السورية حتّمت إدخال مفردات السياسة والتاريخ إلى أي تفكير جاد يسعى إلى تعقل ما يجري، فأيديولوجيا «الربيع» التي تحاول تمويه عوامل الصراع والانقسام الاجتماعي، ولا تلتفت إلى تعقيد أوضاع البنى الاجتماعية التي يعيش ضمنها البشر ويصنعون تاريخهم، ليست قادرة على إنتاج إي أداة معرفية مقبولة لتعقل حقائق الصراع الاجتماعي وفهمه والتنظير له.
لم تُسقط الثورة السورية أيديولوجيا «الربيع العربي» إلا لأنها ثورة اجتماعية جذرية بامتياز، بل ويمكننا القول أنها أول ثورة اجتماعية عربية حقيقية في العصر الحديث.
ديموقراطية الصورة… جنون الثورة
وقلنا سابقا أن الصورة التي أنتجتها الثورة السورية لم تتحول بعد إلى أيديولوجيا، والأدق أن نقول إنها لن تتحول أبداً إلى أيديولوجيا، فالثورة السورية هي ثورة «ضد أيديولوجية« رغم أنها أكثر ثورة عرفها التاريخ إنتاجاً للصور، ولذلك تفصيله:
تفترض نشأة الأيديولوجيا أولاً وجود «الحيز العام»، لا أيديولوجيا دون ميدان عام قادر على استيعاب الصراع على الهيمنة الفكرية والنفسية. الحيز العام السوري مصوغ على مقاس السلطة- الطغمة بشكل كامل، فـ»العام» و»الكلي» في سورية مطابق تماماً لـ»السلطوي»، فكان محتماً على الثورة، إن أرادت أن تكون، أن تمزق «الحيز العام»، وتقسّم البلد والزمن إلى بلدين وزمنين: بلد السلطة وزمنه، وبلد الثورة وزمنها. في الميدان الأخير خلقت الثورة حيزاً عاماً جديداً وثقافة وطنية جديدة بأساليب غير مألوفة، فلا بؤرة أو مركز للحيز العام الثوري، مواطن الثورة غرقت في «المحلية»zلتصل إلى «العمومية الوطنية»، وفي غياب المركز والمركزية غاب العقل المركزي وأشباهه، هناك فقط فضاء تواصلي شبه افتراضي، فيه فقط يتم التفاعل بين مختلف العقول والإرادات، ومن خلاله تتحقق إرادة الذكاء الجمعي لمجموع البشر المنخرطين في عملية التغيير… الثورة تمضي ببطء، تتعلم من أخطائها وتجاربها، تقع وتكبو ثم تبتكر الحلول، تغرق في جدل مختلف التيارات والأفكار والإرادات الداخلة فيها، تنفر من كل إدعاءات القيادة والسيطرة. تبتعد عن «الإِحكام» لمصلحة الأفاق المفتوحة التي لما تتشكل بعد. ويمكننا أن نلاحظ ديموقراطيتها في إنتاج الصورة، فكل ثائر سوري قادر على المشاركة في عملية التقاط الصورة ونشرها وترويجها وصياغتها. لقد فقدت الكاميرا الاحترافية التابعة لمركزية جهة إعلامية ما سطوتها واحتكارها لإنتاج الصورة وصياغتها، وبالتالي مركزيتها في صناعة الأيديولوجيا… الثورة السورية هي وجود مؤسِّس يرفض التجمد في ماهيات جامدة. إنها بيئة «ضد أيديولوجية«، وهي فعلاً أول ثورة حقيقية في شرط ما بعد الحداثة.
إنها ثورة مجنونة ومرعبة بالنسبة لكل هواة الاستقرار والتحديد الماهوي، ولكل أصحاب «العقل المركزي»، لا يمكننا التنبؤ بما سيحدث، لا يمكننا أن نعرف إلى أين يمضي كل هؤلاء البشر، ليس باستطاعتنا أن نصوغ قالباً أيديولوجياً جاهزاً لاستيعاب ما سيحدث والدعوة له، ليس بوسعنا أن نرشد الناس إلى «الممارسة الثورية الصحيحة»، ولا أحد سيسمعنا أصلاً، مفاهيم «الدولة» و»الأمة» و»الوطن» و»النخبة» و»المجتمع السوي» تتمزق بلا رحمة تحت أقدام هذا السديم البشري الهائل، إلى أين نحن ذاهبون؟ هذا هو السؤال الذي ينتحر بطرحه كل عقل مركزي، وتنفتح برفضه كل فضاءات الممكن، فلنتلمس الأفق ونعشه مع ملايين البشر الذين يصوغونه بفعلهم التاريخي؛ هنا تبرز ممكنات العقل السياسي والاجتماعي والتاريخي الجديد: العقل التواصلي.
قد يقول قائل إن السطور السالفة بأكملها هي محاولة للتنظير الأيديولوجي، والصحيح أن أي محاولة للتعقل الشامل هي محاولة أيديولوجية حتماً، ولكن قد يكون ما سلف هو «أيديولوجيا نقدية» لنقض السائد، لا لتجميد آفاق ما يتشكل في قوالب العقل المركزي وأيديولوجياه.
محمد سامي الكيال : كاتب سوري ــ المقال من نوافذ